تثير هذه الرواية أسئلة حول السيرة الذاتية المغلفة بالتخييل، وحول مقدار سيرة الكاتب في نصه، وعن الكتابة بوصفها عملية للبحث عن شريك (قارئ). بل الأهم هو الوصف الضمني للكتابة منقذا من الضياع في غابة الخوف، أو أنها طريقة للشفاء، وبابا للتخلص من الأعباء وكشفا للذات قبل كشف العالم. وهي رواية عفوية في استنطاق حكاية غامضة في سطحها، لكنها ليست كذلك في طبقاتها الجوانية، تنطوي على تعاضد العدالة مع الأدب، لابتكار طريقة اخرى للحصول على التعويض.
في كتابه “جماليات المكان”، يتحدث باشلار عن البيت بوصفه الكون الأول، وأن سبب ارتباطنا به هو الألفة، بمعنى أن البيت في الأساس – حسب باشلار – ظاهرة نفسية وليس الجدران أو الديكورات أو الفخامة الخارجية. لكن البيت الذي شيدته إيمان جبل في روايتها لعبة البيت كان خارج هذا الشرط؛ إنه معمار مغلق يشبه السجن، تنشط فيه فكرتا المراقبة والمعاقبة حسب تعبير فوكو. معمار ليس فيه من البيت سوى الجدران والسقوف التي تحجب السماء عن السكان. بينما غياب التآلف هو التهديد الدائم لفكرة البيت،
ليلى، الشخصية الأساسية في النص، الشابة المحبوسة في فكرة الإيمان بالجذور العائلية ومسؤولية الفرد الذي يجب أن يذوب في فكرة الجماعة، الخائفة من الضياع خارج المكان حتى لو كان المكان سجنا، هي شخصية مقهورة بسبب تسلط الأم، تفشل في استيعاب فكرة الحرية التي تتراكم في الداخل مثل ثمار متعفنة، فتصير حياتها إسفنجة تمتص مظاهر القهر والكراهية في بيت العائلة، البيت الذي يتجمد مع الزمن فيصير مجرد قبر بارد.، او زمنا ساكنا يحتاج الى مايشبه الفيضان الذي يطمس كل شيء.
الأم أيضا محبوسة في ذكرى حب ضائع وكراهية الأب الذي سلبها حقها في العيش الذي تتمناه، والأب أيضا مسجون في أنانيته وشهواته وإحساسه بأنه مخدوع عاطفيا وغير مرغوب فيه، والأخ مسجون في انتهازيته ولا مبالاته بالآخرين، وابنة الأخ، تلك الشيطانة التي نسجتها شروط افتقادها للعاطفة، مسجونة في ألاعيبها التي قادتها في النهاية إلى التعري بوصفها كائنا لزجا يتغذى على ألم وخسائر الآخرين. إنه بيت في النهاية يفتقد للألفة والاجتماع.
لكن رواية لعبة البيت هي، في الأساس، لعبة الكتابة التي تناهض حضور الجدران المغلقة. ولم تتحرر ليلى من سجنها إلا بكتابة روايتها، باعترافها وبانتقامها ربما من البيت، باستبداله بالخيال بوصفه شرطا لحريتها، التي تقودها في النهاية إلى البيت الحقيقي الذي حلمت به، بيت الحبيب حتى ولو بعد عشرين عاما من النفي.
وتشيد إيمان جبل روايتها على مادة أساسها: الخوف، وسلطة الفخامة المعمارية والطبقية، والضغط النفسي الذي تسلطه عراقة الجذور على سكان البيت، حتى يتحول إلى جدران بلا أبواب أو شبابيك. إنه البيت الفخم الذي تقطنه عائلة عريقة من ستة أفراد، أو ستة سجناء يجدون أنفسهم في اختبار، يعالج كل منهم فيه طريقة عيشه، وعلاقته بنفسه وبالآخرين بل وبالعالم.
والقارئ لهذا النص سوف ينسحب بسلاسة ليجد نفسه شاهدا على افتقاد المكان للعاطفة. هناك الذكريات الجارحة، والعقد النفسية، والأحلام المقتولة. وتبدأ اللعبة حين تجد ماتيلد، ابنة الأخ، نفسها محبوسة في غرفة بلا باب أو نافذة. في الزاوية سرير صغير، وهناك كرسي ومنضدة عليها سكين، وخمس تفاحات. الإضاءة مصنوعة بتقنية غريبة. على المنضدة قلم وأوراق، ثم يجيء صوت العمة ليلى من مكان ما خارج الغرفة، يطلب من السجينة أن تكتب رواية، وأن العمة هي من تبدأ الحكي أو الاعتراف، بينما تقوم ابنة الأخ بعملية التدوين لمدة خمسة أيام، بل والاستماع إلى الحقيقة، وهذا هو شرط حريتها.
إنها الغرفة نفسها التي كانت سجنا للعمة لمرات عديدة، والتي تفكك في النهاية من خلال الحكي سيرة ثلاثة أجيال مصابين بلعنة القهر، والخوف، والأنانية، والكراهية، والذكريات الأليمة.
وتبدو ليلى، وهي تطلب من ماتيلد الكتابة، معبرة عن فشلها في الخلاص من سجنها. أرادت أن تتحول إلى راوٍ، كائن ورقي، كما فعلت في الفصل ما قبل الأخير، حين أنشأت تجمعا لصديقاتها أسمته نادي الفواجع السري، وهو نادٍ للمواساة كطريقة للشفاء من الذكرى الأليمة عن طريق الحكي. والذي لم تستطع ليلى قول شيء فيه، سوى أنها استبدلت سيرة البيت، بسيرة أخرى حلمية، قلبت الأحداث، ورسمت الشخصيات كما كانت تتمنى، أو تحلم. البيت الذي قال عنه باشلار: كوننا الأول، والذي لا يمكن العيش عندما يتحول إلى سجن محكوم بشروط المراقبة والمعاقبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرواية صادرة عن دار دوّن 2023
الرواية صادرة عن دار دوّن 2023