حين رحلت.. حينما تصبح الكتابة فعل تعرٍ داخلي

حين رحلت .. حينما تصبح الكتابة فعل تعرٍ داخلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حينما نتكلم عن سهام مرضى وتحديداً في روايتها “حين رَحلت”، فنحن أمام نقلة نوعية على مستوى الخطاب والجرأة والنقد المجتمعي والديني لمجتمع مثل السعودية، مازال مجلس الشورى يناقش حصة الرياضة في مدارس البنات، هل يوافقون عليها أم لا؟!”

الرواية عبارة عن رسائل من ريم لحبيبها عبد الله الصحفي الليبرالي الذي سافر لأوروبا وهناك اختفى، وتفشل كل مساعيها في التوصل إليه، فتقرر نشر رسائلها إليه – التي كانت تكتبها ولا ترسلها – في هيئة كتاب، عله يصل ليديه يوماً، فيتلاقيا ثانية.

القصة مكررة، والأسلوب “أحلامي، لكن يكمن الفرق في الجرأة المفرطة، إنها الجرأة التي جعلت الكاتبة تقول في حوار لهارداً على تصنيف الرواية من الزاوية الجنسية: “من أراد أن ينزع الجنس من جسد الرواية، فعليه أن يبحث عن مكتبة في كوكب آخر“.

نلاحظ في كثيرٍ من الروايات السعودية سيطرة العالم الافتراضى على كتاباتهم واستغراقهم فيه بشكل كبير، ولذلك دلالة واضحة على انغلاق المجتمع الذي لا يسمح بالعلاقات الطبيعية السويةتقول عن ذلك المجتمع المزيف بأسمائه ووجوهه المستعارة:

“اعتدنا على سرقة كل شيء واختلاس كل متعة، فاحترفنا هذا النوع من الحياة وأصبحت لا تغرينا الحقيقة“.

الرواية صرخة نقدية بامتيازتجاه الأحوالالاقتصادية والسياسة والاجتماعية: 

“الفقر بات مخيفاً .. الطبقة المتوسطة تعرضت لزلزال هزها .. الأغنياء تضخموا .. البطالة سمة الأغلبية من الخريجين .. لعنة الاقتصاد الجديد، وتجاه الدين تارة أخرى:

 الفطرة تقول بأننا نحب الغناء، والدين يحرمه، الفطرة تقول بأن التزين والمبالغة فيه طبيعي، والدين يحيله إلى تقليد الغرب، الفطرة تقدس الجمال وتميل إليه، والدين يحفه بالفتنة وأنواع التأنيب والقمع، الفطرة تميل إلى تصوير ونحت وتمثيل ما يعتمل في داخلنا وما نحبه من أشياء،والدين يحرمها بتاتاً، الفطرة تكره العنف والقتل والكذب والسرقة والفساد وتقديس الذات ونبذ وتحقير الآخر، والدين يشك بنصيبنا من تلك الكراهية، فيعلمنا إياها بالعصا ويستطيع رجاله تفسير أي خلل من منظور شرعي

ولأن “الخضوع للتخلف والجمود مشاركة بائسة فيه،فقد قررت الكاتبة فضح رجال الدين الذين “يعتقدون أننا الأفضل ويبررون كل تأخر على أنه ابتلاء، ويربطون كل فشل بحسنة، ويلوون أعناق النصوص لتعضد أفكارهم، ويعدوننا كل يوم بنصر، فلا نرى سوى فشلاً مبيناً”، أولئك الذين “نسبح بحمدهم ليل نهار، هم وحدهم منيملكون حق التحدث باسم الله وتوضيح ماذا كان يريد أن يقول لنا”، هؤلاء الذين يمكنهم “أسلمة كل شيء بقدرة عجيبة” باستخدام “الخرافة التي يعضدها الإيمان“.

أيضاً تعج بالأسئلة الوجودية والمتمثلة في تساؤلات صديقها الملحد، ثم تساؤلها لنفسها عن حالة معاذ المٌقعد: “المظلومين بوجودهم، بهيأتهم الأولى، من هو المسئول عن ظلمهم، من يلومون تحديداً؟“.

