للموت طرقات ثلاث .. مرثية للحياة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مروى علي الدين

العنوان الذي لا يَعِدُ بالحب ولا بالنجاة، بل يفتح أبوابًا على الفناء. ومع ذلك، فإن الموت هنا ليس نهاية مفاجئة، بل مسار متدرج، يترصّد الإنسان في جسده، في حواسه، وفي يومياته الصغيرة.

 ندخل عالمًا تتقاطع فيه قوى الجسد والحواس والذاكرة مع الموت، لا بوصفه نهاية مفاجئة بل كمسار طويل يطلّ من ثنايا الحياة اليومية. ويشي استلهام المعنى من اقتباس الدكتور المُفكر المصري مصطفى محمود.

القصص الست عشرة تشبه محطات متتابعة، أو طرقًا جانبية لفهم الفناء، والمرور به على مهل.

عتبة العناوين: كل عنوان منها علامة، أو إشارة خاطفة إلى حال من أحوال الجسد والروح، أو مشهد من مشاهد العبور إلى الغياب.

تبدو العناوين مفاتيح أساسية للنصوص. فهي تشبه أول سلّم يصعده القارئ نحو المعنى؛ هشٌّ لكنه حادّ كالنصل الجديد، لامع، جذّاب، وسريع الفعل.

القصة الأولى: حزن ساق، الساق هنا ليست عضوًا جسديًا فحسب، بل قناة تبث الحزن وتنقله، كأن الحزن مادة قابلة للانتقال عبر الجسد. إنها أول وخزة: حزن يتسرب في هيئة شعور ملموس، ويُعدّ القارئ لما سيأتي تباعًا.

القصة الثانية: غرق الحواس

يتبدّى الموت كهدنة لا كقَطع فجائي. الحواس تغرق، وتفقد وظيفتها، فيصير العالم هدنة ثقيلة. الوخزة هنا ليست منشطة بل استراحة قبل الانطفاء.

القصة الثالثة: ورقة صفراء

اللون الأصفر نذير المرض والذبول. كما تسقط الورقة في الخريف، يتساقط الجسد حين يبهت جلده. في خلفية النص يظهر مشهد عنيف: صفعة رجل لزوجته تنقلب عليه فورًا، فيفقد عينه باليد ذاتها التي ضربت. هنا تتحقق عدالة كونية خاطفة، تجعل من الموت والمعاناة وسيلة محاسبة فورية.

 

القصة الرابعة: عِلّة الكابوس

تأتي هذه القصة امتدادًا سريًا لما سبقها؛ إذ إن أول سطر فيها يبدو كآخر غرزة في نسيج القصة السابقة. هنا لا يموت الجسد بل يتمرد، يتقيأ، يعيد ما لا يحتمل ابتلاعه. الغثيان فعل لا ينتظره أحد: قد يخرج منه حلم مهمل أو خيبة قديمة مدفونة في سلة النسيان.

القصة الخامسة: قوة الصوت

مفارقة السرد أن الأحداث تنبني على صوت مفقود. الصمت يسبق الظهور، والغياب يسبق الامتلاء. هكذا يتحوّل الفراغ إلى طاقة، والنقص إلى منبع قوة.

القصة السادسة: منتصر

العنوان هنا كلمة واحدة، إيقاعها يشبه حركة قطار سريع، لا حاجة إلى الاستطراد. “منتصر” يلخّص القصة قبل أن تبدأ، كأنها ذروة اختزالية. الانتصار لا يأتي من انسجام الأحداث، بل من عبثيتها المنظمة، من الفوضى التي تبدو كأنها خطة خفية.

في القصة السابعة: شارع الكلاب، لو مُنحت المجموعة هذا العنوان لكان أكثر تعبيرًا عن جوهرها. “شارع الكلاب” يحمل ملامح القسوة والعزلة، والبحث عن النجاة وسط ضجيج العالم. إنه فضاء يجمع كل الحيوات الصغيرة التي تتنازع وتتصالح مع الموت في آن واحد.

قصص إيمان أبو غزالة قصيرة، لكنها مثل وخزات متتالية: الأولى تُنشّط، الثانية تُهدّئ، الثالثة تُصفع، ثم تتوالى باقي القصص كغثيان، كصمت، كانتصار، وكشارع مكتظ بالنباح. اللغة حادّة، تعمل كالنصل الجديد، تجرح بسرعة وتترك أثرًا غائرًا.

بهذه المجموعة تعيد الكاتبة تعريف الموت: ليس كحدث مفاجئ، بل تجربة يومية متكررة، تتجلى في الحزن والمرض والعنف والغثيان والغياب. وفي النهاية، يصبح الموت مرآةً للحياة، وحياةً أخرى كامنة في جسدٍ يكتب مذكراته الأخيرة.

وهكذا، تتحول المجموعة كلها إلى مرثية للحياة، وإلى محاولة لترويض الغياب قبل أن يأتي في صورته الأخيرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية، المجموعة صادرة عن دار المحرر للنشر 2025

مقالات من نفس القسم