دينا شحاتة
لمح طيف شعرها في عمق البحر فحَسِبهَا تغرق.
خلع جلبابه الأبيض، ورماه فوق الرمل سابحًا تجاهها، ففزعت لمرآه، فغاصت في الماء عميقًا، حتى تلاشى أثرُها، فأقسم ليلتها للرجال فوق المركاز، والرمل لم يزَل بين ثنايا جلبابه أنه رأى عروس البحر. لم يتخيّل عقله قط أنه نظر لأجمل امرأة في جِدَّة، امرأة ودَّت عروس البحر لو تحوز بهاءَها. رأى سيدتي وِدّ.
هذا هو جدُّك: محمد الأكبر الولد الوحيد لبدر، بدر الابن الأصغر لكبير عائلتك أصيل. ولكونه ولد وحيدا زاد دلاله من قبل أمه السيدة سُليمة- سامحها اللـه- فلم يعمل بالبناء كأبيه وجده، بل جذبته حياةُ البحر والصيد.
في صِغَره اعتاد الوقوف من الصباح حتى غروب الشمس، بالقرب من رصيف ميناء جدة، مراقبًا القوارب الصغيرة التي تُسمى السّاي، بينما تنقل الشحنات من السفن الكبيرة، التي تبعد ميلين عن الشاطئ، مُمنيًا نفسه أن يصبح بحَّارًا أسطوريًا، يجوب البحار والأنهار، فانتهى به الحال لضياع وِدّ من بين يديه، وقارب صغير للصيد.
صمتت الروشان فجأة، ولم أنَل من الحكاية سوى المقدمة، فسألتها أن تكمل، فأجابت: “أعذرني لا أتقن الحكي كما حدث، أحكى كما يليق بذاكرة خَرِبة”.
وِد ابنة سعيد الخرجي، كان والدها عاملًا بالميناء يساعد في نقل البضائع من الساي، وتوصيلها إلى التجار في سوق العلوي، وسوق العطارين. عائلة فقيرة من ثمانية أفراد، كانت ود رقم ستة من الأبناء المتنوعين بين ذكورٍ وإناث. ولم تكن بطبيعة الحال التي يفترضها الفقر، وصعوبة العيش، طفلةً مُدلَّلة، بل يمكن القول إن الحياة صنعتها بطريقةٍ ما، حياة البحر بشكلٍ خاص، احترفت من صغرها السير فوق رمال الشاطئ، واللعب في الميناء، ترى السفن والقوارب، وتحلم أن يتزوجها قبطان ذو سفينة عظيمة، ويُبحر بها بعيدًا، حيث الحياة أكثر ترفًا وبهجة فتلاقى حُلمها الطفولي بالزواج من قبطان، مع حلم محمد بالارتباط بعروس البحر. تزوَّجا زواجًا مبنيًا على أوهام لا حقيقة فيها فتهاوى كل شيء.
أنهت الروشان قولها، فرجوتُها أن تكمل الحكاية بشيٍء من التفصيل، فسمعتُ صوت خشخشة كاحتكاك الخشب، فخشيتُ غضبها، لكن العكس حدث قائلة: “أضحكتني يا أصيل، أُخرّب عليك الحكاية دومًا بالقفز إلى النهاية”. سأحاول مُجدّدًا، سأخبرك كيف تلاقيا مرةً أخرى بعدما غاب أثرها في البحر؟ لكن قبل هذا غنّ لي أغنية يا أصيل.
ضحكتُ:
- صوتي بَشِع.
- يكفي أن تغني أغنية تحبها ليصبح مُنغَّ ما.
- لا أحفظ أغاني.
- حاول.
تنحنحت، وقد جال في خاطري غنوة سمعتُها بالأمس، فأرجعتني إلى ورد، ومطربتها المفضلة وردة:
“اه لو قابلتك من زمان…. كانت حياتي أتغيرت
ولا كان جرى كل اللي كان…. لكن دي قسمة إتقدّرت”.
بهت صوتي تأثرًا وحنينًا لورد، كأنها المرة الأولى التي أنتبه فيها لكلمات أغنية طالما غرَّدت بها. ارتميتُ أرضًا، ساندًا ظهري على الحائط المائل خلفي، فلم أدرك حبها، مكتفيًا بإدراكٍ ناقص لم أُرِد إكماله عمدًا، أننا مجرد أصدقاء مقربين جمعتنا الأحزان والغربة.
ردت الروشان ولم يزَل في صوتها سحرٌ من أثر الغناء: تلك أغنية ليلي هانم.
نهضتُ فزعًا كأنما لدغني عقرب: ليلي..أمي، هل تعرفينها، قُصّي لي حكايتها أرجوكِ.
_لستُ أفضل من يحكي لك عنها، سأكمل حكاية ود ومحمد الأكبر، فربما نجد مَن يمتلئ بالحديث، فيفيض علينا بحكاية ليلي هانم ووالدك عبد السلام”.
أضافت: تتابعُ الكلام يجبر الجميع على مشاركة حكاياتهم يا أصيل.
بيأس دون حماس سألتها أن تكمل فانطلقت
ما حدث أن محمد الأكبر بات ثلاث ليالٍ فوق الشط، لم يبرحه، حتى تهادَى إليه في تمام الليلة الثالثة صوت الموج مختلطًا بصوت الجنة أو هكذا هُيّئ له. كان صوتها نغم البحر عندما يكون رائقًا فيبعث في النفس النشوة والشجن معًا؛ ولكون محمد الأكبر قد أرهقته ليالي السهر والانتظار، بعث صوتها في روحه شيئًا من الجنون أمدّه بالجرأة، ركض نحوها فلم تقدر على فزعها من الهرب، فلما رأى بهاء وجهها سكن، كل شيء فيه سكن، حتى أنه ذكر لها بعد سنوات، في ساعات الصفا بينهما، أنه شعر أن قلبه هدأ لدرجة أنه توقف عن النبض، وأنها لو لم تفزع مُلَملمَة شتاتَ نفسها، لفرّت روحه إلى بارئها.
تتبَّع محمد الأكبر وقتها سيرها، وعرف اسمها، وبيت عائلتها، وأقسم أن ود ستكون امرأته لا محالة، وتنامى في قلبه رغبتّه الحارقة في كونه بحّارًا يليق بود.
كشف محمد لأمّه عن رغبته في شراء قارب كبير كالدَّهو، وكان وقتها فتًي لم يبلغ بعد السابعة عشر من عمره، وقد كانت القوارب تُسمّى حسب أحجامها من السَّاى حتى السموك والدهو وكان الدهو أكبرها من جهة الحجم، ولما تحدثت سليمة إلى بدر، وكان رجلًا صارمًا حادَّ الطباع، برغبة ولده في شراء قارب، رفض بشدة؛ خوفا على ولده الوحيد الذي أكرمه اللـه به، بعد أن تعدا الأربعين، وصار كهلًا، وزاد ذلك الرفض من عناد محمد.
استاء بدر لذلك الأمر أشد الاستياء من ولده الطائش الذي سيضيّع أرث العائلة بلا فائدة، وحلَّت على رأسه الكوارث، ولاحقته الكوابيس، فلم يَذُق طعم النوم رغم جهود سُليمة في قراءة القرآن فوق رأسه كل ليلة، واستحمامه بماء زمزم الذي جلبه له ابن أخيه سعد من مكّة.
لم تزُل عنه الكوابيس سوى بعد زيارة أخته خديجة له، أصغر أخواته البنات، وأقربهن إلى قلبه، ولم يبعدها عنه سوي زواجها في مَكّة. فلما وصلت إليها أخبار أخيها، استأذنت زوجها في زيارته، وكان رجلًا شريفاً، فأذن لها، وما أن وصلت حتى وجدت بدرًا وقد شحب وجهه، وتعكّر مزاجه، وضعُف جسده من قلّة النوم، وحمل الهموم، مازحته أنه في عمر ولده كانت له تلك الرغبة في الإبحار بعيدًا، غير أنه خشي والده أصيل، وأذعن لأمره للعمل في البناء وتشييد البيوت ثم تابعت كلامها قائلة: “ابنُك شجاع، أقبل طلبه، وأذعن لرغبته تهجرك الأحلام”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية .. الرواية تصدر عن دار العين ..معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025