الراوية/الروائية التي تؤمن بأن “الكتابة فعل تعر داخلي، وبأن “عليك أن تكون شجاعاً بشكل بالغ الجسارة لتتمكن من توليد نفسك بنفسك من رحم ميت“.، تقرر تعرية مجتمعها المزيف:

كئيب هو الوطن الذي لا طعم للحقيقة فيه،

المريض: “الناس هنا مولعون بتقديس جلاديهم .. شعب مازوخى بالكامل،

 الاستهلاكى، المنافق:  السيارة من لوثة الحداثة، نكاح طفلة من مظاهر المروءة وتنفيس الكرب، لم نعد نركب جمالاً، لكن ما زلنا بعقلية ذلك البدوي الأول”، “يمكن لشخص ما أن يتحدث لثلاث ساعات عن سيارته الجديدة، عن مسلسل درامي، عن أى شيء سوى الحقيقة“. ولذلك تُبرز أهمية الكتابة في تغيير المجتمعات: “نكتب لأنه لا بد يوماً ما أن تتحول كلماتنا وكتاباتنا إلى حقيقة”، “بالكتابة نمهد للتغيير“.

لريم طاقتا نور مشعتان أو فلنقل حلمين أساسيين تمثلا في ريما (لاحظ مقاربة اسمها مع اسم البطلة)، المذيعة المتحررة التي ترفض السطوة الدينية وتعتبر أن كل خراب العالم سببه الإسلاميينومعاذ، الشاب المعاق، التي تصفه قائلة: “معاذ حلمي الصغير الذي خلقته بنفسي .. الرجل البكر الذي يقدس الأنثى ويراها رحم الحياة وسواها الموت“.

لكن تُجهض الأحلام ولا يتبقى سوى الانتظار، فريما تتعرض لمحاولة اغتيال من قبل الإسلاميين الذين لا تتوانى عن فضحهم بقسوة من خلال برنامجها التليفزيوني، والذين حققوا ثروات طائلة من تضليل أجيال كاملة، يكرهونهم على كراهية الحياة وانتظار الآخرة، في حين أنهم ينهلون من الحياة ويتشبثون بها، في هيئة أرصدة بنكية، والزواج من قاصرات، .. الخ. أيضاً نلاحظ هنا إعاقة معاذ، الذي يعجز عن تحقيق الحدالأدنى من أبسط الأشياء لنفسه.

إنتابنى الكثير من الشك فى وجود هذا المعشوق، الذىأرى أنه مرسوم بشكل غامض، فمعالمه غير واضحة بالمرة على الرغم من عبارات الهيام والجوى المنتفخة بها الرواية، حتىأنهاتقول عنه: “كلما تراءيت لى ظننتك ماء، وحين آتى لا اجدك سوى بقايا ذكريات، أعيدها كل يوم علّها تبقى .. فمن المتعب أن ارجوك، أتوسل إليك حتى فى خيالى .. أن تبقى فى خيالى“.

وقبل أن نصل إلى حقيقة بشعة وهى تبخر كل الآمال فى رواية تلبس السوداوية رداءً حتى أنها كتبت فى الإهداء:

“الخيبات لا تُهدى

 نجد الراوية/ البطلة تقول: “أنا متأكدة أن مُعاذ حلمي الصغير سيكبر، يوماً ما سيكبر،يوماً ما لن يصبح سجنهم يتسع له، يوماً ما سيحطم غضبه، سجنه، وسينتصر“.

هناك نماذج عدة أرى أنه كان يمكن التركيز عليها بشكل أكبر كحسين الصديق الشيعى، وسالم الصديق الإسماعيلى الذى يدعى أنه الله، وموضى الفتاة الشاذة جنسياً، لكن كان التركيز ربما الوحيد على خلود، الجارة العاهرة التى كانت تضاجع كل يوم رجلاً ثم لا تجد غضاضة فى توسط إبنتيها لتلقى على مسامعهم دروس التقوى والصلاح، وتذهب لأمها لتصطحبها إلى الحرم! هذا التركيز سببه هو مشابهة تلك الشيزوفرينية لمجتمعها الذى تصفه البطلة قائلة: “عرفت كيف تحتال المدينة على كبتها وأجهزة الرقابة فيها، ومثاليتها المدعاة، أيقنت تماماً بأنها مجرد عاهرة ترتدى عباءة على الرأس وقفازين، وتصلى وهى على جنابة“.

ضبطت البطلة متلبسة مرة بالعنصرية حينما تكلمت عن “الأجانب العرب القادمين من الشام”، الذين “أخذوا منا جزءاً من وطننا” ! ومرةأخرى بالتناقض حينما لم تجد غضاضة فى تحرشات الرجال بـ ريما وعرضهم عليها المال مقابل الجنس: “لن استغرب تحرشاتهم .. الآخرين لا يستطيعون أن يكونوا ملائكة، فما كان من صديقتها إلا أن اتهمتها بالوهابية.

