إبراهيم عبد الفتاح
قبل أن يصل… مرّت عاصفة
الليل لم يكن عاديًا.
في أعالي الجبل، حيث الأشجار تنام واقفة والريح تدرّب صوتها كأنها ستغني بعد قليل،
حدث شيء لا يراه أحد.
القمر كان منطفئًا من جهة، مضاءً من جهة،
كأن نصفه الآخر لم يقتنع بالظهور.
وحين دقت الساعة الثانية بعد منتصف الليل،
سقطت شجرة صغيرة في البستان، بلا ريح،
كما لو أن الأرض اختنقت بلحظة صدفة.
في ذلك الوقت،
في غرفة منسية في بيت لبناني قديم،
كانت امرأة تُدعى نُهاد
تمشي ببطء نحو نافذة،
ترفع ستارة،
وتراقب ضوءًا خافتًا يتسلل من السماء.
هي لا تعرف بعد،
أن الجنين في داخلها
لن يخرج كما خرج الآخرون،
ولن يتعلم الكلام من المعاجم،
ولا الطاعة من البيت،
ولا التصفيق من الجمهور.
في الجانب الآخر من الغرفة،
رجل يُدعى عاصي
يحاول أن يكتب لحنًا جديدًا،
يتوقف في منتصف الجملة،
كأن شيئًا لم يُكتب بعد هو الذي يشوش عليه.
في الخارج،
يمرّ قط أسود على سور الحديقة،
ثم يقف فجأة ويحدّق في الفراغ.
في السماء:
تلمع نجمة وتسقط، ثم تعود إلى مكانها،
في مكان ما داخل رحم دافئ،
يتكوّن زياد،
لا كفنان،
ولا كوريث،
بل كـ”تشويش في النظام”،
جرس إنذار صغير،
وكأن القدر قرر أن يرسل شخصًا
ليقول شيئًا لم يُقَل،
بصوت غير مسموح به،
وعبر نكتة سوداء تشبه صفعة.
كان جنينًا غير متفق عليه،
لا يعرف إن كان سيُغني أو يَشتم،
يعزف أو يسخر،
يحمل اسم العائلة أو ينقضه.
طفل لا يليق به أن يولد بهدوء،
ولا أن يعيش دون صراخ.
(صمت طويل… كما في مسرحية متقشفة الإضاءة)
ثم يُسمع صوته، متثاقلًا، من العتمة:
“لو بعرف إنو هيك رح تطلع القصة…
كنت بطّلت خلقة من الأول.”
“طفل ينظر للعالم من نافذة مائلة”
لم يكن زياد طفلًا ينسجم.
كان دائمًا “شاردًا”، لكن ليس في اللاشيء — بل في أشياء لا يراها الآخرون.
ولأنه لم يجد من يفهمه،
راح يختبئ داخل الملاحظات،
ويصنع من يومه مونتاجًا داخليًا،
حيث الصور تتتابع،
والأسئلة تتزاحم،
والطفل الصغير يُشبه سؤالًا لا إجابة له.
(1) البيانو:
غرفة باردة في بيت دافئ.
في الزاوية، بيانو لا يتحرك.
وزياد، في عمر الخامسة، لا يلمسه بعد،
فقط ينظر إليه كما ينظر مَن وجد كائنًا غريبًا على حافة المطبخ.
البيانو لا يتكلم، لكنه أوضح من كل البشر.
كل مفتاح عليه يشبه جملة ناقصة،
وكل صوت محتمل،
هو فرصة لفهم ما لم يُفهم في البيت.
(2) المدرسة:
الصف يردد جدول الضرب.
الأطفال يحفظون، والأساتذة يشرحون.
لكن زياد يرسم على دفتره سلّمًا موسيقيًا مكسورًا،
ويكتب تحت السطر:
“إذا كانت المدرسة مصنعا،
فأين نذهب حين نتلف؟”
حين يُسأل:
– شو حابب تصير؟
يجيب دون تردد:
– حابب أظل ناسي الجواب.
3 الشارع:
في الطريق إلى المخبز،
يسمع نقاشًا عن الحرب.
ثلاثة رجال يتكلمون عن الله وكأنهم جيرانه.
امرأة تبيع الورد تضحك كأنها تُغني.
زياد يقف جانبًا،
يسجل كل شيء في دفتر وهمي داخل رأسه.
ثم يقول لنفسه:
“المسرح مش على الخشبة.
المسرح بيبلش من أول زقاق.”
(4) العائلة:
مساء أحد،
البيت يمتلئ بالزوار، والمجاملات، وروائح البن.
– كيفك يا عاصي؟
– كيفك يا نهاد؟
ثم يأتي السؤال المنطقي الأبدي:
– وإنت يا شاطر، شو بدك تعمل لما تكبر؟
يصمت.
يحدّق في وجه السائل، ثم يهمس:
“بدي كون شخص
ما بيجاوب على الأسئلة القديمة.”
(5) الخوف من البديهيات:
في آخر النهار،
زياد يضع رأسه على وسادته.
لا يريد أن يحلم،
بل أن يعيد ترتيب العالم.
يرسم بظله وجهًا على الحائط،
ويقول له:
– ليش العالم ما بيطلب إذن قبل ما يدخل؟
– ليش الكبار بيحكوا كتير… وبيفهموا قليل؟
– ليش أمي ما سألتني اليوم إذا كنت زعلان؟
ثم ينام على نصف جملة،
ويحلم بأنه يعزف في حفلة فارغة،
كل الجمهور فيها… أطفال لم يرضخوا بعد.
“كان زياد طفلًا غريبًا،
لا لأنه فشل في الاندماج،
بل لأنه رأى بوضوح
ما كان يجب أن يُرفض.”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر مصري، الديوان صدر مؤخرًا عن دار بتانة