“ما يشبه الظل” ..أعين تراقبنا من  الأعماق

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أفين حمو 

من منّا لم يسأل نفسه ذات عبور ماذا لو رافقني ذلك الغليظ، ثقيل الظل، في الرحلة الأخيرة؟ أو ماذا لو لم ترضَ العظام بمقامها، ونهضت من تحت التراب، لا لتنتقم، بل لتعاتب؟ ماذا لو كانت للموتى أعينٌ لا تنغلق، تراقبنا من الأعماق، وتضجر من خفّتنا، من عشوائية قراراتنا، من صخب الحياة بعدهم؟

غابرييل غارسيا ماركيز تحدّث عن موتى يعودون ليعيشوا بيننا كأشباحٍ لا تؤذي، فقط تراقب.

 ومحمود درويش سأل الموت سؤالاً مفتوحًا في “جداريته”، كأن الأموات يهمسون لنا كلما أخطأنا. بينما أدونيس يرى في القبور خيانات متكررة… مدنًا هجرت موتاها قبل أن يهجروها. وكأن الجميع يتفق على شيء واحد: أننا نحن، الأحياء، لا نُحسن وداع الذين غابوا، ولا نُتقن مواساة ظلالهم التي ما زالت تحوم حولنا.

وها هي مجموعة “ما يشبه الظل” تأتي لتوقظ هذا السؤال القديم من رماده، بأسلوب يتهامس مع ما وراء الغياب، ويضعك وجهًا لوجه مع أشكال متعددة للفقد… الفقد الذي يمشي بجانبك، يكلمك، ويبتسم أحيانًا، ثم يخذلك دون مقدمات.

حينما تبدأ رحلة القراءة في مجموعة “ما يشبه الظل” لحسام المقدم، تشعر بشيء غير مرئي يرافقك. شيء لا يُقال، لكنه حاضر في المعنى، يشبه ذلك الظل الذي يلازمنا دون أن نراه، لكنه لا يفارقنا. المجموعة تحمل أثراً يتجاوز حجمها، كأن الكاتب لا يكتب قصصاً فحسب، بل يوقظ شعوراً دفيناً في أعماقك.

ما يلفت الانتباه في هذه المجموعة هو خيط رفيع يربط معظم القصص: ثنائية الحضور والغياب. كل قصة تدور حول شيء غير معلن، يقف خلف الكلمات، يلوّح ثم يختفي، تاركاً أثراً شاحباً يشبه ظلّاً على جدار الروح، صامت لكنه لا يمكن تجاهله.

في قصة “شرارة سوداء”، نُحلق في لحظة تحول صامتة، حيث تُشعل شرارة صغيرة ظلمة متراكمة، بداية تغيّر عميق في النفس. لا نقرأ حكاية خطية هنا، بل نعيش حالة نفسية مشحونة، التوتر بين الانطفاء والانفجار، الصمت والغضب. يصف “علاء” في لحظة انتظار داخل أتوبيس مزدحم، تفاصيل الوجوه، صمت الكلمات، وتوتر الجسد:

أجلس على نار في انتظار أن تكتمل الكراسي أنظر في الساعة، أنفخ، أشعر بضربات في رأسي تتجسد وتتجاوز إيقاع النبضات، شيء في بطني يتكور ويلفّ محدثاً وجعاً.”

تتجلى هذه الحالة في تردد الكلمات التي تعجز عن التعبير، والمشاعر التي تتراقص بين العيون، لكنها لا تجد منفذاً:

يمكنني أن أعد الكلمات التي تبادلتها معه، أقول له: ‘إيه الأخبار؟’، يردّ: ‘مفيش جديد’. التقت أعيننا في نفس الجزء من الثانية، لكنه حول نظرته بخطفة بارعة، خطفة تنزع العين من العين دون أن ينحرف مؤشر الزمن.”

هنا، الصمت ليس فراغاً، بل فعل، وغياب الكلام هو الحضور ذاته. اللغة تتكثف، وتتحول لحركة دائمة بين الداخل والخارج، بين الرغبة في المواجهة والهروب منها.

أما في  “أوقات للعظام”، فتأخذنا إلى مقبرة، لكن ليس للحديث عن الموتى كما اعتدنا، بل عن صمتهم الذي يتحول إلى كلام، عن حضورهم الماثل رغم غيابهم.

“بعضنا لم يتوقف عن التذكير بأن قضية عودة العظام إلى قبورها لا تقل قيمة ولا معنًى عن عودة اللاجئين إلى أرضهم“.

العظام هنا لا تروّعنا لأننا نخاف الموت، بل لأنها تذكّرنا بمن نسيناهم. لحظة تقف فيها، تفكر: كم من “عظام” مرت في حياتنا دون أن نلتفت إليها؟

جميعكم، في أول النهار المُشعشِع، تُبصرون المقابر عامرة بالعظام، وبعضها مملوءة بهياكل كاملة. متى عادوا؟ تنظرون وتستعجبون… تقريبًا لا تنقص عظمة واحدة.”

القصة ليست عن الموت، بل عن العلاقة الغامضة بين الأحياء والموتى، بين من رحلوا ومن لم يعرفوا كيف يودّعون.

وفي قصة  “صوت أبيض”، لا نحتاج حدثاً كبيراً، القصة تضيء لحظة صغيرة في الروح. رفعت، السائق المصري الذي يتمنى لو كان باستطاعته أن يملك بساطا سحريا فيجلب والديه ويحجون معا. رفعت الذي يسمع صوت عبد الباسط عبد الصمد، يصبح رمزاً لذلك الإنسان الذي يحمل في داخله حنيناً دفيناً لأشياء فقدها.

“يا سلام عليه في التسجيل الحي على إذاعة القرآن الكريم، قبل الإفطار في رمضان وآه عندما يقرأ سورة «يوسف»، ويأتي عند «وقالت هَيْتَ لك» بِكَم قراءة قالها؟“.

الصوت لا يمثل مجرد ذكرى، بل ملاذ الأمان، الوطن، الأب، الذاكرة، وكل ما رحل عنا دون أن ننساه. القصّة هنا حسّاسة، لا تدّعي فلسفة، لكنها تفتح لك باب التأمل بهدوء.

تأتي “تشكيل طيني” كرحلة داخلية، تأمل أكثر منها سرداً تقليدياً. الطفل يرى العالم بعين لا تشبه عيوننا، حيث تتحول الشجرة والمئذنة والرصيف إلى رموز، وكل شيء قابل لأن يُشبَّه، لأن يتحول.

عضو الخُصوبة الأنثوي هو الشبيه بحبة القمح؛ لأنها سابقة في الوجود، تُخبرنا الكُتب المُقدسة أن النباتات والحيوانات وُجدَت على الأرض قبل الإنسان. بذرة اكتشافي هي أمي.”

لغة حسام المقدم في هذه المجموعة  ليست لغة صاخبة او زخرفية بل تقترب من الشعر النثري، لكنها تبقى بسيطة ودقيقة في اختيار الكلمة ،حيث يلتقي البساطة بالعمل ويذوب الحزن في حنايا الحنين ،تحمل في طياتها تساؤلات هادئة عن كيف تشكّل رؤيتنا للعالم، وكيف يعيدنا مشهد صغير إلى طفولتنا حيث التشبيه كان وسيلة لفهم الحياة.

مجموعة “ما يشبه الظل” ليست فقط سرداً للأحداث، بل تجربة شعورية تلامس فكرة الغياب والحضور بعمق. هذا النسيج المتشابك من المشاعر، الذكريات، والصمت يجعل القارئ يشكّك في حدود الوعي بين الأحياء والأموات، في سحر الكلام الذي لا يُقال، وفي وزن الظلال التي نعيش معها.

حسام المقدم، في هذه المجموعة، لا يقدم لنا مجرد قصص، بل دعوة للوقوف أمام غموض الذاكرة، وللحديث بصمت مع ما يشبه الظل ذلك الغائب الحاضر. وربما  كما همس لنا في البداية  ما زال بعض أولئك الموتى يراقبوننا من الأعماق، لا ليؤذونا، بل ليعاتبونا على خفّتنا، على نسياننا السريع، وعلى أننا لم نحسن وداعهم.

مقالات من نفس القسم