وكما جاء على لسان البطلة حينما انتقدت مجتمعها:”نملك فكر المرأة ولا فكر آخر“، وفى موضع آخر تقول: “الناس مرتابون من المرأة أكثر من سلاح نووى“،

فقد أُطّرَت الرواية بفكرة الصراع/السجال بين الرجل والمرأة لتصل بنا إلى هذه النتيجة:

“كلما أحكم عليها الخناق بقوانينه، زادته اختناقا بفتنتها، مع الأخذ في الاعتبار أنها كانت طوال الوقت تلصق السبق للرجل فى جسام الأحداث: “الرجل هو الذىجاء بالأديان، وهو الذى وضع قانون الأخلاق، وهو الذى وضع قانون التفكير، الرجل هو الذى صنع اللغة لأن آدم هو من علم المرأة والأحياء اسمائها“. فهل هو إنتقاص لاواعى من قدر المرأة بحصرجل قوتها فى إغرائها الأنثوى، أم أنه الحط من قدر الرجل الذى توصل لأرقى وأهم الأشياء حينما تدحضه القوة الناعمة للمرأة، فيقف مستسلماً لها، ناسياً كل شىء؟؟

مشهدان أعتبرهما عبقريان في هذه الرواية ككل، الأول حوارالداعية الشاب الذى أحب ريما والذى كشف فيه عن المافيا الدينية: ” وجدتنى مربوطاً بهذا الدرب من عنقى، التيار بات أقوى منى وأنا فرد واحد، لم يعد فى إمكانى التراجع، سيبيحون دمى، أنا كالعبيد، لا أقول إلا ما يقولونه، ولاأفتى دون الرجوع إليهم،استعبدت نفسى بنفسى، فوجدتهم أول من يورطنى فى الشبهات،  وحوار خلود مع ريم حينما بررت لها سلوكها الفصامى، فتتحدث عن نفسها بأنها عوملت كـ “كائن مجرم يقاس بما بين فخذيه” فقط لأنها حدث أن ولدت أنثى: “الرجال يوقعون ورقة ومبلغاً زهيداً من المال ويضمرون فى انفسهم نية الطلاق، يحصلون على متعة جديدة لمدة أسبوع، ثم ينتهى أجل الورقة، ويمضون ينفضون الغبار عن ضميرهم، ليس هناك فرق بين استمتاعى واستمتاعهم سوى ورقة خرقاء واحدة، أن يكون الفرق بين طهرهم وفجورى هو مجرد ورقة، فأنا أفضل ممارسة ذاتى بلا إثباتات، لتكتشف أنهم مجبرون لا مخيرونهو، يجبره الآخرون بإرهابه، وهى تجبرها عقدها، ثم تأتى البطلة لتؤكد وجهة النظر تلك: “يا للبائس حين يجالس بائساً مثلة .. كلنا مقعدون .. كلنا اختيرت لنا حياتنا مسبقاً“.

وعلى الرغم من أن خلود هى النموذج المغاير لهذا الشيخ، فهو عبد لما فٌرض عليه، أما هى  فأبت إلا أن تكسر قيود مجتمعها، لكن كانت أدواتها الخيانات المتكررة، هى فى واقع الحال لم تُعتق .. على العكس .. ظلت عبدة .. عبدة للنزوة .. لعقدها المجتمعية والنفسية، والدليل أنها لم تحظ بالسعادة .. لم تهنأ .. لا تزال مرارات الكون تسكنها .. لأنها ظلت فى قرارة نفسها تحتقروتنتقم من الرجالبأن تُخضعهم كما يخضعونها بقوانينهم ونظرتهم الدونية لها كامرأة.

هناك من عاش الموت، من رضخ لمرالانتظارمُمَنياً نفسه كما قالوا له بأن كل شىء مؤجل سيأتى في الحياة الآخرة، وبما أن الصمت والانتظار نوعان من أنواع الموت، فهناك، كما الراوية، مناختار الثورة على هذا الانتظار، من رفض أن يطول مقام جثته على الأرض وهى عاجزة عن الموت، فاختار المواجهة كي لا يصبح كائناً مؤجلاً يعيش الوهم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* كاتبة وروائية مصرية 

مقالات من نفس القسم