يسري أبو العنين
فى مجموعته الرائعة “ما يشبه الظل” والتى صدرت عن دار الحكمة 2024, لا يقيم حسام المقدم حدودا فاصلة بين الكتابة والعالم .. فالكتابة فى هذه المجموعة تتحول إلى تجربة جمالية تطرح نوعا من الوجود المغاير الذى يجعل لذة النص وعاءا كبيرا يحمع الثقافى والوجودى والميتافيزيقى وتخرج الدفين الذى بداخل كل منا .
“ما يشبه الظل” هو عنوان المجموعة القصصية التى تخلو من أى نص يحمل هذا العنوان .. هو عنوان اختاره حسام المقدم بذكاء ينم عن وعى حقيقى بما يريد أن يصل به إلى القارئ .. فهو يجيد اختيار عناوين نصوصه بشكل مذهل.. عنوان المجموعة وكذلك بقية عناوين النصوص, لا يختارها من داخل نصوصه, ولن يكون هذا العنوان مفتاحا لفهم النص وكشف غموضه, لكنه سيظل مبهما حتى تنتهى من قراءته, وحينذاك يتجلى لك العنوان كنص موازى, ويمنحك بعدا آخر ومختلفا للقراءة.
بداية.. لماذا “الظل” عنوان للمجموعة وما هو الشئ الذى يشبهه.. فى كتاب “مديح الظل”, للروائى اليابانى “جونشيرو تنايزاكى” تطرح قضية الهوية بإحياء عالم الظل الذى يمثل هوية الفرد اليابانى, وتنايزاكى يدعو إلى التشبث بكل ماهو قديم حتى يستعيد اليابان أشياؤه التى غيبتها الحضارة الغربية, وفقدت فى صخب التكنولوجيا .. وفى الفلسفة نجد أن الظل هو المجال الذى يظل بعيدا عن النظر العام ..
هو المنطقة المهمشة أو المتجاهلة فى الحياة والمعرفة, والظل ليس مجرد غياب للضوء بل هو كيان, يكشف عن جوانب خفية فى النفس البشرية والكون المحيط, فهو رمز للجانب المهمل أو المخفى من حياتنا سواء على مستوى الفرد أو الجماعة, وهذا فى رأيى مادفع حسام المقدم لاختيار ما يشبه الظل عنوان عنوانا لكتابه, على اعتبار أنه يمكن تشبيه الظل بالجانب الذى لانرغب فى مواجهته فى أنفسنا, ولهذا فإن حسام المقدم ومن خلال هذا العنوان يدعونا إلى التأمل فى الجوانب المظلمة والمضيئة فى حياتنا, حيث أن المظلم والمضيئ فى النفس البشرية هو جوهر الوجود الانسانى.
عند قراءة نصوص هذه المجموعة, ستجبرك اللغة الآخاذة, أن تعيد قراءة الجملة مرتين لتستطعم جمال الكتابة.. هذه اللغة الفصيحة التى تسكنها روح العامية وتتماهى معها حتى لا تستطيع أن تراهن إذا ما كانت النصوص مكتوبة بالعامية أو بالفصحى.. هى لغة تنقل إليك روح النص, فتعيش معه وتدخل إلى ذائقتك دون عائق.
يستخدم حسام المقدم دائما, وربما فى معظم نصوصه ضمير المتكلم, حيث الكتابة تصبح أكثر خصوصية وعمقا, وأقدرها على قوة الجذب والتأثير على القارئ والمتلقى, ورغم أن الكتابة بضمير المتكلم تشكل عبئا كبيرا على كاتبها, حيث تصبح بابا عريضا لإتهام الكاتب وربما تجريمه, أو تكون نافذة لدخول رياح الشك, حيث يجد الكاتب نفسه مدان بأحداث النص, لذلك نجد أن الكاتب الذى يكتب بضمير المتكلم, عليه أن يكتب بشجاعة وذكاء ولا يبالى بما ستؤول إليه الأحداث داخل النص أو إلى أين يصل شك القارئ, وهكذا فعل حسام المقدم فى نصوص مجموعته الرائعة, ففى قصة “تشكيل طينى يشبه حبة القمح” هو ذلك الطفل الذى يجد لكل شئ شبه, فوجوه البشر لديه تشبه الأُسُود, وشجرة الجميز مثل المرأة الحامل, ومأذنة الجامع مثل القلم الرصاص, وهو مع مرور الزمن ينسى هذه التشبيهات, لكنه لا ينسى حبة القمح وذلك الشبه الفريد بينها وبين المكان الحميم فى الجسد الأنثوى, هذا التشابه الذى ظل يشغله منذ أن اكتشفه لأول مرة, عندما كان طفلا صغيرا تستحم أمه أمامه.. هو شبه قديم ومعروف فى الميثيلوجيا الفرعونية, عرفه الفراعنة وكتبوه على جدران معابدهم كتجربة غاية فى الأهمية تستحق التسجيل, حيث كانوا يعرفون نوع الجنين من إنبات حبتين أحدهما من الشعير والأخرى من القمح باستخدام بول المرأة الحامل, فإذا نبتت حبة الشعير كان المولود ذكرا, وإذا نبتت حبة القمح كان المولود أنثى وذلك لهذا التشابه الدقيق بين عضو المرأة وبين حبة القمح.. هذا التشابه جعل بطل القصة ينحت تمثال شبيه لهذا العضو واحتفظ به مع مجموعة التماثيل التى نحتها أيضا فى كرتونة خاصة بألعابه, يخرجه أحيانا ليتأكد من طراوته, ولونه الطينى الأسود الذى قاده إلى استكشافه الكبير, أنه كما أن العمق الأسود فى باطن الطين تخرج منه النباتات والأشجار, كذلك التكوين الذى صنعه أيضا له عمق, صحيح لا يراه, لكنه عميق يتكون فيه الناس, وتنبت لهم أذرع وأرجل ورؤوس, ومنه تبدأ الحياة.. وفى نص “أوقات للعظام”, يصدمنا بلغة مرعبة آسرة, ومقصودة, متأثرة بعبارة تتصدر النص, كتبها جان جينيه ومأخوذة من شهادة فريدة على واحدة من أبشع المجازر فى القرن العشرين بعنوان” أربع ساعات فى شاتيلا” ترجمة المبدعتين أمينة رشيد ورضوى عاشور, وفى “أوقات للعظام” يجرى الكاتب حوارا مع عظام مقبرة لأقاربه, قصفت فى أحد المخيمات, ويتحدث عن مشاهد القصف, حيث أنصاف الشواهد المحطمة والجدران المنهارة, والعظام التى فى كل مكان التى تجرى وتزحف وتعرج, وجماجم وأفخاذ وأذرع, حتى عقلات الأصابع تنفرط قافزة, وعظام هشة على وشك التهشم, وأيضا عظام منخورة متماسكة وأخرى جديدة لم تتعر من لحمها, فنجده هنا يناشد عظمة وهو يقول لها “انتظرى, أنا وكل هؤلاء هنا من أجلكم”, كما أنه يصرخ فى جمجمة تحرك أسنانها بعصبية” لا تتركوا مكانكم, فكروا من جديد, إلى أين تذهبون”, ثم يلمح وجه شاعره المفضل بين العظام ويسأله” قلت أن ( البيوت تموت إذا غاب سكانها), فكيف هى المقابر أذا هاجرت عظامها؟”.. فالمقابر لديه تعنى الوطن .. تعنى الأرض التى تضم رفات سكانه والذى بدونهم يغيب الوطن.
أعرف حسام المقدم مثقفا وقارئا نهما وكذلك مبدعا وانسانا جميلا, لكنى أجزم أننى لم أعرفه كما عرفته من خلال ما يكتبه, فكل كتابه له هى اكتشاف جديد لذاته, هو أيضا فى كل نص له يعيد أكتشاف نفسه, يصل لمعرفة ذاته من خلال تحاوره مع النص, ففى قصة “قلب المتحف”, يوقفه مقطع من أغنية “رباعيات الخيام” يصدح من مقهى قريب حيث كان يمضى “القلب قد أضناه عشق الجمال”, وعندما يدخل إلى المقهى يتمنى لو يقف فى منتصف المقهى ويزعق: ” الأيام الضائعة كثيرة, تكاد تكون هى القاعدة”, ثم يدور حوار بينه وبين صاحب المقهى بعد أن يدعوه إلى الدخول معه فى غرفة ضيقة, غرفة عبارة عن متحف صغير يحوى كل الشرائط المسجلة لجميع أغانى أم كلثوم, ويكتشف من خلال الحوار أنه وجد جزءا من نفسه فى كلام الرجل, فهو فى المقابل من حديث صاحب المقهى لا يحتمل أن يعيش ويتحرك وهو مسمر بروحه فى مكان واحد.
حسام المقدم باحث دائم ودؤوب عن ماوراء الشئ, هو دائما حالة طفولية تبحث عن معنى الوجود والأشياء, لا تشغله الأشياء المرئية والتى يراها الآخرون, لكنه يبحث عن الأشياء المخفية وراء الأبواب, وخلف السحاب, وفى أعالى الأشجار, ففى نص”سماء أسفل النافذة”, ثمة سؤال وجودى عن المصير, فعندما طلب أن يرى الله من جماعة بوجوه طيبة , أوعزوا إليه أن يصعد إلى شجرة, ويظل يصعد حتى يصل إلى أعلى غصن, ثم يضبط أنفاسه المتعبة وينظر إلى السماء, وعندما يصعد ملتزما بقواعد الصعود التى فرضوها عليه, يكتشف فى نهاية الأمر أن رحلة صعوده إلى الشجرة المحفوفة بالإختبارات ماهى إلا إعادة لحياته حيث النشوة والابتهالات والدموع والفقد والإقتناص لما هو متاح, فرحلة الحياة, يمكنك أن ترى الله فيها فى كل خطوة تخطوها.
الكتابة لدى حسام المقدم ليست بديلا للحياة ولكنها تعكس فهمه لها, ليس من خلال الأحداث والتجارب التى عاشها, ولكنها كتابة تعكس فهمه لهذه الأحداث, ففى قصة “استدراج النور”, يلتقط حسام المقدم تفصيلات حيايتة صغيرة ويبنى عليها نصوص يعيد بها بناء الحياة, النص هنا ثلاث تنويعات قائمة على نفس الفكرة, وفى فقرة “أصابع الظل”, نجد أن الضجر والزهق والملل من انقطاع الكهرباء المتواصل يتحول إلى لعبة مشتركة بين الجيران من خلال استخدام الضوء الحاد والصادر من كشاف التليفون وما يعكسة على الحائط من أشكال ترسمها أصابع اليد المتحركة أمامة, فهناك حصان يجرى, وطيور شرسة تتقاتل وهى تطير, أما هو فيرى من خلال ما ترسمه أصابع يده, حشرات زاحفة, وضفادع, ومسدس يصوب الطلقات, حتى يجد أن أصابعه تنفرج وترقص وتتلاعب بخفة ليتحول الغضب من انقطاع الكهرباء إلى لعبة.. بينما فى مقطع “حقول النجوم”يرتكز على جملة من حكاية قازاخية ذكرت فى “بستان البدائع” ترجمة أبو بكر يوسف, “من يروى للخان أربعين حكاية كاذبة دون توقف وبلا كلمة صدق واحدة فسيحصل على أربعين كيس مملوء من الذهب”, فيحكى على لسانه للخان, أنه من بلاد تزرع بذور الأقمار والشموس فى أرضهم الخصبة, فتنبت لهم بعد ساعات نجوما خضراء مشعة, يتم جمعها وتخزينها فى غرف خاصة لاستخدامها فى توليد الكهرباء.. وفى مقطع ثالث ” عجينة سوداء” يلتهم ورق الجريدة التى تحمل أخبار عن جهد الحكومة فى انهاء أزمة انقطاع الكهرباء وحيذاك يشعر بتقلصات متتالية تجعله يتقيئ الكلمات والحروف على هيئة عصارات الحبر المخلوط بعجينة السطور.
منح حسام المقدم بعض نصوصه حرارة انسانية بنكهة خاصة ارتكزت على تجربته الشخصية, فهو يتحدث فى “شرارة سوداء” أولى نصوص المجموعة عن علاء الشخص الذى ينطبق عليه المثل ( لا بحبك ولا بقدر على بعدك) .. شخص فى حياتنا جميعا, محدود الكلام, ردوده مبتورة ومقتضبة, غير مريح, يجعله يهرب دائما من لقاءه, وعندما يميل الباص اللذان يستقلانه فى طريق العودة فى لحظة مباغتة, لايتصور عندما ينقلب الباص أن يكون مع هذا الشخص فى عناق أجبارى يستميت على النجاة , فيطلب من السائق أن يتوقف, ليهبط من الباص ويمشى على قدميه المسافة الباقية .. وفى قصتى” صوت أبيض” و”فى الطريق إلى أميرة النار”, يناقش المقدم تجربة السفر من منظور انسانى ويتكلم ن ذلك الفراغ الهائل والهوة العميقة التى تقع بين فكرة العودة إلى الوطن والبقاء فى الغربة, يتحدث أيضا عن القلق الذى فى الصدور والذى يدفع النفوس إلى النفور والبعد والاختناق الكامل والكُرْه المؤقت ثم الانجذاب الاجبارى الذى لا مفر منه بين ناس فى الغربة يجمعهم فراغ محكوم بأبعاده وسماه.
لا أستطيع أن أتحدث عن كل نصوص الكتاب, لكن استطيع أن أقول أن حسام المقدم يحول الكتابة فى هذه المجموعة القصصية إلى نوع من ممارسة الوجود الحى الفعال, بدل من الوجود الزائف المدفون تحت ركام الأحداث اليومية البسيطة, لذلك امتعنا ببحثة الدؤوب عن أيجاد كل ما هو جميل وبديع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد مصري