رواية “مهنة سرية” سردية اختراق “التابوهات”

baraka
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 د.عيد صالح

كما عودنا الروائي محمد بركة فى سردياته المتـفردة عبر نصوصه السابقة، يعود في أحدث رواياته “مهنة سرية”، الصادرة عن دار “أقلام عربية” بالقاهرة ليتناول المسكوت عنه بالغوص في أعماق ودهاليز النفس البشرية في خلطة سحرية تجمع الفلسفى بالإنسانى   بالواقعى بالغرائبي والعبثى .

تسقط الأقنعة في كتابات بركة وتتعرى الأجساد غارقة فى العطور والدهانات، والغة في الغرائز والشهوات ما بين الحكمة والجنون والوعي واللاوعى عبر  منولوجات و”ميتاسرديات” أو “مابعد السرد” علي لسان الذات / الأنا الراوي، المتأرجح على خيط حريرى يمسك بخيوط اللعبة كلاعب السيرك يقفر باحترافية الخطر بين الموت والحياة دون حبل الأمان المربوط في الظهر أو وسادة على الأرض تتلقى الجسد في اللحظة الخاطفة .

إنه العالم السرى بطقوسة شديدة السحر والتعقيد، عالم الفرائز والرغبات والارتداد للكهوف والمغارات في مؤامرة كونية يتواطأ فيها البشر فى عزف ثنائية متناقضة طرفاها البداوة والحضارة، عبر أحدث ما أنتجته تكنولوجيا العقول وأحط ما أفرزته الأجساد في موسيقى البدء والختام فى سردية بديعة، حيث  اللغة التى هى البطل الحقيقي في رواية يمتهن فيها البطل مهنة بيع جسده للسائحات في “شرم الشيخ” مقابل المال.

تلعب اللغة هنا أدوارا متعددة، فتقرر وتبرر ، تقص وتغنى ، تهدر وتهمس،  تسحبك بمجازاتها وتشبيهاتها وصورها وشعريتها وإيقاعاتها، لا فى عتبات الفصول الواحد والعشرين ولا في المفتتح والختام  فقط، ولكن على ألسنة الشخصيات وصراع الشرق والغرب عبر “ألف ليلة وليلة” عصرية،  في اتساع رقعة المكان، فى التناقض والتكامل والتناغم حيث جحيم اللذة الفيحاء وحيث تتواطأ الطبيعة أيضا.

سردية المرأة المقهورة

 تتجاوز سردية النص القوانين والأطر وتبرز الانجراف وراء المال بسبب الاحتياج  والفقر عبر تصوير المرأة الغضبى المتوحشة في الانتقام لنفسها بعد اغتصاب حقها الذي سُلب  قديما حين زوّجها أبوها الأعمى لأعمى وهو ما يظهر في تلك الحوار بينها وبين ابنته:

 –  العريس أعمى!

 –  وأنا اسم الله كنت زرقاء اليمامة ؟  أنا أعمى يا بنتي قبل أن تلدك أمك.

– أكبر منى النصف؟

– سيأخذ بيدك إلى الجنة .

– أنا بنتك الوحيدة ويتيمة الأم وحرام ترميني!

   الحرام أني أسيبك من غير رجل تكونين في ولايته.

– لونه اسود من قرن الخروب!

 – حرام نعيب على خلقة ربنا.

إنها سردية المرأة المقهورة بالفقر وسلطة الآب والجهل وحيث ” لا يوجد أسوا من زوجة تشكو إلى الله الزمن والقسمة والمكتوب،  إن لم تستجب السماء فلا مانع من إشراك السيد ابليس فى الموضوع ” . ومن ثم كانت الخيانة بالعقد مع الشيطان من خلال الانتقام من الجميع ، الأب الذي رماها،  الزوج الذي لا يعطيها حقها الشرعي والطفل الذي أمعنت في إبعاده عن أبيه ما استطاعت ، وعندما تعاقدت مع البليس بـ “أونكل” الذي يصلح ما فسد في البيت ويعاود المرور ليطمئن علي ما أصلحه. يشب البطل ابنها فتغرقه بالهدايا، مبعدة إياه عند “طنط وداد” جارتهم الأرملة الحسناء التى غطت بالطفل جوعها وتربيه في أحضانها ، ليعتاد الرزيلة رغم إحساسه من البداية بالغضب من أبيه وله، هل هي عقدة “أوديب” التي تولدت من إغراقه بالأحضان ” تسحقني في عناق هو الأعذب في حياتي”؟

