الكتابة فوق حقل ألغام ..عاصفة تحطيم التابوهات في رواية مهنة سرية لمحمد بركة

baraka
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

السيد شحتة 

قليلة هي الأعمال السردية التي تمتلك القدرة على أن تثير لدى القارئ حالة من الدهشة تبدأ من الصفحات الأولى ولا تنتهي إلا مع السطور الأخيرة وتشتبك في الوقت نفسه مع قضايا يمكن أن تفتح على كتابها أبواب كثيرة من الجدل.

رواية  “مهنة سرية”  الصادرة حديثاً للكاتب والروائي المصري محمد بركة واحدة  من الروايات التي تستدعي حالة من التوقف والرصد والتحليل بداية من حالة الصدمة التي تفرضها عبر معالجة موضوع جديد سرديًا وشائك مجتمعيًا ومروراً باللغة الشاعرية والمشهدية الحاضرة دوماً والنص المتوازن دون حشو أو اعتزال.

وصل محمد بركة في رواية” مهنة سرية” من وجهة نظري إلى ذروة توهجه السردي بعمل روائي بمواصفات خاصة جدًا وبخلطة بمقادير لا تتوفر كثيرًا في نص واحد وهو ما يفرض عليه تحديات لا حصر لها في عمله القادم.

تخطف “مهنة سرية ” القارئ من  الصفحة الأولى ولا تتركه إلا في الصفحة الأخيرة في فخ محكم نصبه محمد بركة الذي يقودنا إلى دهاليز عالم سري لم يسمع به الكثيرون منا من قبل حتى إن المرء يفتح عينه بشدة من هول ما يرى.

يقتحم محمد بركة مساحة شائكة جدًا وبالغة الحساسية والتعقيد، لا تستهويه السباحة، يصر على أن يغوص في الأعماق بل في أعماق الأعماق بجرأة تبدو صادمة في أحيان كثيرة حتى أن المرء يتساءل كيف استطاع أن يفعلها دون تردد أو خوف ؟َ!

يأبى “بركة” في مهنة سرية إلا أن يفضح أدق تفاصيل العالم السري لشاب احترف العمل في مهنة خاصة جدًا يقدم فيها نفسه بمقابل مادي للسائحات القادمات من أوروبا وأمريكا بحثًا عن سحر الشرق.

كتابة بركة في مهنة سرية لم تأت فوقية وإنما جاءت وليدة اقتراب من حقل ألغام وبعد خطوات محسوبة من السير فوق الأشواك، في مجتمع يجعل فضح الستر إحدى المحرمات وخط أحمر لا يجوز الاقتراب منه؛ تبدو الكتابة عن الجنس بهذه الجرأة مغامرة محفوفة بالمخاطر.

تحليلي الخاص لرواية “مهنة سرية” يكشف عن أنها كتبت على مرحلتين منفصلتين تمامًا عن بعضهما البعض، في المرحلة الأولى مارس ” بركة” فيها دوره الصحفي، جمع في يده كل الخيوط، ألم بالقصة من جميع أطرافها حتى تجمعت لديه مادة تحقيق صحفي استقصائي متخم بالمعلومات والتفاصيل، في المرحلة الثانية قرر أن ينسج من معلومات وبيانات التحقيق الاستقصائي، رواية، نرى الحقيقة فيها أغرب بكثير جدًا من الخيال، والواقع أقسى من قدرتنا على التصديق والاحتمال .

التخمة البصرية الحاضرة في كل مشهد من مشاهد الرواية، الوصف التفصيلي لسوق الكيف، ولكل سائحة قادمة من وجهة مختلفة بما يميزها عن غيرها؛ واستحضاره لدوافعها وتصرفاتها بما يجعلها مختلفة عن الأخريات، ماضي شخصية ” علاء” سواء كان بطلاً أم ضحية كلها تعبر عن حالة من الوفرة المعلوماتية التي تحصل عليها الكاتب قبل أن يشرع في بناء عالمه السردي بالغ الخصوصية والغرابة. 

المعلومات وحدها لا تكفي لإبداع رواية ناجحة وفي هذا السياق يكشف تحليل التموجات السردية في ” مهنة سرية” عن حالة من تحدي محمد بركة لنفسه تتجلى في اللغة الشاعرية التي ترتقي بالعمل، نجح بركة بلغته الشاعرية في أن يجعلنا نرى ونسمع الكثير والكثير دون أن نتأذى أو نحس بأن ثمة خرقًا في المعالجة أو فجاجة في الطرح أو خروجًا من نوع ما، كل مشهد وكل وصف جاء موظفًا كما يقول الكتاب فنيًا وأدبيًا.

يواصل محمد بركة في روايته مهنة سرية ما بدأه في روايتي “عرش على الماء” و”حانة الست” تحطيم التابوهات، يرى في الأدب سلاحًا للاشتباك والجهر بالمسكوت عنه، يكسر القيود التي تفرض على الإبداع بالواقع العملي الذي يبدعه بهدوء ومنطق وعمق ودون ضجيج أو صراخ.

لا يستهدف بركة من وراء ذلك شهرة أو إثارة لكنه يلقي في كل مرة حجرًا في المياه الراكدة، يؤمن بأنه لا حصانة لفكرة أو لرمز ديني أو فني، كل الحقائق قابلة للمراجعة وللشخصية الواحدة ألف وجه ووجه، لكن المتأمل لمشروعه الإبداعي يدرك أنه لا يكرر نفسه وأنه ليس منشغلاً بمعارك جانبية تُخرج الأدب من العمق إلى الهامش ومن الجرأة إلى التدجين مثل الكتابة على مقاس الجوائز على سبيل المثال.

 في مهنة سرية يقطع محمد بركة شوطا بعيدا من السباحة وسط أمواج عاتية ولكنه لا يقودنا في هذا النص السردي الماتع سريعاً إلى شاطئ حيث يتركنا أسرى الدهشة والحيرة والصدمة، منذ الصفحات الأولى نجد أنفسنا أمام رواية تصر على أن تنزع ورقة التوت التي يحاول المجتمع أن يستر بها انحرافاته.

يجعل ” بركة ” في رواية مهنة سرية من الطفل الصغير ببراءته مدخلاً منطقيا من أجل فضح الستر الهش الذي تلتحف به الأم التي تخون زوجها الكفيف في قلب بيته وعلى فراشه، شيخ يرى في المرأة رمز للغواية وأرضا للخطيئة، وأمراه يذكرها زوجها بشكله الدميم وفكره العقيم بكل أشكال الجمود وتقرر في نهاية الأمر الانتقام منه على طريقتها الخاصة، تجعل من اسمه سيرة على كل لسان، يتحول الشيخ بكل سطوته مع الوقت إلي رمز للضعف والانكسار وقلة الحيلة بعد أن هزمته امرأته بالضربة القاضية من الجولة الأولى.

حرب باردة تندلع بين المرأة الخائنة وبين زوجها الذي لا يرى ولكنه يسمع وفي منتصف ساحة المعركة يقف طفلهما الصغير ” علاء” وحيدا شريدا والقذائف تتساقط فوق رأسه من كل جانب،تغمر الأم طفلها بحنانها فيما يشدد أباه عليه، ينحاز علاء بشكل تلقائي لأمه ويغض الطرف عن نزواتها وسقطاتها حتى عندما يراها في الفراش مع شخص آخر فإنه لا يثور عليها ولا يهدد بفضحها لأنها تحترم عقله ولا تبخسه ما يستحقه من حب.

الإلمام بماضي أي إنسان هو المدخل المباشر لتحليل شخصيته وفهم طبيعية تصرفاته فلا أحد ينبت في الفراغ ولكل قمة قاع سحيق دفنت في أعماقه الكثير من الأسرار وطمرت الكثير من الحكايات وفي هذا السياق يولد من يعمل بمنطق” أبيع نفسي” في فيلم مرجان أحمد مرجان للنجم الكبير عادل إمام.

وإذا كان مرجان في الفيلم رمزا لرجل الأعمال الفاسد الذي يشتري بأمواله كل شيء فإن علاء في الرواية هو الشخص الذي يبيع نفسه فعلا لكل سائحة راغبة في المتعة مع رجل يمثل رمزا للشرق بسطوته وبأجواء أسطورية على غرار ألف ليلة وليلة.

اقتحم محمد بركة في رواية مهنة سرية عوالم جديدة ووصل بالرواية إلى منطقة ظل التصوير والاقتراب منها ممنوعا حتى وقت قريب قبل أن يفضح الكثير من الانحرافات التي وصل إليها بيزنس الجنس .

رغم الفضح الذي تبناه محمد بركة منهجا في الرواية إلا أن مشاهد الانحراف والتشوه الجنسي لعلاء جاءت في الرواية موظفة سرديا وفي السياق الذي يتوافق تماما مع ماضي الشخصية الذي صاغه الكاتب بدقة منذ السطور الأولى .

ليس غريبًا أن يتزامن سقوط علاء في مهنة سرية مع أحداث 25 يناير ورحيل الرئيس مبارك وما تزامن معها من حالة سيولة وتفكك في الكثير من مفاصل الدولة وانفلات أمني طال حتى المنتجعات السياحية الغارقة في العزلة على ضفاف البحر الأحمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*روائي مصري صدرت له ثلاث روايات: ميتافيرس وشفرة المخ وسرايا عمر أفندي.

مقالات من نفس القسم