فصلٌ من رواية” لاحيلة مع الموت في الخريف” لـ هشام شعبان

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
مرّت الأيام، كم كانت الليالي  طوالًا، والبرد  قارسًا، ثم حين استبد به اليأس عثر على حجر طبشور، راح يقفز فرحًا، يرقص، يغني، أمسك الحجر وبدأ يرسم على الجدران، رسم قصرًا وأميرًا وإسطبلًا للخيول، رسم امرأة جميلة وطفلة ذات خصلات شعر منسدلة على كتفيها

هشام شعبان  

1

حين أبعدت هيام كأس الشراب المسموم عن شفتيها، وأسندت ظهرها إلى الخلف، راحت أحداث الأربع وعشرين ساعة الأخيرة من حياتها تدور أمام عينيها كما يدور شريط الفيلم السينمائي حول بكَّرة العرض..

***

في الليلة السابقة، بدت سماء الخريف شاحبة كالعادة، لم تعرف هيام كم من الوقت ظلت قابعة في مكانها دون حراك، تساقطت عليها أوراق شجرة الصفصاف اليابسة، ورقة تلو الأخرى، حتى افترشت أرضية الشرفة بسجادة هشة وصفراء.. سجادة يابسة كقلبها الذي لم يرتو يومًا بإكسير الحب..

رحلت شمس الغروب منذ مدة تاركة خلفها سماء ملبدة بالغيوم، رحل ضوء النهار مع الشمس على وعد بالعودة مع بزوغ الفجر، فيما حل الظلام ليزيد من ظلمة واقع هيام وبؤس أيامها..

فوق كرسي من عيدان الخوص، تقوقعت حول ذاتها، ضمت ساقيها نحو صدرها، والتفحت بغطاء قطني خفيف، بقيت على حالها حينًا، ثم ما إن تكاثر حولها ورق الشجر اليابس حتى مدت ساقها من فوق الكرسي وراحت بقدمها النحيلة تهشمه فتحطمه إلى عشرات الأجزاء الصغيرة، لم تدر هيام سر حماسها لتهشيم الأوراق اليابسة، وهي التي ستستيقظ في الصباح لتنظيف الشرفة ومسح جدرانها وأرضيتها وري أصص الزهور المعلقة على حافتها..

انطلق صوت الرعد مدويًا كأنه قنبلة. شُقت السماء فكأنها هوة سوداء بقرت من باطن الأرض. في تلك اللحظة توقفت هيام عن تهشيم أوراق الشجر، ورفعت بصرها إلى السماء غير عابئة بضي البرق الخاطف للأنظار، ثم همهمت قائلة:

– هل تشاركنا السماء صنع الضجيج على الأرض؟! يبدو أن حناجر الثوار ورصاصات الغدر الطائشة وروائح الحرائق ودخانها الذي يزكم الأنوف ويخنق الصدور ليست كافية في نظر السماء.. أم أنها أبت إلا وأن تشاركني ليلتي الحزينة وشق عليها أن ترى ليل الخريف الساكن يخنق روحي ويزيد وحدتي وآلامي.. آه منك أيتها السماء هل تتذكرينني الآن في آخر ليالي الخريف! وأين كنت طوال الليالي الماضية؟ بل أين كنت طوال فصول الخريف الكثيرة التي تساقطت فيها أوراق شبابي تباعًا كما تتساقط أوراق تلك الشجرة يومًا بعد يوم!

بدت مرارة الأسى والعتاب في نبرة هيام كما تبدو الشمس في قلب السماء وقت الظهيرة، ومن نبرتها إلى عينيها انتقلت المرارة فانحدرت الدموع فوق خديها، وجرت كما تجري الأنهار في شقوق وجهها الآخذة في البروز..

كلما مسحت دمعة سالت الأخرى، فما كان منها إلا أن استسلمت لسيل العبرات انتظارًا لجفاف عينيها.. صمت الرعد وتوارى البرق بأضوائه، ترى هل خجلت السماء من مأساتها الصامتة؟ هكذا سألت دون أن تبرح مكانها على الكرسي، وبعد لحظات أتاها الجواب في صورة أمطار مدرارة، بدت حبيبات المطر وهي تلامس وجنتيها وتختلط بدموعها المالحة فتبتلعها في جوفها، كأنها حبيبات قمح حملتها الرياح حتى أسقطتها فوق وجهها..

قالت:

– ماء وقمح! أتلك رسالتك أيتها السماء؟ أنني أنتمي إلى الحياة لا الموت.. آه ربما لا تفهمين معنى الحياة.. ربما كل ما تعرفينه عن الحياة هو شهيق القلب وزفيره، لا ما يحسه هذا القلب ويفجع له أو تنبسط له أساريره.

واصلت الأمطار هديرها فبدت مثل فيضان النيل.. قديمًا كان الفيضان حين يأتي يطيح بكل ما يواجهه، ولا ينجو منه إلا تلك البنايات الراسخة في الأرض المتشبثة بالحياة.. تلفتت هيام حولها، نظرت إلى أرض الشرفة فوجدتها بحرًا متلاطم الأمواج.. بحثت عن أوراق الشجر اليابسة التي هشمتها منذ قليل، فإذا بها تذوب في المياه وتختفي، سددت بصرها نحو الأوراق التي لم تهشمها بعد، فرأتها تسبح بعيدًا عن قدميها.. تحملها المياه إلى أركان الشرفة فتلتصق بها بعدما ارتوت.. علمت تلك الأوراق أنها لن تعود للحياة من جديد، لكنها أدركت أيضًا أنها الآن في مأمن من أن تدوسها الأقدام فتهشمها..

***

ببطء مدّت هيام قدميها نحو المياه بعد أن ركدت، سرت القشعريرة في جسدها، تذكرت يوم أن سافرت إلى الإسكندرية رفقة أبيها وأمها، كانت طفلة صغيرة، تزين شعرها بشرائط ملونة وترتدي زيًا خاصًا بالسباحة وتعدو على الشاطئ وهي تضع نظارة شمس صغيرة، تعدو نحو البحر ثم ما أن تغمرها الموجة حتى تهرع بعيدًا وضحكاتها تتألق في الفضاء.. كان أبوها ممدًا على مقعده ويقرأ جريدته المفضلة، فيما أمها على مقعد آخر إلى جواره لكنها لا تقرأ شيئًا، فقط تحدق في الأركان، حين تنظر إليها تشعر أنها تراقبك، لكن الحقيقة أنها لم تكن تراقب أحدًا، حتى ابنتها الصغيرة التي ارتفع صوتها المبهج فجذب المصطافين.. تذكرت هيام أن تلك كانت المرة الأخيرة التي يذهبون فيها إلى الإسكندرية في الصيف، فبعد بضعة أشهر توفيت أمها بداء السرطان.. وغلَّف الحزن حياتها ووالدها إلى أن نسي هو معنى الحزن ومعنى الفرح، بل ومعنى الحياة حين أصابه الزهايمر بعدها بسنوات عدة..

يالذكريات التي تلاحقها ككلب بوليسي مدرب.. كيف تبدلت الحياة إلى هذا الحد؟ كيف تبدل حالها من الركض والسباحة وسط أمواج البحر، إلى الانكفاء في شرفة وسط المياه الآسنة، رفعت قدميها بعدما شعرت بالاشمئزاز، ثم نهضت من جلستها التي امتدت لساعات، عادت إلى الداخل، انسابت بهدوء بين الأثاث المبعثر في الصالة كي لا توقظ أباها، وقفت عند باب حجرته، حدقت فيه لحظات حتى اطمأنت لانتظام تنفسه ثم رحلت إلى حجرتها.

