نوبل لـ “الزمن المُعلق”: رقصة الخراب الأخيرة في أدب لاسلو كراسناهوركاي

لاسلو
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

يُعد لاسلو كراسناهوركاي الحائز على نوبل في الآداب لهذا العام 2025 أيقونة “الأدب السوداوي” في المرحلة ما بعد الحداثية، لا لتيمة اليأس التي يتناولها وحسب، بل لكونه قدم شكلا سرديا يجسد هذا اليأس هيكلياً. فالرواية عند كراسناهوركاي ليست مجرد حكاية تروي الخراب، بل هي “خراب سردي” بحد ذاته. إنها محاولة لتشريح لحظة الركود الوجودي والاجتماعي التي تعيشها الذات في عالم استهلك وعود اليقدَم، لتتحول إلى وثيقة أدبية لمرحلة “ما بعد اليأس”.

تنبع خصوصية تجربته من لغته المتمردة، التي تتجلى في الجملة الطويلة المتشعبة التي لا تنتهي إلا بعد أن تكون قد حاصرت القارئ بدوائر من الإحالات والتفاصيل الجانبية. هذه الجملة، التي أُطلق عليها “الجملة الكراسناهوركارية”، ليست مجرد أسلوب؛ إنها بنية ميتافيزيقية تعكس الوجود المُعلق، زمن لا يبدأ ولا ينتهي، ورغبة مستحيلة في تجميع شتات عالم انهار، لكنه يرفض أن يكتمل في خرابه.

وإلى جانب هذا التهافت السردي، يجد الطابع الملحمي والبصري لأدب كراسناهوركاي شريكه المثالي في المخرج المجري الكبير بيلا تار. فقد اقتبس تار رواية “تانغو الخراب” في فيلمه “تانغو الشيطان” الممتد لسبع ساعات، كما اقتبس رواية “كآبة المقاومة” في فيلم “تناغمات فيركمايستير”. هذا التعاون الإبداعي لم يعزز شهرة كراسناهوركاي عالمياً فحسب، بل رسَّخ أعماله كـ “أعمال فنية مركبة” تتجاوز حدود النوع الأدبي وتؤكد طابع “روائي لنهاية العالم”.

الجملة: تجسيد للفوضى والركود

ومن حسن الحظ أن روايتيه السابقتين مُترجمتين للعربية، كآبة المقاومة وتانغو الخراب (ترجمة الحارث النبهان، دار التنوير)، تتجسد هذه الفلسفة اللغوية. إن الجملة المُتعرجة هي الأداة التي يعبّر بها كراسناهوركاي عن حالة الفوضى العارمة التي تجتاح عالمهما السردي، حالةٌ تدمج بين “اللامبالاة والاستياء العاجز”.

ففي كآبة المقاومة، يتضح أن الفوضى لم تعد استثناء، بل أصبحت هي القانون الحاكم. الجملة تتدفق لتنقل إدراك الشخصيات بانهيار المنظومة ككل، حيث:

«صارَتِ التَّوقعات الطبيعية العادِيَّةُ كُلُّها موضِعَ تَجَاهُل، وتعطَّلَتْ عادات المرء اليومية في ظل مناخ من الفوضى المضنية المنتشرة في كل حدب وصوب، تلك الفوضى التي جعلت المستقبل أمرًا يصعب توقعه، وجعلت الماضي أمرًا يصعب تذكره، وجعلت الحياة العاديَّةَ مِنْعَدِمَةَ النظام على نحو جعل الناس يفترضون أن من المحتمل حدوث أي شيء غير متوقع».

هذا التداعي، المُجسَّد في سلسلة الأوصاف الطويلة التي ترفض علامة الوقف، هو ما يحول الرواية إلى نموذج لفن ما بعد الحداثة، حيث لم يعد هناك مكان للوصول إلى حقيقة أو نظام. الزمن يُعلَّق، والسرد يتحول إلى رصد مضني لمظاهر التفسخ.

تانغو الخراب: دورة الكآبة الميكانيكية

بينما تُركز كآبة المقاومة على تجربة الجنون الجماعي والاحتجاج العقيم، تأتي تانغو الخراب لتؤكد على الطابع الدوري للانهيار، كرقصة التانغو التي تبدأ وتنتهي في نفس النقطة: الخراب.

تفتتح الرواية بمشهد يحدد الخلفية البصرية والمزاجية للعمل، وهي خلفية تتسم بالتحلل المادي واليأس الكامن: «كان ذلك قرب نهاية تشرين الأول قبل بدء سقوط القطرات الأولى، قطرات مطر الخريف الطويل المتواصل من غير هوادة، على التربة المتشققة المالحة في الجانب الغربي من المزرعة، في وقت لاحق، سيجعل بحر الطين الأصفر المنتن عبور الدروب سيراً على الأقدام شيئاً مستحيلاً…».

هذا الطين المُنتن ليس مجرد وصف لمزرعة مهجورة، بل هو جوهر العالم الكراسناهوركاري؛ عالمٌ غارق في مادته المتحللة، محكوم بالجمود، ومترنح بين انتظار المعجزة واليقين بفشلها. ولهذا، تتجسد الكآبة في الروايتين في صورة “النبي الكاذب” (مثل إرمياس في تانغو الخراب والحوت في كآبة المقاومة) الذي يعد بالخلاص أو المقاومة، ليتحول إلى آلية أخرى للسيطرة والوهم. هذا التحول هو صميم الأدب السوداوي: عدم وجود مخرج حقيقي، وكون كل محاولة للتغيير ما هي إلا تأكيد جديد على الحتمية القاتمة.

إطار ما بعد الحداثة وجمالية البقاء

يمكن النظر إلى أعمال كراسناهوركاي على أنها استجابة عميقة لحالة ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة التي أعقبت انهيار الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية.

إن الروائي، في استخدامه لـ “أدب البقاء”، يضع شخصياته في مواجهة قاسية مع واقعٍ يتطلب منهم التكيف مع ما تبقى من الانهيار. هذا العالم يُصور على أنه مكان: فيه كثيرٌ من العنف، وانعدام الثقة المتبادل، والتخوف.. مثيراً في بعض الأحيان صورة بلد محتل.

هذا التوصيف النقدي يُعضد الزاوية السوداوية: فكراسناهوركاي لا يصف ببساطة مجتمعات تعيش تحت حكم مستبد، بل يصف مجتمعات مُصابة بعدوى التفسخ في مرحلة ما بعد الأنظمة الكبرى، حيث تتنافس أنماط مختلفة من الناجين على البقايا، ما يولد عنفا وعدم ثقة يجعل الحياة منعدمة النظام بشكل دائم.

الأدب كشاهد على نهاية العالم

إن لاسلو كراسناهوركاي، من خلال تشابك جملته، وافتقاره لليقين، وبنائه المعماري للخراب، قدم أكثر من مجرد أدب؛ لقد قدم تشريحا دقيقا لوعي ما بعد الحداثة. نصوصه هي شهادات على “نهاية العالم” المستمرة، والتي لا تأتي بانفجار درامي، بل تتسلل عبر الجمود، والطين الأصفر المُنتن، وصيحات الحبور التي تليها ضحكات حانقة حائرة. إنه ذاته الروائي الناقد الذي كتب روايته باستخدام أدوات النقد نفسها: مُفككاً كل يقين، ومُعلقا كل حركة، ليبقى الأدب هو الساحة الوحيدة الباقية للتمسك بأي شيء لا يزال ملموسا في مملكة سوداوية تنحسر فيها المعاني.

مقالات من نفس القسم