إنَّ الإغراءَ الأصليَّ في الرحلةِ هو تَخَطِّي فَقرةِ الخِداعِ التي في الإعلان، وتفكيكُ خِطابِ الكراهيةِ في عرضِ الصورة المعادية، ومسح الدِّيكور بعين الرحالة لاكتشاف الرحالة وليس السائح، وتحطيمُ القوالبِ النَّمطية، أو الإثارةِ الخاضعةِ لمتطلباتِ السوقِ من خلال الخطاب الترويجي. وهذا ما حدثَ حقا في رحلةِ الأمِّ التي طارت للكاتبة أميمة صبحي او كشتبان. فإلى جانبِ النعومةِ، اكتشفنا الخُشونة، الفَقرُ والثَّراء، رائحةُ المُنظِّفاتِ ورائحةُ مياهِ الصَّرفِ الصِّحي، لكنَّ رائحةَ التَّوابلِ رافقتنا طوال الرحلة، وهي العَلامةُ الأكثرُ حضورًا في بلد التوابل والألوان.
وعندما نتحدثُ عن الإغراءِ في السَّفر، لا بُدَّ أن نكونَ هناك، في الشَّوارعِ الخَلفية، الأزِقَّةِ المُتعرِّجةِ التي تُطِلُّ عليها شَبابيكُ بمستوى الطَّريق. ثمَّةَ عُيونٌ تُتابعُ المُسافِر، تَحميهِ أو تُسدِّدُ إليه أسئلة، لكنَّها ليست شَرِسَة. إنَّها الهند، الانبساطُ المُغلَّفُ بحَركةِ الأسطورةِ وتعقيدِ الحكايات، بينَ الإنسانِ والطَّبيعةِ والحَيوان.**
قبل أكثرَ من عشرينَ سنةً، خضتُ رحلةٌ إلى جنوبِ الصحراءِ وإفريقيا، رحلةٌ لا تفتقدُ إلى الغرائبيةِ، لكنَّ الأمرَ لا يتعلّقُ بالتنوّعِ الجغرافيِّ أو الثقافيِّ، بل بعمليةِ الكتابةِ نفسها. فقد اكتشفتُ أثناءَ تدوينِ الرحلة حقيقة تنطوي على ان الرحلة هي امتداد من الخارجِ إلى الداخلِ، من العالمِ إلى الذاتِ. وهذا ما حصلَ حقا في رحلةِ أُميمة صبحي وطفليها، والتي ظهرتْ في كتابِها كُشْتُبان، الأمُّ التي طارتْ.
لقد منحَ التوغُّلُ في مدنِ الهندِ، في شوارعِها الخلفيّةِ، ومعابدِها، وطقوسِها، وطبائعِ البشرِ للكاتبةِ وطفليها فرصةً ثمينةً في اكتشافِ خفايا الذاتِ، وإعادةِ تشكيلِ علاقتِهم ببعضٍ، وعلاقتِهم بالعالمِ، بتصوراتِهم، وأفكارِهم، ورغباتِهم، وأوهامِهم، وحقائقِهم. رحلةٌ بدأتْ من نيودلهي، جُراكْبور، فاراناسي، كَلْكَتا، كوتشي، مونار، شيرازي، تشيناي، ثمَّ العودةُ إلى دلهي. والرجوع الى القاهرة،
لكني اعتقد أن أميمة صبحي وطفليها لن يكونوا هم أنفسهم قبل الرحلة، لقد تغيرّ _ وهذا ماوجدته بين سطور الكتاب _ شيء ما، كبير وثمين، درس غني في اضاف لسيرتهم في الحياة. جرس يدق دائما ليقول إن العالم متنوع، وإن الناس رغم ذلك يشبهون بعضهم في الاصل فيما اذا احترمنا هذا التنوع.
تبدأ أميمة صبحي في كتابِها كُشْتُبان بمقدّمةٍ تُشبه بيانًا توضيحيًّا لمقاصدِ رحلتِها، تتحدّثُ فيه عن تأليفِ كتابِ رحلةٍ تنسجُه امرأةٌ عربيّةٌ، وهو عملٌ طليعيٌّ. فقد استعرضتْ العديدَ من التجاربِ الرحليّةِ لنساءٍ أوروبياتٍ وأمريكياتٍ اخترقنَ الممنوعَ وحقّقنَ تجاربَ كتابةٍ مثيرةٍ من خلالِ الرحلةِ، في أماكنَ بعيدةٍ عن موطنِهنَّ الأصليِّ. رحلاتٌ بدوافعَ مختلفةٍ: اكتشافُ الذاتِ، أو اكتشافُ الآخرِ، رحلاتٌ لنسيانِ الموتِ، أو اكتشافاتٌ روحيّةٌ لعوالمَ فلسفيّةٍ ودينيّةٍ.
لكنَّ التأليفَ لم يكنِ السببَ الوحيدَ، فأميمةُ تعرضُ شيئًا يتعلّقُ بحلمِ طفولةٍ قديمٍ بالترحالِ، كبرَ معها، لكنَّه لم يتحقّقْ بالطريقةِ التي تريدُها بسببِ أُمومتِها لطفلينِ. فكانتْ قدماها مشدودتينِ بوَتَدِ المسؤوليةِ التي تمنَّتْ أن تُرفعَ عن كاهلِها بطريقةٍ قد تبدو مستحيلةً، وهي أنْ تحملَ طفليها في حقيبةٍ والترحالَ بهما إلى مدنِ الحُلمِ. أمّا الحلمُ ذاته، فكان مُحدّدًا إلى حدٍّ ما، الهندُ. لماذا الهندُ؟ تقولُ إنَّ العوالمَ الغريبةَ التي سمعتْ عنها في مرحلةِ الطفولةِ هي الدافعُ: المعابدُ، والألوانُ، والسِّحرُ.
هكذا، وبعدَ أنْ حانَ الوقتُ لكي تُمسكَ بجَمرةِ الحُلمِ، مع طفلينِ قادرينِ على مشاركتِها المغامرةَ ذاتَها، بدأتِ الرحلةُ.
“هيا لننفجرْ!” تردَّدَ قبلَ الرحلةِ وطفلاها بصوتٍ واحدٍ. “ونتحوَّلَ إلى رمادٍ!” وكانَ هذا الرمادُ هو المادّةَ التي تتشكَّلُ بعدَ نهايةِ الرحلةِ، في إشارةٍ إلى طقوسِ الحرقِ، وكأنّها تقولُ: “دعونا نفعلْها، حتى لو كانتْ هذه الرحلةُ هي آخرَ ما تبقّى من أعمارِنا!”
لقد وجدتْ سببًا مهمًّا آخرَ أُضيفَ إلى رحلتِها، وهو إعادةُ تشكيلِ العلاقةِ بينَها وبينَ طفليها، ولقد تحقَّقَ مثلُ هذا الأمرِ حقًّا، فنحنُ البشرَ نكتشفُ أسرارَ ذواتِنا في المكانِ الآخرِ، في الثقافةِ الأخرى، في الطعامِ، وفي الدينِ، في النومِ وفي اليقظةِ، في الطبيعةِ، وفي تنوّعِ الجغرافيا. لقد وجدتْ أُميمةُ صبحي وطفلاها أنَّ العالمَ أكبرُ وأكثرُ اتّساعًا من البيئةِ الشخصيّةِ، وأنَّ الأنهارَ نفسَها لا تتشابهُ، وأنَّ البيوتَ كذلك.
ولقد تحقَّقتْ أهمُّ أسبابِ الرحلةِ، والتي رافقتْها في البدايةِ الكثيرُ من الإزعاجاتِ، لكنَّ الإنسانَ يعتادُ عندما يُسلِّمُ نفسَهُ لضرورةِ الاندماجِ من أجلِ الاكتشافِ. فنحنُ لا نحصلُ على شيءٍ عندما نُضمرُ في داخلِنا رفضًا، لكنَّ انقيادَنا للتجربةِ هو ما يجعلُنا أقربَ إلى الأسرارِ.
لقد تركتْ أُميمةُ للرحلةِ أن تقودَها، فقد حدثَ أنَّ سيرَ الرحلةِ قد اضطربَ أو خرجَ عن المرسومِ، فوجدتْ نفسَها مع طفليها في خطٍّ آخرَ، مرتبطٍ بالصدفةِ أو التِّيهِ الذي يصنعُ خططَهُ ومتاهاتِه وأقدارَه، ممّا جعلَ رحلتَهم تأخذُ طبيعةً أخرى: الانغماسُ في الصدفةِ للوصولِ إلى أعمقِ الطبقاتِ.
لقد حضروا تجربةَ حرقِ الأمواتِ، وغطَّسوا أقدامَهم في نهرِ الغانج. قالتْ لهم: “نحنُ هنا هنودٌ، علينا أن نكونَ مثلَهم، نأكلُ مثلَهم، ونتصرَّفُ مثلَهم، في المعابدِ مثلَهم، وفي استخدامِ المواصلاتِ العموميّةِ مثلَهم.” لكنَّ الأهمَّ في هذه الرحلةِ كانَ اكتشافَ كلٍّ منهم علاقتَهُ بالآخرِ، والكشفَ عن أسرارِ العلاقةِ بينَ الموتِ والحياةِ في ثقافةٍ أخرى، وتجريبَ أنواعِ الطعامِ، والاندماجَ في التجربةِ الروحيّةِ.
إنَّ أهميّةَ مثلِ هذا الأمرِ للصغارِ تتركّزُ في أنَّ العالمَ مشدودٌ بقوّةٍ إلى معتقداتٍ متنوّعةٍ، وأنَّ كلَّ تجربةٍ اعتقاديّةٍ هي صحيحةٌ عند المؤمنينَ بها، ولا يجبُ أن ينطلقَ الفردُ من معتقداتِه لكي يضعَ معاييرَ للصّحِّ أو الخطأ، أو الإيمانِ والكفرِ.
هذا الكتابُ مشحونٌ بالغرائبيِّ، لكنَّهُ في الوقتِ نفسِه مليءٌ بالمشاعرِ الإنسانيّةِ، يأخذُ القارئَ معَ الكاتبةِ وطفليها إلى أبعدَ من الخيالِ. صحيحٌ أنَّ العالمَ أمامَ الثورةِ التكنولوجيّةِ أصبحَ مكشوفًا، لكنَّ الوسائطَ البصريّةَ لا تمنحُنا دائمًا العاطفةَ التي تتشكَّلُ من الاقترابِ الشديدِ من الناسِ، من الروائحِ، والانفعالاتِ، والخوفِ أو البهجةِ، والغضبِ والتسامحِ، وشهقةِ الاكتشافِ، والضجرِ عندَ المقارنةِ بينَ تجربتينِ.
وعندما يتعلّقُ الأمرُ بالأدبِ، يظهرُ هذا الكتابُ بوصفِهِ نَسْجًا إبداعيًّا مميّزًا، يقوم في جزء منه على احالات، الى كتاب وتجارب في الكتابة الابداعية المتنوعة، وتجارب رحلية متعددة الاغراض، وهو في الوقت نفسه سردًا مشحون بالعاطفة يأخذُ القارئَ إلى روحِ الهندِ العظيمةِ، لثقافاتِها المتنوّعةِ، الشِّعرِ، والموسيقى، والطّقوسِ والمعمار والطبيعة، والألوانِ. إنَّهُ كتابٌ عن رحلتِنا جميعًا نحوَ العُمقِ، نحوَ العالمِ المخفيِّ خلفَ الواجهاتِ السياحيّةِ، لكنَّهُ أيضًا نحوَ الذاتِ، ونحوَ الآخرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدر مؤخرًا عن دار العين .. معرض القاهرة للتاب 2025