عبد المطلب.. سلطان الموال .. من كتاب “مصر الفنانة”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
من النادر أن يصل مطرب إلى قدرته في التعبير عن أدق وأعذب الأحاسيس، لدرجة أن جملته "أفوت على بيت الحبيب.. أقول جريح يا أهل الهوى" من أعذب وأرق الجمل في تاريخ الغناء العربي.. وهي لحن محمد فوزي.. ومهما استمع إليه المرء لا يمل من تكرارها إلى ما لا نهاية.

لا أعرف أصول محمد عبد المطلب (1910 – 1980) “أبو نور” لكن بالنظر إلى لقبه “الأحمر” ومكان ولادته في البحيرة، وحتى اسمه بالظلال النبوية الهاشمية. فغير مستبعد أن تكون له جذور عربية أصيلة.

يملك هذا الصوت الفلاحي العفي الخشن، لدرجة تجعلك لا تتصور أنه بهذا الصوت يصلح مطربًا، بل راعٍ لأبقار. صوت يشبهنا نحن الفلاحين أبناء الأرض والنيل. ليس مصقولًا ولامعًا مثل صوت عبد الوهاب، ولا حنونًا لينًا مثل صوت عبد الحليم.

صوت رجل، ذكر، خشن، مضاد لكل الأصوات الرومانسية الميالة إلى “الخنثوية”. هذه الخشونة، غير المصقولة، تشبه جذوع شجر التوت والسرو. تشبه صرير خشب السواقي. إنها أقرب إلى الأصوات الرجالية الخشنة، مثل نصري شمس الدين في لبنان، أو فهد بلان في سوريا.

تربى على تلاوة وحفظ القرآن الكريم وإقامة الآذان، ولم يكمل تعليمه اكتفاء بالمدرسة القرآنية التي صقلت حنجرته ولمّعت حروفه.

إلى القاهرة

هبط على القاهرة الجبارة وفتحها فتحًا عظيمًا، فما رآه مطرب فيها كبيرًا أو صغيرًا إلا وأعجب به. وقف له الأكابر من عبد الوهاب إلى أم كلثوم إلى فوزي احترامًا وتعظيمًا.

كان لحسن حظه أنه تتلمذ على يد أحد حراس النغم الكبار هو داود حسني وتأثر أيضًا بعبد اللطيف البنا، فشرب أسرار الصنعة مثلما لم يشربها غيره. روّض الأساتذة صوته العفي والجموح، وأصقلوه بحفظ الأدوار والقوالب.

كانت محطته الثانية على يد أستاذه محمد عبد الوهاب الذي ضمه إلى الكورال الخاص به، وغنى خلفه في أغاني تلك المرحلة المبكرة منها “بلبل حيران”.

عبد الوهاب ابن حواري باب الشعرية، كان قد أصبح من بكوات مصر بفضل تعرفه على أمير الشعراء أحمد شوقي. ومنه تعلم عبد المطلب بدوره كيف تكون أنيقًا حتى لو ارتدى الجلباب.

ظل “أبو نور” بروح الفلاح، لكنه اكتسب أناقة باشا، يكسبه شاربه المنمق وحِدّة حاجبيه ملامح الهيبة والوقار. احتفظ بأناقة السلوك وانتقاء الكلام، وسط ساحة تعج بالمعارك الفنية.

في تلك الأثناء تهيأ له للانضمام لأكاديمية الفن الأولى في مصر -آنذاك- وهي كازينو الست بديعة مصابني.. ليصبح زميلًا لتحية كاريوكا وسامية جمال وفريد الأطرش ومحمد فوزي. بل وأحب زوجته الأولى وهي الراقصة الشامية “شوشو عز الدين” أخت ببا عز الدين التي قادت انقلابًا على أستاذتها بديعة واستولت على الكازينو.

أنجب من شوشو ابنيه التوأم نور وبهاء، ثم انتقل إلى كازينو آخر في الإسكندرية قرب مسقط رأسه.

كما جرب حظه في السينما، ومن إنتاج وتشجيع أستاذه عبد الوهاب، لكن خشونة ملامحه المصرية، وحِدّتها.. أبعد ما تكون عن مواصفات مطرب العواطف على الشاشة. فشل سينمائيًّا فلاح البحيرة مثلما فشلت أم كلثوم فلاحة المنصورة.

تركيبة شخصية طِلِب، وتركيبة صوته، مثل الخمر المعتقة.. فهو ابن حظ وكازينوهات.. وهو حافظ القرآن، والعارف بأسرار الموسيقى العربية.. ومجاور السيدة والحسين والحارة الشعبية منبع الوحي لمعظم فناني هذا العصر.

للوهلة الأولى تخلط بينه وبين طيب الذكر الشيخ زكريا أحمد، فالملامح الرجولية متشابهة، وخشونة الصوت، وفتوَّته وعمق وعيه بالموسيقى، وصدق إحساسه. حتى طريقة الأداء النابع من موشحاتنا الدينية ومواويلنا الشعبية. كأنهما توأم، أحدهما موهبته الأعظم تجلت في صوته، والآخر في أنغامه.

علمًا بأن خشونة صوت “طلب” كانت تتحول إلى شجن مصفى، هي مثل شرخ عاطفي في القلب عندما يغني “يا حاسدين الناس”. لا تشعر بالألم معه فقط، بل تراه بعينيك.

للأسف ردد البعض (ربما بسبب خشونة صوته) كذبة أنه كان يلقب بـ”حمار الإذاعة” وهذا غير صحيح، فاللقب في الأساس كان يطلق تهكمًا على “صالح عبد الحي” وهو أيضًا صوت عظيم.. لأن عبد الحي في بدايات الإذاعة كان جاهزًا للغناء فيها وسد ساعات البث. وحاول البعض تمرير اللقب إلى عبد المطلب أيضًا.

إن إلصاق اللقب به يتنافى مع كل الرقة والشجن والعذوبة في نبرات صوته، وهي المفارقة التي تكمن فيها عبقرية أدائه. ظاهريًّا هو صوت خشن.. لكنه يفور ويمور بأدق الخلجات والأحاسيس. وليس غريبًا أن تجد أرق الفنانات مثل فاتن حمامة ونادية لطفي، فضلن عبد المطلب دائمًا.

عذوبة الإحساس

من النادر أن يصل مطرب إلى قدرته في التعبير عن أدق وأعذب الأحاسيس، لدرجة أن جملته “أفوت على بيت الحبيب.. أقول جريح يا أهل الهوى” من أعذب وأرق الجمل في تاريخ الغناء العربي.. وهي لحن محمد فوزي.. ومهما استمع إليه المرء لا يمل من تكرارها إلى ما لا نهاية.

وربما يقارن “طلب” كمطرب بابن طنطا محمد فوزي، الذي يصغره ببضع سنوات. لجهة تأثر الاثنين بعبد الوهاب. ولأن الاثنين طورا قالب الأغنية القصيرة، امتدادًا لخالد الذكر سيد درويش ثم عبد الوهاب.

فالأغنية المصرية القصيرة مدينة لهذين الرجلين، فوزي أخذها ناحية الخفة والطفولية، وعبد المطلب أخذها ناحية السلطنة ونفعه في ذلك صداقته مع محمود الشريف، وبلغت الصداقة والشراكة بينهما أنه تزوج أخت زوجة الشريف، وكانت الثالثة بعد عزوبية طويلة نسبيًّا إثر انفصاله عن شوشو عز الدين، وزواج سريع من الراقصة والممثلة نرجس شوقي حيث التقاها في العراق أثناء الحرب وأنتج لها فيلمًا وخسر فلوسه.

سلطنة وارتجال

تعاون مع كبار الملحنين وتفرد في أداء وارتجال المواويل، فهو بحنجرته العريضة سلطان الموال بلا منازع، لا تشبه واحدة من “يا ليل يا عين” الأخرى.

فليس غريبًا أن يظل لعقود حاضرًا في أفراح الفلاحين بأغانٍ مثل “قلت لأبوكي عليكي وقال لي.. خلي المهر في جيبك خلي”، و”تسلم إيدين اللي اشترى.. الدبلتين والأسورة”.

ولا يستقبل المصريون والعرب شهر رمضان كل عام إلا بظهور الهلال وظهور عبد المطلب يغني باسمنا جميعًا: “رمضان جانا” لحن محمود الشريف. لدرجة أن طِلب تندر مرة: “لو أعطوني جنيهًا في كل مرة أذاعوا فيها الأغنية لأصبحت مليونيرًا”.

أحزان خاصة

بعدما تجاوز الستين، تعرض أبو نور لأكثر من أزمة قلبيه، لكن روحه انهزمت واستسلمت بعد شهور من الوفاة الصادمة والمفاجئة لابنته “انتصار” وكانت شابة في العشرينيات تستعد لحفل زفافها. لم يحتمل قلبه الصدمة فودع الحياة في سن السبعين أو أكبر قليلًا نظرًا للاختلاف حول تاريخ ميلاده.

مضى بعدما ترك أكثر من مئتي أغنية، يصعب اختيار واحدة مفضلة، لكن بالتأكيد هناك إجماع على: “ساكن في حي السيدة”، “حبيتك وبحبك”، و”بتسأليني بحبك ليه”، “ودع هواك”، “يا أهل المحبة”، “الناس المغرمين”، “السبت فات”، “غدار يا زمن”، “بياع الهوى”، “اسأل مرة علي”، “ما بيسألش علي”، “يا بايعني وأنا شاري”، ولديه أغنية جميلة رقصت عليها نعيمة عاكف هي “حبك على فين”.

كما كان من القليلين الذين نجوا من معارك الفرقاء الكبار، فتجده صديقًا لعبد الحليم وعبد الوهاب وأم كلثوم، حيث اعتاد أخذ أولاده والذهاب إليها لمعايدتها. حتى طليقته شوشو أم ابنيه ظل وفيًّا وطيبًا معها، وحين تبدلت بها الأيام لم يتأخر عن رعايتها.

وأهم ما يميز أداءه تلك القدرة على نحت و”بروزة” كل كلمة، فلا توجد حروف متآكلة ولا نبرة غير واضحة، إنه يضغط على كل كلمة حتى تتبدى حوافها وتلمع. ولا يفقد أبدًا رغم أدائه المنحوت عفوية وصدق الإحساس.

فإذا تجاوزنا الخشونة البادية، فإن الحنان في صوت عبد المطلب، يشبه بياض قلبه. حنان مخلوط بخفة الظل المصرية، والطيبة، والحب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب يصدر عن دار المحرر .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم