أفين حمو
في روايتها “في منتصف الشمس” لا تكتب مريم العجمي رواية؛ بل تفتح جرحًا صغيرًا في القلب، وتدع الغراب يحط عليه دون استئذان.
بدأت الرواية ولم أكن أعلم أنني على موعد مع ندبة دافئة، مع غبارٍ يخيم فوق الذاكرة ولا ينقشع. بلا تمهيد، بلا قفازات، صفعتني الجملة الأولى:
“حلمتُ أن غرابًا يأكل من قلب عمي عامر.“
لا أحد يدعوك للتقدّم أو التراجع. أنت هناك، مباشرةً، في منتصف الحلم المتحلل تحت عينيك. الغراب، الذي طالما حمل نذير الفقدان، لا يحوم في السماء، بل يغوص في اللحم، في القلب، في صميم الحكاية.
هنا تبدأ مريم العجمي رسم ملامح عالمها: عالم لا يعرف الرأفة.
مريم العجمي لا تسرد؛ إنما تهمس. تبعثر خيوط الزمن بين يديها كما لو كانت تنسج بساطًا من ضوء وظل، يعلو وينخفض مع أنفاسنا.تستخدم المونولوج الداخلي كعزف منفرد وسط أوركسترا صاخبة؛ فنتنقل معها من تفكير محمد التهامي عزيز في رصاصة عابرة، إلى ارتطام طفل بالأرض، إلى جبهة حرب منسية، وكأن الذكريات تتقافز مثل شرارات فوق حطب مبتلّ.
يقول محمد، وهو يمرر إصبعه على شاشة هاتفه:
“كل القصص الآن لا تحتمل أكثر من تمريرة إصبع على شاشة زجاجية بحجم كف اليد.“
وهنا تجعلنا مريم العجمي نتساءل: كم من القصص تهشمت تحت وطأة السرعة؟ كم من الأرواح اختُزلت إلى “ستوري” عابرة؟
ومع ذلك، تشير الرواية: القصص الحقيقية أثقل من كل الشاشات.
لا ترتدي شخصيات الرواية أقنعة. كل منهم يحمل شقوقه كأوسمة حرب:
محمد التهامي عزيز، المدرس بالنهار ومصوّر الأفراح بالليل، الذي أراد أن يكون بطلاً فصار ظلاً. يقول باعترافٍ موجع:
“أنا المصور والصحفي اللامع، صاحب أشهر اللقطات والمقالات النارية… اقتطعت اسم أبي وألصقت اسمي باسم جدي مباشرة ليضيء بالشهرة… هل أبدو كاذبًا؟ بالفعل أكذب؛ لست إلا إخصائي صحافة في مدرسة إعدادي مساءً، وفي الليل مصوّر أفراح.”
عامر، الشهيد الذي ظنناه رمزًا نقيًا، فإذا به يُغدر به ويسقط بصمت لا ضجيج فيه.
منى، الغائبة الحاضرة، حبّ محمد المستحيل؛ طيف امرأة يلوّح له من ضفةٍ لا تطأها قدم.
مصطفى، الطفل الذي سقط من الشرفة وهو يحدث روح جده؛ سقوط البراءة ذاته.
الجد عزيز، الرجل الذي يقاتل أشباحه بالنسيج والخيوط، مدعومًا بزوجته صلوحة، المرأة التي ذاقت مرارة التخلي والخسارة.
وأخيرًا سبيلة، المرأة التي أحبها عامر وخانها شاهين؛ تحكي عن قيودها وصراخها الليلي، عن هروبها من ظلال الموت التي كانت تلاحقها.
لغة الرواية شظايا بلور مكسور: مشرقة وخطرة معًا.
مريم العجمي تعرف متى تقطع الجملة بسكين الألم، ومتى تتركها تنساب كأغنية حزينة.
في وصف الهدم تقول:
“تُحدث شقوقًا تتضاعف وتتسع إلى أن تسقط الكتلة الخرسانية مفتتة من الأحجار والرمال.”
وفي مشهد الفقد:
“تحتضن سمر الجارة، تغمّي عينيها وهم يدخلون حاملين الطفل وسط أغطية دامية.“
الجمل تهوي على القلب كما تهوي الأجساد من الشرفات: بلا مقدمات.
في هذه الرواية، الغراب لا يحوم، بل ينهش. والشمس لا تشرق، بل تلمع خنجرًا في ذروة الموت. الهدم والبناء، دورة لا ينجو منها أحد. الحكاية تنهدم وتُبنى بأيدينا المرتجفة، ولعلنا جميعًا ننتبه… متأخرين دائمًا.
منتصف الشمس لا تصرخ بالشعارات، بل تهمس بالحكايات الصغيرة المنكسرة، التي يصل صداها إلى أبعد من كل المايكروفونات العالية.
وفي النهاية، تكشف الرواية أثقالها:
عامر لم يمت بطلاً فوق الجبهة، بل غُدر به. ومصطفى كان يصغي إلى الموت قبل أن يفهمه.
لكن، كما في كل الحكايات الكبيرة، تبقى الأسئلة: من يخون من؟ ومن ينقذ من؟ وأين تنتهي الخسارات؟
لم تكن منتصف الشمس مجرد رواية؛ كانت مرثيةً للزمن، للبراءة، وللشجاعة المنهكة، بلغة تجرحك برقتها، وشخصيات تمشي فوق قلبك حافيةً، وأسرار تُكشف حين تغمض عينيك.
وكأن محمد التهامي يقول لكلٍّ منا، حين تغلبه الدموع:
“لا ورقة تتسع للسماء أبدًا؛ لكنني أحاول.”
نعم، كلنا نحاول: أن نحمل السماء على ظهورنا الهشة، أن نكتب بالماء على جدران الريح، أن نحضن الشمس قبل أن تهوى!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية،
الرواية صادرة عن دار المحرر 2025