تأتي السردية النسوية هنا، لا كأدب نسوى جنساني، بل عبر تشكيل الشخصيات النسوية المحيطة بالبطل، حيث تفتحت مواهبه على يدي حواء أما وجارة، وهناك الألمانية التى تلقفته ودربته والإيطالية التي أحبها في لمحة رومانسية وكذلك البريطانية التي تضبط إيقاعاته. إنه كوتيل عالمي بمباركة أوروبا التي صرخ في وجهها مصطفى سعيد بطل رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” قائلا:  “سأغزو أوروبا بإيرى”، عبر لعبة الشرق والغرب والتحرر من الاستعمار على إيقاع المتعة حين تصبح عملا منضبطا.  إنها المرأة ، القاتل والضحية ، إنه الفقر وتجارة المخلفات والقمامة في حي “منشية ناصر” حيث الروائح الكريهة التى تدر ذهبا والتى تجتذب باحثة ألمانية شابة ” أينما وليت وجهك ثمة تلال من الزبالة”. يصدمنا الواقع المتخلف، حيث تعيش وتتنفس فئة المهمشين ، وحيث يتعامل الناس هنا مع القمامة وكأنها منجم “ذهب السكرى” وحيث “تجار كبار يتقاسمون المهنة الأكثر ربحا وقذارة”.

 واقعية نقدية وعقدة أوديب

تلك الواقعية الاجتماعية شديدة التناقض والغرابة ، حيث خلف الأبواب تمور الحياة، وتصطخب المشاعر وتتواشيح المآسى، لتتوحد فى صنع سردية المهن السرية الموازية لمهنة البطل، كما في حالة الأم و”طنط وداد ”  اللتين احترفتا مهنة التزبين والتحفيف، فيما تطور لاحقا ليصبح “ميكب أرتست”. هناك بالتوازي بيع المخدرات في مناطق بعينها في سيناء ، ضمن دورة رأس المال في صناعة ترفع شعار “كل شيء مباح في سبيل المتعة” .

 إنها الواقعية الاجتماعية النقدية التي تضع أيدينا على مواطن الداء والخلل الاجتماعى والانساني والنفسي. إنه فرويد الذي يطل في عقده أوديب – الإبن الذي احترف حب أمه في كل نساء العالم “أعشق أمي، تغمرني رائحة جسدها بافتتان لا أشبع منه، أموت في اهتمامها بتفاصيلي وجرعة الحنان التي تزودنى بها عندما أعود من عند طنط ، لا تتملقني بل تسكب في روحي شيئا من روحها “.

 وحتى “طنط وداد” كانت أما بديلة أكثر جرأة، نبتت وتفتحت بين أحضانها غرائزه بروية وصبر وإتقان سهل عليه الاحتراف الجنسي فيما بعد، كتجارة منضبطة بشروط وواجبات والتزامات قاسية رغم غرقه فى العطور الباريسية وبذخ القصور والفنادق في شرم الشيخ وحياة ألف ليلة وليلة والشبق الجماعى وحنين الكهوف الأولى وفيض الذكورة وأصدق الأكاذيب الشرقية “حيث الجنس أكثر الأشياء الواضحة غموضا”، و”حيث الجنون عطلة يقضيها العقل في جزيرة استوائية ساحرة” ، و”حيث الحب أشهر شهداء الابتذال اللغوى” و”الشعر أقدم محاولات البشر لمخاطبة الآلهة”.

 تلك العتبات النصية التي جاءت كعناوين غير تقليدية لكل فصل من فصول الرواية النفسية الفلسفية في عمقها السحيق تحتاج لتفكيك لغوى وفكرى وكأننا حيال إحدى وعشرين مقطعا من قصيدة ت إس إليوت ” الأرض اليياب ” التي لم تذكر في الرواية لمجرد أن  البطل علاء مشروع شاعر تخرج في كلية “دار العلوم” حيث اللغة والشعر والرواية والمسرح والخيال ، وحيث تنبت شجرة الإبداع مترعة بكئوس معتقة من خمر اللغة، ولكن لأنها تعبر بشكل من الأشكال عن روح البطل وأزمته الوجودية.

تميز النص بمعزوفة تصويرية بلاغية تخييلية تحتاج وحدها لمبحث لغوى جمالى يفكك الأبنية السردية ويعيد العلامات ودلالاتها إلي معانيها ورمزيتها ودوائرها النفسية والفلسفية. ومع أننى لا أحب “الشكلانية اللغوية” عموما، لكنها جاءت هنا مبررة، بل عبقرية الأداء لأنى أومن بأنه ليس المهم ما تكتب بل كيف تكتب كما أومن بقول “الجرجاني” أن “الصورة كلما كانت أغرب وأعجب كلما كانت أكثر قدرة على إثراء الدلالة والتحرك من المعنى إلى معنى المعنى”.