***

داخل حجرتها ألقت هيام بنفسها على السرير، لا تفعل شيئًا سوى التحديق في السقف، إنه تمامًا كما هو لم يتبدل منذ أبصرت الحياة، فقط بهتت ألوانه وألوان طلاء الجدران، أكلت الرطوبة أجزاءً من الحوائط.. لا يهم، الإنسان نفسه يولد طفلًا ثم يصبح مراهقًا وشابًا ثم كهلًا، فلماذا لا تشيخ الجدران أيضًا!.. الكل إلى زوال.. الكل إلى العدم كما جاء من العدم.. هكذا حدثت نفسها.

كعادة ليل الخريف ساكن وشاحب، لا شيء يشوش سكونه إلا صوت أفكار هيام، أفكارها حول مرض أبيها، نسيانه الذي يزداد يومًا بعد يوم، أفكارها حول صاحب العقار الذي يريد وابنه طردهما من الشقة التي لا تدر عليه سوى أربعة جنيهات شهريًّا.. الكل رحل عن البناية إلا هي  وأباها، بعض الجيران اتفقوا مع المالك على الحصول على مبلغ نقدي مقابل التنازل عن شققهم، وآخرون غمرهم الثراء فلم يعودوا بحاجة للشقق التي تجلب عليهم وجع الرأس المضني مع المالك وابنه.. لكن ماذا تفعل؟ أتمتلك رفاهية التنازل عن شقة أبيها وأمها؟ الشقة التي لم تعرف غيرها سكنًا طوال حياتها! إنها لم تفارق تلك الشقة أبدًا، لم تتزوج لترحل عنها إلى بيت زوجها، ربما إن كان قد حدث هذا لتبدلت خياراتها اليوم، فكرت لو أن زوجها كان غنيًّا وحسن الخلق، وقتها ستطلب منه استضافة أبيها في  منزلهما، ولن يمانع..

آه يا هيام، قضّت الأفكار مضجعها، تقلّبت في السرير، أطفأت ضوء المصباح، أغمضت عينيها كمن يغلق خزينة مليئة بالأموال، راحت ترجو النوم أن يطرق بابها، أن يهجم عليها فتصاب بإغماءة حتى الصباح.. ولكن لماذا تريد للصباح أن يحل؟ في الصباح سيعاود ابن المالك طرق بابها، غدًا آخر يوم كي ترضخ لتهديداته بالتنازل عن الشقة وإلا فإنها لن تسلم منه.. لاتزال كلماته ترن في عقلها “الشر سهل وعقلك في رأسك تعرفي خلاصك”.

فتحت عينيها مجددًا، أضاءت المصباح المجاور للسرير، وراحت تسرح بنظراتها في الأركان تمامًا مثل نظرة أمها على شاطئ الإسكندرية قبل عقود.. تفتق عقلها عن فكرة أنها جائعة، وأن هذا ما يحرمها النوم. كانت هيام تؤمن بأنها واحدة من أولئك الناس الذين لا يستطيعون النوم أو العمل ما داموا جوعى.. كثيرًا ما فكرت في مسألة الغرائز، الطعام، الشراب، والجنس، كيف تتجدد داخل الإنسان، كيف يتحول الشبع والنفور من الطعام بعد تناوله مباشرة إلى جوع يقرص صاحبه بعد مرور عدة ساعات! كيف تشعر بالندم بعدما تلبي نداء الشهوة، وتقسم ألا تعود مجددًا لنداءاتها السرية، ثم ما تلبث أن تعود بشغف أكبر ورغبة أشد.. إن غرائز الإنسان أمر عجيب، لقد قرأت كثيرًا وشاهدت التليفزيون والعلماء يتحدثون عن أن الإنسان يتميز عن الحيوان بعقله، فكلاهما لديه نفس غرائز المأكل والمشرب، وكلاهما يروم إلى الجنس. حين كانت تسمع ذلك أو تقرأه يتبادر إلى ذهنها سؤال: وما المميز إذا ما استعان البشر بعقولهم كي يفعلوا الشر ويشنوا الحروب وينشروا الدمار والخراب؟ ما المميز حين يستخدم البشر عقولهم كي يأكل الأخ مال أخته، وحين يغش التاجر في الميزان، وحين يمارس مالك العقار البلطجة لترويع الآمنين في بلد لا يحترم القانون؟

إنه الأرق إذن، يصاحبها في ليلتها الظلماء، لا يمكنها أن تشكو من مرافقته لها، إن الوحدة تقتل صاحبها، ولو أن هذا الوحيد وجد رفيقًا أيًّا كان هذا الرفيق، حتى لو كان الأرق، فسوف يتشبث به كما يتشبث الغريق بـ “القشاية”..

***

قبل أيام شاهدتْ فيلمًا يقوم البطل فيه بدور سجين محكوم عليه بالسجن المؤبد، في أيامه الأولى بالحبس الانفرادي كان مبتهجًا، فكر كم أن السكينة أمر جميل، خاصة وأنها تنأى به عن ضجيج السجناء ونكافهم معه ومضايقتهم إياه.. في أيامه الأولى شعر أن زنزانته الضيقة المظلمة ذات الروائح العفنة أشبه بقصر وهو الأمير، راح يستلقي على فراشه المتواضع، ينام في الأوقات التي يريد ويستيقظ حين يريد، ومع مرور الأيام تبدلت سحنته، تعكر مزاجه وراح صدى أصوات صراخه يتردد في عنابر السجن، ضاق به قصره، وقتها أدرك حقيقة أنه داخل زنزانة قاتمة، زكمت الروائح العفنة أنفه فأفرغ ما في جوفه، ملأه الحزن والاكتئاب والحسرة، أراد لو أنهم يعيدونه إلى السجن الجماعي..

مرّت الأيام، كم كانت الليالي  طوالًا، والبرد  قارسًا، ثم حين استبد به اليأس عثر على حجر طبشور، راح يقفز فرحًا، يرقص، يغني، أمسك الحجر وبدأ يرسم على الجدران، رسم قصرًا وأميرًا وإسطبلًا للخيول، رسم امرأة جميلة وطفلة ذات خصلات شعر منسدلة على كتفيها.. ولما انتهى من الرسم، نام وبين أصابعه حجر الطبشور على وعد بأن يشتري في اليوم التالي حصانًا ويدربه داخل الإسطبل..

في اليوم التالي استيقظ نشيطًا، رسم الحصان، ثم وقف يتأمله، رآه حزينًا، فحزن، مسح عينيه وأعاد رسمهما من جديد، ثم نظر إليه مرة أخرى فوجده كهيئته الأولى، فكر وفكر، فلم يجد بدًّا من رسم فرس أمامه.. أغمض عينيه ثوانٍ، ولما فتحهما كانت نظرة الحصان الحزينة قد تلاشت.. إنها نفس النظرة.. فكيف لها أن تتبدل من الحزن إلى الهيام؟ هكذا سأل، ثم ابتسم وارتمى على سريره..

توالت الأيام على السجين، يصيبه السأم حينًا، يتشاجر مع المرأة الجميلة حينًا، يعاني الأرق في ليالي الخريف، يصحو من نومه، يتحدث مع الأرق، يشكو له شح الطباشير في مملكته، ومشاجراته مع المرأة الجميلة.. وحين يحضرون له الطعام، يسأل الشرطي عن الأوضاع فيحكي له عن سجين في زنزانة مجاورة وجدوه منتحرًا، يومًا بعد يوم وشهرًا بعد الآخر، يسمع عن سجناء الزنازين المجاورة الذين يلجؤون للانتحار طلبًا للحرية من قضبان السجن الحديدية..

مرت سنين حتى لم يعد في عنبر الحبس الانفرادي إلا هو.. انتحر الجميع، راح يبكيهم وهو يسرد للمرأة الجميلة وللطفلة ذات الجدائل ما حل بهم، ويسأل: أترى هم الشجعان أم أنا؟ فتجيبه المرأة الجميلة وقد عدّلت من جلستها ووضعت رأسه على ساقها: آه.. ما أشجع المرء الذي يقرر موعد موته.. موعد إنهاء معاناته ولعن الحياة السافلة التي يحياها.

مسحت فوق رأسه واسترسلت في القول: وما أشجع المرء الذي يتشبث بالحياة ولا يرضخ لعجلة دورانها الطاحنة.. ما أعظم هذا المرء الذي لا يستسلم.. حين تُسد جميع نوافذ الأمل أمامه، يبقى الأمل الذي بداخل قلبه..

لعبت أصابعها في شعر رأسه، ثم مسّدت له جبهته ولحيته، حتى غرق في نوم عميق.

لم تعرف هيام لماذا تذكرت ذلك الفيلم الآن، هل يُذكَّرها بحالها رفقة الأرق؟ ربما.. إذن ستقوم الآن لتحضير الطعام.. سوف تأكل وتقدم الطعام لرفيق ليلها، ستجلس على أريكتها وتشاهد التليفزيون لعل السجين يكون قد استيقظ الآن، فتذهب معه في جولة بالأحصنة..

***

شعرت هيام بلسعة برد خفيفة فارتدت معطفها وقامت إلى المطبخ، كانت حجرات المنزل والصالة مظلمة تمامًا، فلم ترد أن تزعج أباها النائم بالأنوار الكثيرة.. سارت نحو مطبخها كما يسير الأعمى، تتحسس الجدران بيديها وتخطو بحذر.. وفي المطبخ امتدت يدها تلقائيًّا لأحد الأدراج فأخرجت منه شمعة صغيرة وأشعلتها من فوهة الموقد..

في المطبخ لديها جهاز راديو صغير، اعتادت أن تستمع من خلاله لإذاعة الأغاني.. لم تكن تطفئه مطلقًا، حتى حين تغادر المنزل أو تنام أو تنشغل بالتليفزيون، كانت تتركه يعمل بعدما تكتم الصوت أو تخفضه.. في تلك اللحظة امتدت يدها إلى الراديو فأدارت محرك الصوت قليلًا جدًا كي لا تتجاوز نغماته حدود المطبخ.. وراحت تُقَشِّر البطاطس بعدما وضعت طاسة الزيت على الموقد..

انتهى الفاصل، وعاد صوت المذيع ليعلن عن الأغنية القادمة وهي “الدنيا ربيع” للسندريلا سعاد حسني. خرجت من بين شفتي هيام ضحكة ساخرة وقالت:

– قطعًا يقصدون الدنيا خريف وليس الدنيا ربيع.

ثم واصلت ضحكاتها حتى اختفت رويدًا رويدًا حين أسرها صوت سعاد وجذبتها أنوثتها وانطلاقها الذي يرفض الاستسلام لأي نكد أو هموم، بل ويريد إغلاق كل “المواضيع”! راحت تردد كلمات الأغنية وشرائح البطاطس تغلي في طاسة الزيت..

لما انتهت الأغنية أتبعها المذيع بأخرى لسعاد حسني وهي “بمبي”، فاندهشت هيام وكأن الإذاعة الليلة خُصصت لسعاد دون غيرها، رغم أنه لم يكن لا ذكرى مولدها ولا ذكرى وفاتها..

قالت وحاجباها مرفوعان:

– الدنيا ربيع وبمبي!

ثم تقمصت شخصية نجيب سرور ووقفت عند نافذة المطبخ الصغيرة حيث الراديو معلق وصاحت بصوت منخفض:

– بمبي يا سعاد! بمبي!

راحت تضحك ودموع يائسة تهبط من أعلى جدار عينيها.. مسحت دموعها وقالت بسخرية: “بمبي بمبي يا ست سعاد”، وحملت طبق البطاطس وخرجت إلى الصالة بعدما كتمت صوت الراديو كالعادة..

***

جلست أمام التليفزيون، كان برنامجًا حواريًّا يستضيف فيه المذيع أحد الأطباء النفسيين للحديث عن الاكتئاب، وفي معرض سؤاله، استعان المذيع بواقعة انتحار سعاد حسني في لندن قبل عدة سنوات، وكيف يمكن للإنسان أن يتحول فجأة من حب الحياة إلى الزهد فيها.. وضعت هيام الطعام جانبًا فيما تتذكر ما قرأته في الصحف والمجلات عن وفاة سعاد حسني، وكيف أنها عانت في آخر أيامها الفقر والاكتئاب، وكيف تبدلت ملامحها الجميلة حتى أن أحد الفنانين لما رآها لم يتعرف عليها..

في تلك اللحظة ارتفع سعال أبيها من داخل حجرته، بدا وكأنه طفل ينادي.. هرعت نحوه فإذا به يرقد على السرير وقد ضم ساقيه واختنق صوته فيما اغرورقت عيناه بالدموع.. نظرت إليه في قلق ثم تحول بصرها إلى ملاءة السرير المبللة، والتي ترتفع منها روائح البول النفَّاذة..

قالت في لهجة مغمسة بالمرارة:

– اهدأ يا بابا… هيا تعالى معي.

ثم اقتربت منه فاحتضنته وقبّلت رأسه. رفعته من تحت إبطيه وساعدته على النهوض. سارت إلى جواره وهو يستند إلى كتفيها حتى وصلا إلى الحمّام، خلعت عنه ملابسه وأجلسته داخل حوض الاستحمام وراحت تداعبه بكلماتها وتنثر المياه فوق رأسه:

– ابن حلال يا بابا… أنا حمّرت لك البطاطس كما تحب… إيه رأيك نأكل ونتفرج على فيلم السهرة سوا؟

كان والدها غارقًا في شروده، يركز عينيه في الفراغ غير مبالٍ بالمياه التي تغمر وجهه، ولا بيد ابنته التي تفرك له جسده بالصابون فتزيل عنه الروائح الكريهة..

رغم ذلك، لم تتوقف هيام عن الثرثرة، لعلها أرادت أن تنسيه حادثة تبوله اللا إرادي، في تلك اللحظة هاجمها شعور بالشفقة على أبيها كما لم يهاجمها من قبل. كان الشعور متوحشًا لدرجة أنها ارتعبت منه وتراجعت خطوات للوراء بحجة جلب الفوطة كي تجففه..

***

“إن أسوأ ما يمكن أن يحدث للإنسان هو أن يصبح عالة على أحدهم.. أبي ربما لا يعرفني.. ربما نسيني.. ربما يظنني ممرضة أو مرافقة له بأجر.. ربما يتذكرني في لحظة وينساني في اللحظة التي تليها، لكنه قطعًا لا ينسى أيام شبابه، أيام قوته وعنفوانه، أيام المرح والحياة، يا لذاكرة الإنسان العجيبة.. تحتفظ لنا حين نصبح كهولًا بلحظات الفرح ولحظات القوة والعنفوان قبل عقود.. ترى هل لتعزينا على ما فات أم لتنغِّص علينا ما بقي من أيام ثقيلة وتكشف لنا حقيقة ضعفنا؟ إن العاقل لا يترك نفسه فريسة للشيخوخة وأمراضها ووحدتها ورتابة أيامها.. لكنك يا أبي هل تدرك ما أنت فيه أم تراك تعيش في حلم أو فقاعة؟ هل تتذكر فعلًا لمحات الماضي السحيق؟ نعم، أراك تهمهم أحيانًا وتحكي مع نفسك وأنت تجلس في الشرفة عن الإسكندرية وأيام المصيف.. “

غزت الأفكار والتساؤلات رأسها وهي تجفف جسد أبيها ورأسه قبل أن تجلب له بيجامة نظيفة ليرتديها..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري، الرواية تصدر عن منشورات آيبيدي معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم