أقمنا حفل الزفاف في نادي وزارة المالية على الكورنيش، غير بعيد عن مسرح البالون. تعارف أهلي وأهلها لأول مرة. حضر جدها، وأمها وأخوتها عبد المعطي ورزق وأختيها الأصغر منها وفاء وزيزي، مع أولادهم. كنا خليطًا غريبًا، جزء ريفي في الجلابيب وشقاوة الصغار، وجزء قاهري تقوده أمي وأختي جميلة مع زوجها هاني وهو مهندس بترول متأنق، وزملائي في مسرح البالون، ومعظم أعضاء جمعية “حراس أم كلثوم”.
اتفقت سلمى مع الدي جي على تنويع الأغاني واختارت بنفسها “زيديني عشقًا” لكاظم الساهر، و”كعب الغزال”، لكن أكثر الأغاني التي رقص عليها الجميع كانت لحكيم وحسن الأسمر.
إحدى قريباتها كانت تملك جسدًا عفيًا، على فستان فضي لامع ملتصق بمفاتنها. تطوعت بوصلة رقص على أغنية “النار النار”. كانت مفاجأة مدهشة لي أن أكتشف فلاحة بهذا الجمال المغوي. ملت على سلمى وسألتها، فأجابت باقتضاب أنها بنت خالتها. لم أنس بنت الخالة هذه، وبعد سنين أخبرتني سلمى أن الكهرباء صعقت زوجها في السعودية، وبعدها رمت أولادها وهربت من القرية مع عشيقها.
تطوع شاب لا نعرفه، من شباب إمبابة، وقدم وصلة بهلوانية خطرة. كانت حماتي زنوبة تزغرد وهي تجلس على طاولة أمي التي تنظر إليها متأففة.
على موسيقى ناعمة وأضواء خافتة وقفنا في دائرة بين المعازيم ورقصنا وهي تلقي برأسها على كتفي. كان الحفل نموذجًا لأعراس التسعينيات. كرنفال ألوان وأضواء وقصمان هاواي مشجرة، وفساتين لامعة بالترتر. من حين لآخر كان فني الدي جي يعيد مقاطع من “ألف ليلة وليلة”:
“ونقول للشمس تعالي تعالي
بعد سنة
مش قبل سنة
دي ليلة حب حلوة
بألف ليلة وليلة”.
أحب استهلال الإيقاعات والكمنجات بنعومتها الجارحة ثم دخول الساكسفون. في لحظة الحب يختل ميزان الكون. فالليلة تساوي العمر كله. الشمس فضاحة لا لزوم لها. تستمر الليلة ويستمر الرقص والموسيقى. كأن الأغنية خلاصة ليالي ألف ليلة وليلة. شهرزاد وشهريار. سلمى وجلال. قفزت إلى ذاكرتي “رباعيات الخيام” مع “ألف ليلة وليلة”. البداية في الأغنيتين عن النشوة واغتنام اللذة، وفي النهاية التوبة إلى الله، الفارق الوحيد أن “ألف ليلة” تستعرض بهجة الروح والجسد دون أي شعور بالذنب:
“حاسين إننا بنحب وبس
عايشين لليل والحب وبس”
مع استعدادنا لركوب السيارة المزينة بالورود والشرائط الملونة، وصلت الأغنية إلى قفلة أقرب إلى الصلاة والمناجاة. كأن أولها صلاة حب وآخرها صلاة توبة:
“قولها للطير للشجر للناس
لكل الدنيا قول الحب نعمة
مش خطية
الله محبة الخير محبة
النور محبة”
معظم أغاني أم كلثوم أقرب إلى الحزن والآهات لكن “ألف ليلة وليلة” إحدى فلتات بهجتها التي لا تخلو من شجن، ومقامها مبهج بمذاق كل خمر الحب. أغنية كل عاشق تفيض في داخله غريزة الأرض، وكل صوفي يفيض به حب السماء. وكل امرأة تريد أن ترقص عليها بكل ذرة حب في كيانها.
صحيح أنها ليست شعرًا مصقولًا مثل “رباعيات الخيام” ولا تخلو من تعبيرات ركيكة لكن الحب يجعلنا نفرح ونسكر وننتشي ونردد أي كلام.
أهدانا قريب لعائلتها مفتاح شقته في دمياط الجديدة لقضاء أسبوع عسل هناك. آنذاك، كانت مدينة تحت الإنشاء ولا يوجد بها سوى شارع وحيد فيه مطاعم، اسمه “الصعيدي”، وللوصول إلى البحر كنا نركب “الطفطف” بلونه الأصفر وعرباته المجرورة. لم يكن الشاطئ مبهرًا لكنه مازال على طبيعته البكر. استمتعنا بالهواء النقي وتبادلنا قبلات في الماء. كنا نعود متعبين نقف معًا في المطبخ لتجهيز وجبات البلطي والبوري، بينما يغني محمد منير “ربك لما يريد أحلامنا هاتتحقق”.
عدنا إلى شقتنا. سلمى استأنفت عملها، واضطررتُ أن أذهب للتوقيع في المسرح. كنت أنتظرها في البانيو بعد ملئه بالماء البارد ونستلقي معًا ونحن نشرب البيرة.
ثم أتت اللحظة التي ينقطع فيها خيط العسل، عندما انزلقتْ في الحمام. حمدتُ الله أن رأسها لم يصب بأذى. رفعتُ ساقها في حجري وحاولت تدليكها بزيت الزيتون. ذهبنا إلى طبيب عظام وطمأننا بعدم وجود كسور وإنما كدمات. تعكر مزاجنا بعد أن كنا نفعلها في البانيو وعلى طاولة السفرة وفي المطبخ.
بعد تعافيها، كنتُ أكلم زميلتي أيلا عسل في التلفون الأرضي ـ قبل انتشار الموبايل ـ وكعادتنا كان الكلام لا يخلو من ضحك ونميمة عن غراميات زملائنا. كان لأيلا ضحكة ماجنة تثير بوليس الآداب نفسه، وكنتُ مستلقيًا في الغرفة الثانية المخصصة لأطفال لم نلدهم بعد، فوجئت بها تهجم كاللبؤة المتوحشة فتنزع سماعة الهاتف من يدي وتضربه في السقف. في تلك الليلة انتهى شهر عسل إلى الأبد.
آنذاك، زارنا الشيخ عبد السلام كي يبارك لنا، وكان بصحبته الأب أرسانيوس. أهداني الرجلان علبة صغيرة مغلفة بطريقة جميلة. اعتذرا عن عدم حضور حفل الزفاف لأنهما لا يحبان جو التنطيط والمسخرة. لاحظ الشيخ توتر الأجواء بيني وبين سلمى برغم تظاهرنا بالسعادة، وحين انصرفتْ لإعداد القهوة، نهض وجلس بجواري:
ـ “اسمع يا جلجل.. أنا وأبوك أرسانيوس قلنا نزورك ونهربك معنا”
تطلعتُ إلى الكاهن والشيخ كأنني أرى أمامي أحمقين عابثين يبتسمان، وبعدما انصرفا فتحت العلبة المغلقة. كانت براز جاف لكلب.
ـــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية “مجانين أم كلثوم” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية ,,معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025