إيمان عبد الرحيم
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا
سورة الكهف آية 104
أعاد رضوان عزّ الرجال عقد ربطة عنقه للمرة الثالثة. يشرع الآن في فكها من جديد، ثم يتراجع. يتناول زجاجة الكولونيا من على الكوميدينو جواره، وللمرة الثانية يضع بعضا منها على الجروح التي خلّفها على عنقه ووجه إثر الحلاقة. يفتح شنطته السمسونايت جواره للمرة الخامسة ليتمم على ورق المشروع، يشرد قليلا بعد أن يغلق الشنطة، ثم يهب فجأة واقفا من جلسته على السرير. يتجه
إلى مكتبه سريعا، حاملا الشنطة معه، يفتح أحد الأدراج، ويخرج منه مجموعة من الأظرف، يحتفظ فيها بمراسلات المشروع. ينظر مليا للختم الرئاسي المطبوع على الأظرف المخصصة لمستندات الموافقة، ثم يحمل الخطابات مرتبة بتاريخ الإرسال، ويضعها في الشنطة. يحمل الشنطة، ويلقي نظرة أخيرة على هيئته المتأنقة في المرآة المجاورة لباب الشقة قبل أن يغادر.
رضوان يقف الآن في الشارع، أسفل العمارة المتواضعة. يهمّ بأن يوقف تاكسي أسود قديم، ثم يتراجع. تمر ثلاث تاكسيات من أمامه، ويحجم عن أن يوقف إحداها. يُلّوح أخيرا إلى تاكسي أبيض يبدو فخما. يسأله السائق عن وجهته، فيجيب بفخر طفولي: “قصر العروبة، صلاح سالم”. يهز السائق رأسه في عدم فهم، فيكمل رضوان قائلا: “قصر الريّس”. يوافق السائق، فيركب رضوان في الخلف معتدا بنفسه.
يتأمل رضوان صالون التاكسي من الداخل بانبهار. يسأل السائق على استحياء عن طريقة حساب العداد. يجيبه السائق متعجبًا وساخطًا، فيخبره رضوان أن تلك هي المرة الأولى التي يأخذ فيها تَاكْسِيا أبيض. يثرثر السائق معه عن أسعار سيارات التاكسيات البيضاء الغالية، وعن نظام أقساطها المتعسف، ثم يسأله مترددا عن طبيعة عمله، ويجيبه رضوان، فيتعجب السائق، ويسأله وقد تجرأ قليلا بعد الثرثرة، عن سبب توجهه للقصر الرئاسي.
يتحدث رضوان باعتزاز عن الخطوط العريضة لمشروعه، وعن الثورة التي سيحدثها في البلد، إذا ما تم تنفيذه فعليا. تتهلل أسارير السائق، ويدعو لرضوان بالتوفيق، ويطلب منه أن يفتكره.
التاكسي يسير الآن في شارع “العروبة” الشهير ب “صلاح سالم”. الشارع مزدحم، والسيارات تسير على مهل. يتأمل “رضوان” قصرا بديع الجمال التقطته عيناه على يمينه. يسأل السائق ذاهلا إن كان يعرف صاحب القصر، يجيبه السائق بأن لا أحد يعرف عنه حاجة، لا بد أنه مليونير، من حيتان الفلوس في البلد. يقول رضوان: “إذا كان هذا القصر لمجرد مواطن، فما بالك بقى بقصر الريس! أصلا هل يوجد ما هو أجمل من قصر كهذا في الكون؟!”. يقهقه السائق ويخبره أن هذه البلد مليئة بالفلوس، يخبره أيضا أن لا أحد يعرف كيف يبدو قصر الريس، فبوابة القصر الواقعة في هذا الشارع، تبعد عن القصر نفسه، عشرات الكيلو مترات، كما أن هناك الكثير من الأشجار العالية التي تفصل بين البوابة والقصر، بحيث تحجب عن عامة الناس رؤيته.
يصل التاكسي أخيرا إلى بوابة القصر، الواقعة على الجهة اليسرى من الشارع. نزل رضوان ونقد السائق أجرته. ثم عبر اتجاهي شارع “صلاح سالم”، واتجه رأسا إلى بوابة القصر. استقبله الحرس الجمهوري ببنادق مصوبة تجاهه. ترك الشنطة تقع من يديه، وتحجر مكانه فزعا. توجه إليه أحد القادة، ذوي الرتب العالية، طالبه بأن يخرج بطاقته، وسأله عن سبب تواجده في هذه المنطقة المحظورة.
أخبره “رضوان” عن موعد مرتب مسبقا للقائه بالرئيس، وأخرج من شنطته الخطابات التي استلمها من سكرتارية القصر الرئاسي.
توجه القائد حاملا الأظرف في يده، إلى كابينة مجاورة للبوابة، ثم عاد بعد دقائق ليخبر رضوان أنه بعد قليل سيكون في رفقته مندوب رئاسي، ليصحبه حتى يقابل الرئيس شخصيًا. مرّت دقيقتان كأنهما الدهر، ثم ظهر فجأة رجل قصير بدين، يرتدي بذلة بنية، مُشمرًا ذيل جاكيتها الأيسر، بفعل اللاسلكي الضخم المعلق في حزام البنطلون، يجاوره مسدس يعلن عن نفسه بشكل فج، لا يعرف رضوان من أين وكيف جاء هذا الرجل.
يتجه الرجل بخطوات لاهثة إلى قائد الحرس، ثم يتجه الاثنان معا نحو رضوان، يتم التعارف سريعا، ويتجه رضوان مع المندوب مجتازا البوابة، بعد أن يعيد له قائد الحرس بطاقته. الطريق بعد البوابة يمتد طويلا، بما يجاوز مدّ البصر، على حوافه أشجار كثيفة، ضخمة جذوعها، وشاهق ارتفاعها. يتوغل رضوان مشيا مع المندوب في الطريق، الصمت يحلق فوقيهما، ثم بعد أن يبعدا عن البوابة خلفهما حوالي المائة متر تقريبا يتوقف المندوب لاهثا، وتظهر أمامها في الأفق القريب، مؤخرة سيارة سوداء فخمة متوقفة.
يواصلان المشي من جديد، بعد أن أخذ المندوب نَفَسه، ويقتربان من السيارة شيئا فشيئا، حتى يصلان إليها. يدعو المندوب رضوان للركوب في الخلف، بعد أن يفتح له الباب، ثم يركب جواره. ينطلق السائق بسرعة ثابتة، لا تتجاوز الستين كليو مترا في الساعة. بعد عشرين دقيقة تقريبا، تتوقف السيارة أمام مبنى بلا نوافذ، يرتفع لمترين فقط عن الأرض، بينما عرضه لا يجاوز المتر تقريبا، وفي واجهته باب حديدي. يحادث المندوب أحدهم في اللاسلكي، فينفتح الباب تلقائيا، كاشفا عن حجرة فارغة، مصمتة.
يدخل المندوب، ويليه رضوان. يتجه المندوب إلى باب ذي درفتين يتوسط أرض الغرفة. يحادث أحدهم في اللاسلكي من جديد، فيُفتح الباب كاشفا عن سلم حلزوني، يمتد عميقا موغلا في باطن الأرض. يلهث رضوان، غير قادر على التنفس، بعد أن ينزل مع المندوب عَدَدا لا يكاد يحصيه من السلالم، ينتهي الدرج أخيرا وتقودهم طرقة صغيرة ضيقة من بعده إلى باب حديدي مغلق بإحكام، يتحدث المندوب في اللاسلكي فيفتح الباب، يدخلان بعدها إلى غرفة مصمتة أخرى تتوسطها نفس البوابة على الأرض، تقود إلى سلالم تطابق الأولى تماما لينزلاها من جديد معا.
ينزلان العديد من السلالم، تقود إلى العديد من الغرف المتطابقة، لم يعد يعرف رضوان كم غرفة مر منها، كان في البداية قد أحصى عدد أربع غرف، قبل أن يتملك منه التيه والتعب، لم يكن تعبا فحسب، بل إنه لم يعد يعي بوضوح إذا كان مستيقظا، أم إنه في واحد من أسوأ كوابيسه.
يصلان أخيرا إلى طرقة ضيقة، تفضي إلى حجرة مصمتة، بدون باب في باطنها هذه المرة، ولكن هناك باب حديدي يشق إحدى جدرانها -عوضا عن الباب الذي دلفا منه-، يفصح الباب عن حديقة بديعة التنسيق، وفيرة الأشجار، تطل على شارع “صلاح سالم” من ناحيته الأخرى، المعاكسة لتلك التي دخل منها رضوان إلى بوابة القصر. يصعق حين يرى ذلك القصر بديع الجمال متوسطا الحديقة، نفس القصر الذي سبق أن سأل سائق التاكسي عن مالكه. يتجه ذاهلا مع المندوب نحو القصر. رضوان جالس الآن في الطابق الثالث من القصر، وجها لوجه مع سيادة الرئيس، في حجرة مكتبه. يتكلم عن مشروعه متلعثما، يمسح بمنديل حلته العرق عن جبينه بصورة متكررة. يشجعه الرئيس بابتسامة أبوية بينما تقلب يديه -أي الرئيس- في ورق المشروع الأبيض الخالي إلا من السطور الفارغة، فيواصل رضوان الشرح، حتى ينتهي. يحل الصمت مطبقا لثوان معدودة، يهز فيها رضوان ساقه اليسرى لا إراديا. يتفوه الرئيس بعدها بكلمات الموافقة، والاستحسان، ثم المديح. يسلمه رضوان باقي أوراق المشروع الفارغة، بيد مرتجفة. يدخل المندوب بعد أن يستدعيه الرئيس، حتى يصطحب رضوان نحو بوابة الخروج. يخرجان معا من القصر، ويتجهان مباشرة عبر الحديقة إلى البوابة القريبة المطلة مباشرة على شارع “صلاح سالم”. رضوان يسأل المندوب بكلمات مهلهلة إذا كان الشعب يعرف أن الرئيس تغير، وأنه الآن يتنكر في هيئة سائق تاكسي أبيض فخم، في وقت ما قبل الظهيرة، يرد عليه المندوب بابتسامة صامتة، أثناء اجتيازهما البوابة إلى فضاء الشارع، الذي خلى تماما من البشر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “مقطوعات عن الحب والخوف” – صادرة مؤخرًا عن الكتب خان 2025