“عابر على جسر” .. نجيب سرور شاعرٌ يكتب عن موته

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
قراءة لرواية "عابر على جسر" لـ عبير درويش

أفين حمو

لم أكن أقرأ رواية. كنتُ أتعثر داخل جرح، أركض في ذاكرة لا تخصّني، وأرتجف مع كل عبارة كأن نجيب سرور يتنفس بين الصفحات. رواية “عابر على جسر” للروائية عبير درويش، لا تُفتح كما تُفتح الكتب، بل تُرتجُّ كما تُفتح أبواب العيادات النفسية: بحذر، وبوجع.

هناك أشياء كثيرة يا هوراشيو، بين السماء والأرض، تفوق حلم فلسفتك.”

بهذه الجملة التي تسيل من فم هاملت، تبدأ الرواية، وكأنها تُنذر القارئ: هنا، لا منطق. هنا، حيث تتكسر الكلمات على لسان شاعرٍ يُحاول أن يكتب موتَه.

نجيب سرور لا يعود في الرواية كشخصية فنية، ولا حتى كرمز. يعود كظلٍ يُلحق بجسده، كأنفاسٍ تتصاعد من مشفى لا يعرف إن كان باب خروجٍ أم بابَ عودة إلى القبر.

قطعة حلوى بالنعناع في فمه، وصرخة في رأسه: “دفنوني!”. من هنا يبدأ كل شيء. لا بداية لينة. فقط صدمة، وسيرة تمشي على عكّاز الذهول

نجيب سرور، الطفل الذي أُهدي للفقر فطيرًا بالسكر، ينجو من حكم الطبيب بفضل جدّته، لكنه لا ينجو من الجوع الذي يتغذّى على طفولته. البيت القماشي، الضوء المتسلّل من رقعة في السقف، وصوت والده وهو يقول: “إن الكلمة هي أول ثورة لا بل الأعظم وأنها تعلو وتصعد فوق اي سياج وتبول على رؤوس الحراس “

كل هذه الصور ليست سردًا، بل طعنات تقفز من الماضي إلى صدر القارئ.

تتنقل الرواية بين لحظات كاشفة، تجعل من نجيب سرور نموذجًا لإنسان مصري قُدّت ملامحه من الطين والفكر والخذلان. من بورسعيد التي كتب لها أن تكون قصيدة تترنم بها الحناجر، إلى موسكو التي سمع فيها وقع القبضات وهي تطرق صدور المنفيين، يبدو نجيب سرور كما لو أنه يتنقل فوق جسر هشّ، كل خطوة عليه تهدد بالانهيار.

وهو فوق الجسر، لا يتوقف عن السؤال:

ترى، متى يصبح للإنسان ذاكرة؟

لكنه لا ينتظر إجابة. فالذاكرة ليست حافظة للتفاصيل، بل لعنة على صاحبها، وهو يحملها كمن يحمل وطنًا في حقيبة ثقيلة.

في هذا النص، تحوّل عبير درويش شخصية نجيب سرور من اسم في كتب الأدب والمسرح (ياسين وبهية)و(بروتوكولات حكماء ريش) إلى كائن إنساني هشّ، موجوع، يهرب من المدرسة إلى السينما، ومن الحزب إلى القصيدة، ومن الواقع إلى امرأة روسية. كل امرأة، كل صديق، كل خطاب، كل قَصيدة، ليست سوى محاولة لفهم السؤال الكبير: لماذا هذا الجرح لا يلتئم؟

الرواية لا تُجمّل نجيب سرور، بل تجرده. نراه يصرخ، يلعن، يتهم، يتوهّم، يُصاب بجنون، يحاول أن يحيا، لكنه في النهاية، يحيا كشاعر: أي كغريب في وطنه، وغريب في جسده، وغريب حتى في ذاكرته.

نحن لا نتابع نجيب كشخص، بل كـ”ذاكرة تنهار بصوت عالٍ”.

لا يتنقّل كرحالة، بل كجثة تبحث عن مأوى.

يكتب للثورة، عبر ديوانه (عن الوطن والمنفى)و (لزوم ما يلزم ) فيصفقون له، ثم يُحاصرونه (الحكم قبل المداولة) ومسرحيتي (الكلمات المتقاطعة والكلمات المتقاطعة جدا)في ذلك التوقيت بالذات نشر عبدالمعطي حجازي مقال نشر على صفحات روز اليوسف عنوانه انقذوا نجيب سرور من الضياع..

كانوا هناك. يكتبون معه، يشربون معه، يتهامسون عن الغد وهم يعرفون أنه لن يأتي. زكريا الحجاوي الذي اعتبره كوالده وصلاح عبد الصبور، أمل دنقل،بهاء طاهر ،نجيب محفوظ ،عبد الرحمن الأبنودي، محمود أمين العالم، يوسف إدريس، سيد حجاب… وكلهم مرّوا في حياته، بأطياف مختلفة من الود والخذلان، بالاحتفاء والإنكار، بالنقاش العنيف أو الصمت الأكثر عنفًا. لكن هناك من بقوا معه حتى النهاية، جلال الشرقاوي، الذي كان أستاذًا وصديقًا، وكرم المطاوع وسميحة ايوب لم يكن نجيب سرور “الصديق المثالي” في نظر المؤسسة، لكنه كان الرفيق الذي يعرّي الموهبة ويكشف الأقنعة. ولذلك كان مرعبًا. ولذلك أدار كثيرون ظهورهم حين بدأت ملامحه تتشظّى في شوارع العباسية.