 أريد أن أقول أن الاستغراق في تفكيك اللغة وعلاماتها و فونيماتها يشغلنا عن متعة التدفق السردى وحرفية البناء الدرامي وتطور الأحداث والدلالات العميقة في النص ، ومع ذلك تطل للغة سحرها وللبلاغة أثرها إذا كان الصائغ ماهرا والموهبة هائلة كما يفاحئنا دائما محمد بركة بتلك الروايات بياعاتها الشعر / سردية المذهلة وعبرها يمرر ما يهدف إليه من سحر وجاذبية مغناطيسية مشوقة فذة.

 إشارات سريعة

أولا: عتبات النص

قلت إن الحديث عن عتبات النص في “مهنة سرية” يحتاج إلى بحث كامل، ليس فقط لتعدد تلك العتبات بداية من العنوان الرئيسي للعمل،  ولا لمقدمة ما قبل البداية والمنفصلة بدون عنوان، مع أنها تلخص الرواية حيث يروي البطل اعتزاله في فيلا أسطورية على طريق مصر  – اسكندرية  الصحراوي يستمتع بسنوات تقاعده كأنه “تاجر سلاح هارب من مذكرة اعتقال دولية “. يبدو البطل معلقا بين ليل ونهار، ليل يكون فيه “نجما يأتلق فيه تحت قمر الله السهران يفرز عسلا مصفي وفي الظهيرة يستند إلى جدار ينشع بالرطوبة تحت قية صغيرة خضراء ومنبر قصير من خشب متداع”.

وفي عتبة إحدى الفصول، نقرأ : “سألتني وما السر؟  قلت زهرة سوداء نربيها في غرفة معتمة ” وهو تلخيص أدبي معجز ومركز المعنى والدلالة ، إن علاء هو تلك الزهرة السوداء الذي تربي وعاش مجده حتي الاعتزال في غرفة معتمة هي المهنة السرية بكل فصولها وأسرارها ونسائها وشخصياتها. عالم اسطورى حيث  ” المتعة بثمن”، دعارة معكوسة بطلها الرجل .

نعود للعتبات الباقية لنجد أنها عناوين لفصول داخلية دالة وملخصة، لكنها جاءت على هيئة اسئلة وإجابات وإضاءة  في الفصول على الإجابات. البحث عن جديد ما في تقنية الرواية بشكل استدعاه، في رأيي ، موضوع النص الشائك وإحاطته بشبكة من الأسئلة المحيرة لتكون الإجابة في النص إعادة وتكرار لأسئلة تتوالد من فصل لآخر.

ثانيا: التناص

 يمثل التناص سمة من سمات أدب ما بعد الحداثة،  سواء كان تناصا تاريخيا أو لغويا، والتركيز هنا علي التناص اللغوى القرآني والذي جاء كمعادل موضوعي للتناقض الرهبيب والمفارقة والنفاق الاجتماعي حيث تنتشر في الأسواق والمحلات الآيات القرآنية . محل العصير الذي لا يفارقه الذباب تتصدره لافتة ضخمة مكتوب عليها بخط ثلث ” وسقاهم ربهم شرابا طهورا “. والفرارجي الذي يلقى بفضلات الدجاج في الشارع  يعلق الآية الكريمة ” ولحم طير ما يشتهون ” أما صاحب مطعم “الأرزاق بالله” الذي يقلي الطعمية في زيت أسود ،سواد الغل والقلوب الحاقدة،  فيرفع لافتة ” كلوا من طيبات ما رزقناكم “.

وتتوالى اليافطات من ” نحن نقص عليك أحسن القصص” في مكتبة “مكارم الأخلاق” إلي  “وكل شيء فصلناه تفصيلا ” في محل الترزى ثم ” وفاكهة مما يتخيرون” في محل الفواكه.

وهناك التناص مع قصيدة ت. س إليوت “الأرض اليباب” ، ربما للإشارة إلى أنه ليس مجرد خدين أو بائع هوى بأجر لكنه مثقف حد قول الشعر ومعرفته لغة العميلة وشاعرها الأشهر مع ترديد أبيات من شعره كما يحفظ شعر ابو نواس ويتناص مع خمرياته ومع حكمة أبى العلاء وأسئلته في نص غاية في الجمال: ” أديلا يا ابنة الغابات والمنطق النحاسي المبلل بالرزاز لا طاقة لى بأسئلتك القادمة من نهر الدانوب ، عندى ما يكفى من أسئلة قديمة علقها رهين المحبسين في رقبة الريح وحفرها على مدار الزمن: أنهيت عن قتل التفوس تعمدا وبعثت أنت لقبضها ملكين /  وزعمت أن لنا معادا ثانياً ما كان أغناها عن الحالين”.  

وأنهى التناص التاريخي بذلك المنولوح الميتا سردى والميتا نقدي: ” عرفت أن التاريخ يعيد نفسه فعلا ، إنه يتكرر عبر الزمان مع بعضن المساحيق الحداثية التي لا تقدم ولا تؤخر”، ” في زمن غير الزمن حين كانت الأشياء واضحة والفوارق جلية والشبهات زواحف صغيرة تتوارى خجلا. طالب أحدهم أن يعطى الحكم لابنه من بعده”.

ثالثا: شخصيات الرواية

رغم أن النص يتمحور حول الشخصية الرئيسية وهي الراوي، الذات الأنا، فيما يشبه المونولوج والديالوج والميتاسرد وحتى الميتا نقد ، حين يسرب لنا بالأسئلة وإجاباتها كعتبات للنصوص ، أقول رغم أنها رواية البطل “الهيرو” إلا أن الشخصيات الأخري في الرواية مرسومة بعناية فائقة حتى لو كانت مجرد الدليل السياحي أوالسائق ، في بضعة أسطر تكشف أعماق شخصية من يعملون في السياحية . وهي وحدها بدلالاتها تكشف عور النفاق والانتهازية حتى الفتيان اللذان منعا التصوير في منشية ناصر لم يكن غيرة أو وطنية كما ادعيا في موقف هزلي كاشف، فما ما أن أخرجت الفتاة الأجنبية العملة الصعبة حتي تحولا لكلبين تلقي لهما بقطعة لحم.

أما عن الأم والأب، فقد كان رسم شخصيتهما بارعا من التصرفات والأفعال حتى في الوصف للأم والأب بالبياض والسواد والمفارقة في كل شيء و”طنط وداد” التي غني فيها الشاعر وزاد في فصل الحرمان وسببه الحرب العراقية ” الخليج الأولى ” وكيف مات فيها زوجها يحيى “أعظم هاونجي” في حرب عبثية لا ناقة له فيها ولا جمل .

وهناك  شخصية “أديلا” الألمانية التي التقطت البطل شابا جائعا باحثا عن فرصة عمل وفتحت له عالما سحريا دربته عليه وظلت أستاذته حتي النهاية. وما بين الألمانية والإنجليزية والإيطالية وصراع الغرب والشرق القائم علي الانتهازية من الطرفين والتواطؤ الشرير الذي يطفو في الغرائر ويعبر عن نفسه، تتجلى لدينا ملامح المهنة السرية / العلنية حد الممارسة الجنسية في البلكونة فى استعراض مجنون يشاهده كل من يمر في تلك اللحظة.

رابعا: رومانسية خاطفة 

لا يمكن أن أترك القلم دون أن أتحدث عن تلك التجربة الرومانسية الخاطفة العميقة المؤثرة التي عاشها البطل وكانت بمثابة “العدو اللدود” للمهنة التي التزم علاء بشروطها حد الأسطورة والتي من بينها عدم الوقوع في الحب. لكنه وقع في الحب وخرق شروط المهنة حتي أنه كان مصمما علي الزواج وترك المهنة لكنه فوجيء بأن حبيبته متزوجة من ملياردير عجوز تكرهه، يخونها وتخونه ولا يمكن أن تستغنى عما يوفره لها من رفاهية. تظل تلك اللحظة الرومانسية المشرقة اغرب ما في الرواية!

خامسا: اللغة

أوكد ما قلته في البداية حول اللغة التي تشف حد الشعر المجنح حتى تبلغ ذروة الحكمة والفلسفات والتناصات التي تأخذك بعيدا عن المهنة السرية بل وفي القلب منها لأسئلة الوجود والحياة، حيث “الحياة قط أسود عملاق يلعق شواربه بعد وجبة دسمة وهو يراقبك باستمتاع وأنت الفأر الأبيض الذي يلهث من الركض في متاهة العمر الجميل “.  إنها خلطة سحرية ومشهدية سينمائية معلوماتية لمخرج عبقري يحرك الكاميرا داخل أعماق النفس الإنسانية وفي الأركان والدهالي، في الصحاري والكافيهات والفنادق وحيث تتداخل الأحلام والرؤى والكوابيس والروائح والعطور في مزج ومزاج عبقرى مجنون .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد مصري 

مقالات من نفس القسم