المدفأة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ريم جهاد

تدفع ليلى عربة ابنها في الطريق الصغيرة وسط الحديقة، تلف يديها حول مقبض العربة، ويخيفها قليلاً تيبس أصابعها من البرد على الرغم من ارتدائها القفازات، تنظر للأفق الأبيض وقد غطى الثلج الخفيف العشب الأخضر، تضيق عينيها وتخبئ ذقنها في نحرها أمام لسعة الريح والبريق الذي كان يشع من الأرض، وكأن قطرات الندى المتجمدة كانت على شفا الذوبان ثم تراجعت، خيانة تورط فيها وهج الشمس الذي جلب ضوءًا بلا دفء في هذا الصباح القارس. تحاول ليلى التركيز في صوت عجلات العربة على الأرض، ولكنها لا تفكر سوى في المدفأة، صوتها الذي يسري في مواسير البيت تحت الجدران الباردة، كالدم في شرايين الجسد المتعب، دخانها الذي تشاهده أحياناً من خلف الزجاج يتدفق بكثافة من أنبوب صغير أعلى شباك المطبخ، وتورد خدود ولديها عندما تشعل المدفأة في المساء ويختفي الصقيع شيئًا فشيئًا من الدار، ويبدو أن كل شيء في بيتها يتورد قليلاً وليس فقط وجهي صغيريها.

تحمد الله أن ابنها الكبير في المدرسة، فدرجة الحرارة اليوم ثلاث درجات تحت الصفر، والمدرسة دائماً دافئة جداً، بل إنه يشتكي من إصرارها على أن يرتدي قطعاً إضافية من الملابس تحت قميصه متذمراً ألا أحداً من زملائه الانجليز يفعل مثله. ولكن ليلى لم تكن ترضخ لشكواه، فهذه هي أفضل طريقة لحمايته من البرد، هكذا تربت هي وأولاد عائلتها وأصدقائها في مصر، ولم يكن يشتكي أحد – أي سفه هذا حتى يسأم ابنها من كثرة الملابس وحرارة المدرسة في الشتاء…

 تتذكر في ارتباك أنها ليست كالأمهات الانجليزيات، فقد تركت ليلى كل من تعرفه، وسافرت مع زوجها إلى مانشستر العام الماضي، ولم يعرف جسدها هذا البرد من قبل، ولم يألف كل تلك الوحدة المصاحبة له، فلم يكن هناك من يجيبها على أسئلتها عن أفضل طريقة ليعمر الدفئ في جسدي طفليها، أو يحافظ البيت على حرارته، أو كيف يستطيع مجلس المدينة دفع فواتير الغاز لكل هذه المدارس بينما لا تستطيع هي وزوجها تحمل تكلفة تدفئة بيتهم الصغير؟

تشعر بصغيرها يصحو ويتحرك داخل كرسيه في العربة، فتتوقف لتتأكد أن بطانيته وقبعته وكوفيته وقفازاته في مكانها، وتخبره إنه لم يبق سوى خمس دقائق حتى يصلا إلى المكتبة. طمأنته محاولة أن تطمئن نفسها، فهي تشعر أن المسافة القصيرة التي كانت تقطعها بين المدرسة والمكتبة كل يوم، صارت في هذا الصباح العصيب أميالاً. عندما اقترح زوج ليلى ذات مرة في تردد ألا يشعلا المدفأة في المنزل إلا في الليل حتى يستطيع دفع فاتورة الغاز لم تعارضه ليلى أو تشتكي، بل أخبرته إنها فكرة جيدة، هكذا تربت، لم يعلمها أحد الطرق المثلى لمساندة زوجها، ولكن كان هذا ما شاهدته طوال عمرها حتى وإن لم يكن دائماً محل تقدير. وافقت ليلى زوجها وكانت مؤمنة أن بإمكانهم تدبر الأمر، ولكنها سرعان ما وجدت أصابع ابنها الصغير وقد أصابها الزرقة في الصباح وهم في البيت.

تخرج من بوابة الحديقة وتقف في إشارة عبور المشاة، تنتظر ويباغتها خاطر وهي تشاهد ضوء الإشارة الأحمر: هل أطفأت مدفأة البيت في الفجر؟

تستيقظ كل يوم لتصلي وتطفئ المدفأة، ولكنها تتذكر الآن أن ابنها الكبير استيقظ قلقاً من حلم مزعج فجلست بجانبه للحظات، وأصبحت غير متأكدة إن كانت عادت إلى فراشها مباشرة أم أطفأت المدفأة أولاً؟ تشعر بالتوتر قليلاً، فأي زيادة في الاستهلاك سوف تكبدهم تكلفة غير بسيطة.

لم تكن التدفئة مشكلة عندما انتقلت إلى انجلترا لأول مرة، بل لم يكن تهتم هي أو زوجها متى تشتعل أو تنطفئ، ولكن الحرب الروسية على أوكرانيا ضاعفت التكلفة ثلاث مرات عليهم وصار الأمر أمراً. وأصبحت ليلى تفعل ما فعلته طوال حياتها في بيت أبيها في مصر – تضاعف قطع الملابس التي يرتدونها، تضع الأغطية الإضافية على الأسرة والكراسي، تصنع المشروبات الدافئة، تسد الفتحات بين الأبواب وإطاراتها بالوسائد، إلا أنها سرعان ما أدركت أن هذه الحيل لا تساعد كثيراً في الشتاء الانجليزي، وصارت كل صباح عندما يذهب زوجها إلى العمل وتوصل ابنها الكبير إلى المدرسة تأخذ الصغير وتقضي ما تستطيع من النهار في المكتبة العامة التي كانت هي أيضاً دافئة دائماً.

يتحول ضوء إشارة المشاة إلى الأخضر وتتحرك ليلى، ولكن عقلها لا يكف عن التفكير، تقترب من وجهتها وتبدأ برؤية عبارات (دافئة ومُرحبة) على اللافتات البرتقالية بجانب باب المكتبة، فلم تكن الوحيدة التي تواجه صعوبة في الاحتماء من البرد هذا الشتاء، تتوق للحظة دخولها من الباب حين يغمرها الهواء الدافئ، ويسكنها شعور بالأمان لا تجد له تفسيراً، ولكن مدفأة البيت قد تكون مشتعلة، تنظر لابنها – هل تدخل إلى المكتبة قليلاً ليأخذوا استراحة من البرد؟ أم تعود الآن لتتأكد أن كل شيء على ما يرام؟ هناك الكثير من الناس حولها في الشارع – البرد لن يقتلنا، تقول لنفسها، ولكن الصقيع الذي كان يسكن جسدها في تلك اللحظة ولد فيها غضباً سرعان ما تحول إلى انهزام، وشعرت أنها ستبكي في الشارع الذي لا يدركها فيه أحد.  

أرادت أن تدخل إلى المكتبة، سعت جاهدة أن تتذكر ما حدث فجر اليوم ولكنها استسلمت وولت أدبارها. وعاودت المشي بعربة ابنها وهي تصبر نفسها قائلة إنهما على الأقل يسيران عكس اتجاه الريح هذه المرة، تتسائل ماذا ستفعل إذا وجدت المدفأة مشتعلة… سيكون البيت دافئاً في هذه الحالة حتى لو أطفئتها يمكنها المكوث فيه. وماذا إذا كانت مطفئة؟ هل تعود إلى المكتبة؟ لا، لا يمكن فعل ذلك، فالبرد لا يطاق. هل تدق باب جارتها السورية التي تسكن في آخر الشارع وكأنها زيارة عفوية؟ تنهر نفسها، ألم يبق من الحياء شيئاً؟ هل تشعل الفرن قليلاً؟ ولكن ما الفرق في ذلك، فهو مكلف جداً أيضاً.

أخيرًا وصلت وقفت أمام باب بيتها، تحاول العثور على المفاتيح في حقيبتها ولكن أصابعها كانت تؤلمها من البرودة وكل شيء تلمسه كان يوجعها – لم تفهم ما فائدة هذه القفازات – وعندما عثرت أخيراً على مفاتيحها قامت بفتح باب البيت ودفعت عربة ابنها إلى الداخل. لم يكن البيت دافئاً. وقفت في مكانها للحظة، تشعر بالدموع تتجمع في عينيها ثم تنسحب، تغلق الباب ورائها، وتذهب إلى المطبخ حيث زر تشغيل المدفأة… وتجد اللمبة الصغيرة مطفئة.

تترك ليلى صغيرها في كامل زيه الشتوي فهو أفضل حالاً هكذا، ثم تخلع قفازاتها اللعينة وسترتها وتدخل كفيها تحت كنزتها الصوفية ثم تحت إبطيها، تقف هكذا تحتضن نفسها في صمت البيت، في صمت الدنيا، تغمض عينيها ولا يفيقها إلا صوت ابنها ينادي عليها، فتحمله وتضمه إلى صدرها وتقبل رأسه، ثم تدخل به إلى غرفة النوم ويتدثران بالبطاطين، يرن هاتفها وترد على اتصال أمها من مصر التي تتسائل متعجبة عن عدم ذهابها إلى المكتبة اليوم، فتخبرها ليلى إن أنشطة الأطفال ملغاة في المكتبة هذا الصباح، وتسألها عن جديد أحوالهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصة مصرية 

مقالات من نفس القسم