مأساة الحلاج . وثلاثية الخمير الصحراوية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سارة القصبي 

تمثلت الصوفية بحضورها المسالم والهادئ في أفلام ناصر الخمير وهو مخرج تونسي يقدم طريقة أفلام مختلفة ذات تيمة صحراوية فانتازية تتسم بالسحر والغموض واستخدام بعض الرموز التراثية، يبدو الخمير عاشق للصحراء، لذا تلتقط الكاميرا الخاصة به زوايا الرمال والبيوت البسيطة بمكوناتها البدائية غير المعقدة.

يقدم في رائعته ثلاثية الصحراء حضور صوفي كامل، ونرى من خلالها الوجه الآخر من العالم الداخلي للنفس البشرية بدون أي تعقيدات، وقد ظهر تأثر المخرج التونسي في واحد من أجزاء هذه الثلاثية بالحلاج، اتخذ منهاجه خطًا رمزيا واضحًا لسير الشخصيات وهو جزء “الهائمون في الصحراء”

(علقناه فوق الكلمات)

هكذا كان وصف ميتة الحلاج من لسان مريديه

علقناه في كلماته ورفعناه بها فوق الشجرة

هل نحرم العالم اليوم من شهيد؟

كان نبأ عظيم ارتفع به محبوه، وافتتن به الجميع حتى هذه اللحظة، وانطلاقًا من هذا استلهم ناصر الخمير المخرج التونسي ثلاثيته الرائعة عن التصوف.

بزغ الثوب الحلاجي رغم مرور ألف عام على السيرة الحلاجية إلا أن كلماته وروحه لازالت محل التجلي والافتنان.

في ثلاثية الصحراء ظهرت الشخصيات كافة في رحلة، كل منهم باحث عن طريقه ووجهته الخاصة.

المُلفت للنظر أن الجزء الخاص بالهائمون ، كان همزة الوصل بين مأساة الحلاج وبين أهل هذه القرية التائه أولادها.

أثر الكلمة:

يُغادر أهل القرية قريتهم تاركين ورائهم كلمات الحلاج الشهيرة: لا تلمني فأنا شهيد

 يغادر ابناء هذه القرية تحت شعار البحث عن الروح، والاستشهاد في سبيل إيجاد هذا السبيل، فكل رحلة هي سبيل يحتمل الوصول أو الشهادة.

( لا يعنيني أن يرعوا ودي أو ينسوه

يعنيني أن يرعوا كلماتي في عصر ملتاث،

قاس وضنين،

لن يصنع ربي خارقة أو معجزة

 كي ينقذ جيلًا من هلكى

 قد ماتوا قبل الموت).

الطقوس الصوفية:

استعان ناصر الخمير بفكرة الحج الصوفي وهو التجول في الرمضاء، والحج بطريقة الصوفية، ظهرت شخصية بابا عزيز الشيخ العجوز الصوفي عالم النفحات والعلوم والأسرار متجولًا حتى يصل لموقع تجمع الدراويش السنوي، وهو مكان تجتمع فيه كل الأرواح المتصوفة بهدف لقاء روحي إلهي واحد.

امتدت رحلته حتى وصل بجسده إلى موقع رحيله نقطة الالتقاء والتوحد الذري الأخير، أمر خاص بتجليه الأعظم وتفانيه الروحي، أوصلت الشيخ العجوز لحالة من الطواف الروحي لعالم آخر تواصله مع الجزء الخفي عن الذات البشرية وهكذا تنتهي رحلته أو بوصف بابا عزيز هنا بداية الرحلة الحقيقية وما مضى كان مجرد حلقة العبور.

سأل الشلبي صديق الحلاج سؤال وقال

هل ما اشتقت إلى الحج؟

كان هذا استعراض من الشلبي يغرض حماية الحلاج ليسبح بروحه في الصحراء، لأنه كان محاطًا حينها بالأعين المتربصة واليد التي ترغب في قتله علنًا، وتم اتهامه في دينه وخلقه والطعن في حقيقة قربه بالله.

فما كان إلا من صديقه أن يشير له بالحج -بالمعنى الصوفي-

وهكذا حال الصوفي عند علمه واستشعاره بدنو الموت فلا يهاب القرب لأنه بمثابة العتق الإلهي التام والرحلة الأصلية الحقة.

فرد الحلاج قائلًا:

وهل أوقد قلبي إلا نار الحج؟

هل أنضج قلبي إلا وقد الصحراء وسعي الرمضاء والصوم إلى أن أغفي الجسم الناحل في جذع النخلة.

ولكنه رفض الذهاب وآثر بقائه بجوار أحبائه حتى الموت.

البراق:

ظهر رمز البراق في فيلم الهائمون على شكل صورة لكائن لا هو بطائر ولا دابة تمشي على أربع، ولكنه كان كائن يجمع بين الأمرين الغرض منه هو الصعود. كل مُسافر يُعلق صورة البراق، إشارة لنيته لبدء الرحلة الخاصة .

أزمة الإنسان المعاصر والتيه:

استحضر ناصر أشخاص يعيشون في بيئة صحراوية شبه منقطعة عن العالم لا يعلم عنها أحد أو عن جغرافية الموقع وكأنها قرية معزولة محكوم على أهلها بالتيه.وهذه القرية هي أزمة العقل البشري الذي يظل حبيسًا في تيهه الخاص واغتراب روحه عن العالم رغم وجوده الفعلي في فاعليات الحداثة الجمة. فتتجلى فكرة الهجرة والرحيل للإنسان المعاصر أحد الحلول المستساغة ضمن الكثير من الاقتراحات فيحارب الغربة بالرحيل!.

يظهر هذا الإنسان راحلًا ولكن ليس بمحدودية الترجل في الصحراء، أو انتظار ركوب البراق، يحلق بالطائرة دافعًا وراءه الوطن والأهل والعالم المألوف.

كل منا صوفي بوجهة مُختلفة:

هذا ما كان يحاول اثباته الخمير في ثلاثيته الروحية الفذة، أن الفرد يحمل بين طياته روحًا صوفية تحمله حينما يقرر أن يتبعها، وتغالبه روحه حينما يقرر أن يسعها ويطوف بها بجناحي الرخ القديم.

في عالم ناصر الخمير كل بطل يبحث عن ضالته، حسن في طوق الحمامة ظل باحثًا بقوة ولهفة عن الحب يحاول أن يستجمع المعنى الدلالي والمعجمي لكلمة حب!

حتى وفقه القدر مع حبه المُخبأ لأميرة سمرقند المسحورة خلف العالم الحقيقي، المأسورة وراء عالمنا المرئي قد بحث كثيرًا حتى وجد الحب في أقصى بقعة من العالم، دون خوف أو تردد قرر الرحيل لمعايشة حبه الباحث عنه مهما كانت العواقب.

في رحلة بابا عزيز كان ذلك العجوز الكفيف يقتاد الفتاة عشتار ببصيرة حادة، بوصلته الرئيسية في هذه الصحراء القاحلة هو الإيمان فقط.

من يعرف الإيمان لن يضل الطريق، قاده الإيمان لإرشاد بعض التائهين والباحثين عن طريقهم الخاص.

الكل يتشابك في طرق وأقدار يحل بها النور الإلهي والتجلي الإيماني منهم من يضل الطريق وتبتلعه الصحراء ومنهم من ينجح بالوصول

(إذا صادفت الدرب فسر فيه واجعله سرًا لا تفضح سرك).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية 

مقالات من نفس القسم