في كل مشهد، يحمل على ظهره حقيبة من أسئلة لا تُجاب:

لماذا لا يُشفى الإنسان من وطنه؟

لماذا تبدو الذكريات كأظافر تغوص في الروح؟

لماذا تشبه الكتابة الكفن؟

الرواية، بأسلوبها، لا تهمس. هي تصرخ.

اللغة ليست شعرًا ولا نثرًا، بل مزيج من المرايا المكسورة.

مرةً تُدهشك بعذوبة مشهد صغير، ومرةً تُسقطك في حفرةٍ من هلوسات نجيب.

عبير لا تُجمل الجنون، بل تضعه في حضنك، وتدعوك لتقاسمه خبز الخذلان.

نجيب سرور في الرواية ليس شاهدًا فقط، بل شاهدٌ وشهيد. تتناول الكاتبة بهدوء كيف تأثر نجيب سرور بالتحولات السياسية الكبرى في مصر، مثل تأميم قناة السويس، وثورة 1952، وتغيير الأنظمة السياسية التي ألقت بظلالها على شخصيته. يمر نجيب سرور بأزمة داخلية عميقة إثر هذه التغيرات، ويواجه قسوة النظام وسلبيات المجتمع الذي يعيشه. كما تتناول الرواية جوانب من تأثير هذه التحولات على علاقته بالأشخاص من حوله، بدءًا من أسرته وصولًا إلى رفاقه في الحزب الشيوعي.
هو الذي كتب للناس، فنسوه.
هو الذي صرخ، فسجلوه كمريض نفسي وادخلوه مشفى المجانين وهو يصرخ ويستغيث ويقول :انا نجيب سرور يا ولاد الكلب
هو الذي أراد وطنًا لا يعتقل الكلمات، فحصل على وطنٍ يعتقل صوته، ثم رأسه، ثم اسمه فقال :

صبرت ياما ولا ايوب ولا غيره ،

يارب افرجها بس احميني م التعريص

وتمر ليام اقول الجوع ده من خيره

،وبكرة تفرج وبس ما اكونش م البلاليص

لم تقدم عبير درويش نجيب سرور كمصلوب على خشبة الشعر، بل كشبح يمرّ من تحت جسرنا كل يوم.ينظر إلينا ويسأل:

“هل الوطن هو المكان الذي نُدفن فيه؟ أم الذي يُدفن فينا؟

في عام 1977بدات الحشود تخرج الى الشوارع حتى امتدت النيران اقسام الشرطة لكن السادات بدا يضرب بيد من حديد وبدا يقبض على الشوعيين،يوم راى السادات على شاشة التلفاز وهو يصافح مناحم بيجين في زيارته لاسرائيل .

يقول يومها :خرجت الى الشارع كما اتت بي امي روحية الى الدنيا وكنت لا ازال اشعر ان النار تمسك بجسدي ورحت اصرخ أااااه.

البيئة؟ لا، ليست بيئة. هي مسرحٌ بدون كواليس.

مصر ليست خريطة، بل ذاكرة جائعة.

موسكو ليست باردة، بل بعيدة عن الحنان.

المنفى في الرواية ليس مكانًا، بل شعور يتسلل حتى إلى بطانة القلب.

النساء: لم يكن حبّ، بل احتمالات نجاة.

الأصدقاء:كانوا  مرايا تتكسّر حين نحتاجها.

نجيب بينهم، لا يسكن أحدًا. هو دائم الهرب. من نفسه، من ذاكرته، من شعره، من اللغة.

تتميز رواية عبير درويش باستخدام أسلوب أدبي يخلط بين السرد البسيط واللغة الشعرية. يتنقل النص بين الفلسفة العميقة والتجربة الشخصية، ما يخلق جواً مليئاً بالتوترات الداخلية. تعتمد الكاتبة على المجازات والتشبيهات الشعرية في تصوير الشخصيات والأحداث، مما يضفي على النص طابعًا فلسفيًا يجعل القارئ يعيش مع بطل الرواية كل لحظة. لغتها العميقة تؤدي دورًا هامًا في إيصال المشاعر المضطربة للصراع الداخلي، كما أن التصوير الأدبي للمشاهد يعكس صراع الذاكرة بين الماضي والحاضر.

الرواية تُغلق عليك الباب، ثم تُطفئ الضوء.

لا تُعطيك خلاصًا، بل تمنحك مرآة، وتقول: انظر.

في النهاية، تتركك الرواية على الجسر.

لا في أول الحكاية، ولا في نهايتها.

تمامًا كما تركت نجيب: معلقًا بين أرضٍ لا تحمله، وسماءٍ لا تفتحه.

وهنا، تسمعه يهمس إليك، أنت تحديدًا:

“لايهم فقد أمست الحياة بلا معنى وسقط الجدار الذي بيني وبينى والأجدى أن أسعى إلى النجاة منها .. الأجدى أن أعبر الجسر”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية صادرة عن دار روافد 2025
شاعرة وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم