“مدائن الربّ “.. حين تشتعل المدن بأسماء الله وتغيب العدالة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
تبدو الرواية وكأنها تنحتُ شخوصها من طين الشوارع. لا أحد هنا كامل. لا أحد هنا شرّير بالمطلق. كلّهم مجبرون على الرقص في العتمة.

أفين حمو 

في بلادٍ كُتِب عليها أن تتورّط في الحريق قبل أن تتعلّم الأبجديّة، لا يعود السؤال عن الألم مهمًّا، بل عن من يجرؤ على كتابته دون أن يرتجف.

هكذا تأتي رواية «مدائن الربّ» للكاتبة السورية “هند زيتوني”  الصادرة عن دار مرفأ، لا لتنافس روايات خالد خليفة في وصف أحوال الحزن السوري، بل لتوسّع هوّة الخيبة وتكتب الوجه الأكثر عريًا من الحقيقة.
إن كنّا قد رأينا في «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» تفكّك العائلة كرمزٍ لانهيار الوطن، فإننا هنا أمام عائلة مُبعثرة فعلًا، لا تحتاج إلى مجاز.
لا تسكن الرواية بين الاستعارات، بل في اللحم المكشوف، في السرد الواقعي الذي لا يخجل من الجسد، ولا يتوارى خلف الأيديولوجيا.

ثمّة كتب لا تُقرأ، بل تُنزَف.وثمّة روايات لا تقول شيئًا جديدًا، لكنها تُعيد الحكاية من الوجع الأوّل، من السقوط الأوّل، من الاسم الذي كُنّا نظنّه مرآة الله، فصار هو نفسه مرآة النار. وهذه واحدةٌ منها.كأن الرواية نُزِعت من ضلع المدينة.
كأنَّ سهير ليست امرأةً بل مرآة، وطلال ليس رجلًا بل خراب يمشي على قدمين من غبار.
في “مدائن الربّ” لا تدور الحكاية حول الحرب، بل تُصاغ من جسدها، من رمادها الدافئ، من ليلها الطويل الذي يُشبِهُ غرفة وكرٍ تُضاءُ بمصباحٍ خافت، ويُدار فيها الحوار بين الرغبة والبؤس.
لا تسأل الرواية عن الخلاص، لأنّها تعرف أن لا أحد يعود من جحيمٍ بهذه الفصاحة. وإذا كان خالد خليفة قد كتب عن الأسرار التي تموت في مطابخ المدن، فإن هذه الرواية تكتب عن الأرواح التي تُسلخُ في فيلاتها. لا مجاز هنا. بل مدينةٌ تتعرّى، عائلةٌ تتفكّكُ بالصوت والصورة، وشابٌ يُجرّد من حبيبته، من مستقبله، من ظلّه. إنها ليست رواية الحرب، بل رواية ما بعد الحرب، حين لا يبقى شيء لتقاومه سوى ألا تنسى.

في “مدائن الربّ “نتعرف على طلال الشاب الذي كان يبيع الأقمشة في دكان أبيه، صار يبيع نفسه في وكرٍ تديره امرأةٌ تعرف كيف تُغري الحياة.
سهير، الوجه الجميل الذي انكسر تحت الحرب، أعاد تركيبه على هيئة “عمل اجتماعي” مغلّف بالإغواء.

تقول :

الحياة قاسية، شبهَ مستحيلة، والجوعُ كافرٌ وأنا أعملُ بضميرٍ مع الجميع، وأدفعُ أجوراً كبيرةً وأمنحهم الحياة التي حُرموا منها وأعطيهم الأملَ لتحسين ظروف حياتهم التي تنهار يوماً بعد يوم.”

هي اعتقدت أن بيت الدعارة التي تديره واسمته “بيت السعادة “انها تنقذ شريحة من المجتمع وتمد يد العون لهم .

تبدو الرواية وكأنها تنحتُ شخوصها من طين الشوارع. لا أحد هنا كامل. لا أحد هنا شرّير بالمطلق. كلّهم مجبرون على الرقص في العتمة.

“أحلام”، الحبيبة التي غادرت إلى هولندا. لم تمت، لكنها غابت،
والغائبون أخطر من الموتى.

“ليال” حبيبة الحرب، حبيبة الصدفة، التي سكنت الوكر بعينيها فقط، ثم اختفت حين احترق كل شيء.

“صفوان” الأخ الأصغر، انضم إلى جماعة إرهابية. لم يكن شريرًا، كان فقط يائسًا من العدالة.

أما ” سليم”الأخ الأوسط، ابتلعه السجن دون حتى أن يُسجَّل غيابه في دفتر المدرسة.

“مريم “الأخت التؤام لسعاد التي واجهت الموت لتغادر على بلم لتنقذ طفليها من نار الحرب المشتعلة وتكتب رسائل لاختها التؤام وتخبرها عن ما عانته ثم الحياة الحرة التي حصلت عليها أخيرا في هولندا ،الحرية التي كانت وراء طلاقها من زوجها.

” سعاد” الأخت الكبرى، لم تكن تكتب مذكرات، كانت تكتب جثّتها وهي تتحلّل ببطء في مدينة تقصفها الذاكرة قبل الصواريخ:

“فجأةً أصبحَ الموتُ في بلدتي كالنَّهر الذي لا يغيّرُ مجراه، استفحلَ جريانُ مائه واستمرَّ لسنواتٍ حتى قلنا: كفى يا موت توقف! ألم تتعبْ من جمع الجثث؟ ألم تمتلئ جعبتُك وينحنِ ظهرُك من جمع الأجساد؟ لقد أصبحَ الموتُ كالمرأة الولود التي تقتلُ أبناءَها لتدخلَهم التاريخ، كلُّ الألم تجدُه في عيون الأطفال، أعينُهم كاميرا لا تكذب، تُدوّنُ كلَّ العذاباتِ والمعاناة التي مرَّ بها الوطنُ من جوعٍ وخوفٍ وفقدٍ وحرمانٍ ويأسٍ طويل.”

أما “سمية”التي ولدت في الملجأ، فقد انتصرت للحياة بطريقة الحيوان بصراخ الولادة.

وسمراء الأخت الأصغر، لم تهرب من زوجها فقط، بل من الوطن الذي يجعل القسوة ديكورًا شرعيًا للعلاقة.

رواية” مدائن الربّ “لهند زيتوني هنا تصرخ. لا تزخرف الجراح، بل تكشفها. في وصف السيدة سهير: “كانت ترتدي نظَّارةً سوداء، تبدو غاليةَ الثمن، تخفي وراءها أشياء كثيرة، ويلفُّ جسدَها الممتلئَ فستانٌ أحمر، يبدي تفاصيلَ جسمها المتناسق، والحذاءُ الذي كانت تنتعله كان يزيدها أنوثةً وجمالاً.”

أما في وصف الحرب تقول :
تلك الحربُ اللعينة التي تدمّرُ الناس، تترك العائلات بلا مأوى، بلا مكانٍ دافئ، بلا طعام، بلا شراب، بلا أمان. الذكريات تحترق، والآمال تتلاشى، الأمكنة الآن ملأى بالمجرمين والأوغاد الذين أصابتهم حمّى القتل، والغرائز الكريهة، وأصبحنا محاطين بالقتلة، والمشردين، القوادين، بنات الليل، والمتسوّلين. لم أكن أعرفُ أن الحيوانات المنويَّة تتحوَّلُ إلى أسلحة فتَّاكةٍ تدمِّرُ كلَّ شيءٍ في طريقها، كنتُ أسألُ نفسي أحياناً كيف يكونُ الموتُ عقاباً للبشر؟ أليس بالموت ترتاح النفوس؟ وهل كلُّ ما حدث في هذا الوطن حدثَ مصادفةً؟

وفي تبرير والد أحلام رفضه زواج ابنته من طلال: “هذا الشاب فقيرٌ جداً، لن يستطيع تأمين متطلَّباتك الحياتية، وخاصَّة لو أصبح لديكما أطفال، والأمر الأصعب من ذلك أنَّ شقيقَه الأصغرَ صفوان تطوَّع مع فرقةٍ إرهابية، كما وصلني الخبر الأكيد، وهذا يعني «سيضعون أرجلنا بالفلقة معه»، عليك أن تفكّري بمصلحتك أنت وإخوتك.”

أما اللغة، فهي ابنة الحرب أيضًا. لا تتجمّل حين يجب أن تصفع، ولا تتردّد حين يجب أن تعترف. لغة الرويّة تنوس بين التقريرية المظلمة والسرد المُشبع بالصور، لا تهرب من الدم، ولا من الجسد، ولا من الكلمات التي تُقال في الخفاء. هناك شاعرية مبطّنة، لكن لا شيء من التكلّف، الجمال هنا جملة حقيقية في قلب النار، وتلك ميزة نادرة. الجمل مشحونة بالوجع لا بالبلاغة.
كل حرف في الرواية يبدو وكأنه يجرّ وراءه أنفاس مدينة تعبت من الكلام.

حين تُحرق الفيلا، ويهرب الجميع، وتختفي ليال، وتُقتل سهير، لا تنتهي الرواية، بل تبدأ.
حين يرحل طلال، لا يُغلق الباب، بل يتركه مواربًا. هذه ليست خاتمة، بل فمٌ مفتوحٌ على سؤال طويل: هل هذا ما أراده الربّ؟

“مدائن الربّ” لا تُعطيك إجابات. لكنها تُرغمك أن تشعر أن الأسئلة نفسها، حين تُكتَب بهذا الصدق، كافية جدًا لتوقظك من غفلةٍ اسمها التعايش.

ربما نحن لا نقرأ رواية هنا، بل نوقّع على شهادة أن الوطن ليس فكرة، بل عائلةٌ تتشظى على مهل، امرأةٌ تفتح بيتها للجحيم، شابٌ يفقد نفسه بالتقسيط، وحبٌ يولد في الوكر ويحترق قبل أن يُنقذ أحدًا. كلّ ذلك كُتب بلا ادّعاء، بلا صراخ مجاني، بل بألم حقيقي يجعلنا نخفض رؤوسنا خجلًا أمام روايةٍ لم تكتب إلا لتشهد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم