محمد الرزاز
“كان الماء في العالم كله عذباً، إلّا أن الشيطان طفق يلقي فيه بالملح حفنة تلو الأخرى إلى أن صار مالحاً.”
من الموروث الشفهي للسكان الأصليين في أمريكا
منذ ما يسمّى في كتب التاريخ باكتشاف أوروبا لأمريكا ثم لرأس الرجاء الصالح وبلوغها جزر الهند الشرقية والغربية بداية من أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، عانت قارات العالم جميعها من ويلات الاستعمار الأوروبي الضاري الذي ترك آثاره دماً يخضب الأرض وجدران المعابد وعتبات البيوت في أحراش أمريكا اللاتينية وغابات أفريقيا وسهول آسيا وسواحل الكاريبي وجزر الأوقيانوس، بينما خلّدت أوروبا ذكر كولومبوس وكورتيس وبيثارّو وفاسكو دا جاما وكابرال وغيرهم ممن لقّبتهم بالفاتحين.
أمام زحف الأسبان والبرتغاليين وغيرهم من المحتلين، اختفت حضارات مبهرة ومدن عامرة وثقافات متفردة ولغات حية، أبيدت شعوب بأكملها وفقد العالم تراثاً مادياً وغير مادي ليس له مثيل، ناهيك عن الموارد البشرية والطبيعية التي انتُهكت بشكل ممنهج يتناسب مع جشع ملوك أوروبا وتجارها ومرتزقتها آنذاك.
إلى يومنا هذا، ورغم مرور ما يربو على خمسة قرون منذ أن حطّ كولومبوس على ساحل الباهاماس (في الكاريبي)، يظل الموروث الاستعماري حاضراً وبقوة على الأرض وفي الخرائط، في اللغة وفي الذاكرة الجمعية، بل وفي النعرة الكولونيالية لقادة بعض أكثر دول أوروبا تشدّقاً بالديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان، فما زال بعضهم يمتدح النموذج الكولونيالي الأسباني في أمريكا ويتحدث عن “مهمة حضارية” للمستعمر الأسباني في أمريكا، بينما لا يتورع البعض الآخر عن الإشارة إلى مشاكل حضارية تواجهها فرنسا في أفريقيا، والتي صار نصف سكانها يتحدثون الفرنسية تحديداً بسبب فظائع الاستعمار الفرنسي. بالطبع وجد الاستعمار ثياباً جديدة وأقنعة مخاتلة بعد تحرر الدول كي يواصل هيمنته ويسيطر على مقدرات الشعوب من خلال الاقتصاد والسياسة والعلم (والخرافة) والثقافة، وهو ما نراه جلياً في عالمنا اليوم، ولكن ليس هذا هو مراد هذا العمل.
لقد قرأت الكثير عن مآسي الاستعمار في القرون الغابرة، وعن فداحة الثمن الذي دفعه الأبرياء من أجل إشباع نهم المُحتل، كما عاينت مباشرة حجم الضرر الذي لحق بالشعوب في المكسيك وجواتيمالا وكولومبيا وإكوادور وغيرها من الدول، وهو ما دفع بي إلى التركيز على الموجة الأولى من الاستعمار التي غيرت كل شيء. لقد كان الماء عذباً قبل أن تصل أوروبا إلى العالم الجديد. إليكم هذه القصص التي تؤرخ أدبياً لما عانته شعوب أمريكا القديمة إنسانياً معتمدة على مصادر تاريخية…إليكم أقدم هذه الشذرات التي حاولت من خلالها نقل لمحات عن حالة إنسانية فرضها المحتل بالحديد والنار حين ارتكب جرائمه من أجل عالم يناسبه…جرائم من أجل عالم جديد.
………………………………………
المشي على الماء
بعد أن غرس القادمون من وراء البحر صلبانهم في لحم الأرض السوداء والحمراء والخضراء، حدثنا الأب لويس العجوز طويلاً عن معجزات المسيح الذي ولد منذ زمن سحيق في بلد لا نعرفه ولم يره أحد من هؤلاء الأسبان الذين نصبوا صلبانهم في كل مكان. إن قصصهم مُسَلِّية، ولكنها ليست بإثارة قصص الأسلاف لدينا، كما أن معجزات ذلك المسيح لا ترقى لأعاجيب آلهتنا التي نختبرها يوماً بعد يوم، فليس المشي على الماء كفصل جسد الماء عن قشرة الأرض وصفحة السماء، وشفاء المرضى يقوم به كهنتنا ألف مرة في العام، أما إحياء الموتى ففعلة شنعاء لا تحترم دورة الوجود والفناء، ولو أن أحد أعادنا لعالم الجسد بعد الموت لنال لعنة مقيمة.
يحكي الأب لويس تلك القصص وغيرها بتأثر شديد، إلى الحد الذي يبدو معه دائماً على وشك البكاء، وهو ما جعلنا نتردد في البداية ونعزف عن مصارحته بحقيقة انطباعاتنا عن قصصه، خاصة وأن إجادتنا للغة الأسبان كانت محدودة في العام الأول. كنا راغبين في تصحيح مفاهيمه الشاذة، وأن نشرح له بهدوء أن الماء لم يُخلق للمشي على سطحه، بل كي تنام نجوم السماء على إيقاع أمواجه، وأن شفاء المرضى مرهون بإعادة انسجام المريض مع عناصر الطبيعة، وأن الموتى يدلفون بالفعل إلى حياة أخرى غير تلك التي نعرفها، وليس هناك أي دافع لإعادتهم لعالمنا الأرضي.
كنا نفضّل قصص القديسين، إذ أن كل قديس لديهم له حكاية مشابهة لإله من آلهتنا الكثيرة، وهو ما أكد لنا أن هناك أمل في أن يفهم الأسبان حقيقة إيماننا. في العام الثاني تشجعنا وتحدثنا إلى الأب لويس بعد أن أخبرنا بعض الجنود الأسبان -بتشفّي- أن الكنيسة في بلادهم تقول إننا مجرد أجساد بلا روح. تساءل ممثلٌ عنا عن جدوى محاولة إنقاذ أرواحنا من الوثنية على حد تعبير الأب لويس، إذا لم تكن لدينا أرواح بالأساس. أطرق الأب لوهلة متفكراً. بدا مأزومًا وقطب جبينه متحسساً ناصية رأسه. وعدنا بإجابة خلال أيام. وصلت الإجابة الموعودة بعد أشهر، وكان مفادها أن الكنيسة قد قررت أن لدينا أرواح، ولكنها ليست كأرواح المسيحيين لأنها قد تنجست بسبب أكل لحوم البشر وعبادة الحجارة والأشجار والأنهار و…مهلاً! ألا يأكلون جسد المسيح ذاته في خبز القربان كما حدثونا؟
مع مرور الأيام وزيادة حصيلتنا اللغوية ومعرفتنا بدين المسيح، برزت أسئلة جديدة ودارت حوارات استنفذت هامش الصبر لدى الأب لويس الذي بدأ يفقد أعصابه في بعض المناسبات، إلى أن صرخ فينا ذات يوم مهدداً بكلمات لم نفهمها: محاكم التفتيش…استئصال شأفة الهرطقة…جيروساليم الجديدة…لم نهتم كثيراً، فالأب لويس رجل مُسن وأحياناً يقول أشياء لا نفهمها، ولكننا نومئ له احتراماً لمكانته ولتقدمه في العمر. كان يوم رحيله عن الجزيرة يوم حزين للغاية، حيث بكى بعضنا تأثراً بذهابه، بل وبكى هو أيضاً محتضناً إيانا واحداً بعد الآخر. قال إنه لا يبكي الرحيل بقدر ما يبكي المصير، مصيرنا الذي سنلقاه حتماً على أيدي مبعوث الكنيسة الجديد. أوصانا بتذكر الدروس والانصياع التام لخلفه وعدم ذكر آلهتنا القديمة (أتشيخ الآلهة؟) أو خرافاتنا (على حد تعبيره) مطلقاً من الآن فصاعداً.
توجسنا شراً وتواعدنا سراً للتشاور حول ما أنبئنا به الأب لويس. عقدنا العزم على الالتزام بنصيحته والتماهي مع مبعوث الكنيسة الجديد كي لا نثير غضب الأسبان الأكثر عدة وعتاداً هنا، خاصة وأن بعضنا قد تحول صدقاً إلى دين الأسبان، مما حدا بالآخرين لتوخي الحذر كي لا ينقل المسيحيون الجدد من أبناء جلدتنا أخبارهم للأسبان. إذا كنا قد بكينا يوم رحيل الأب لويس، فإن السماء نفسها بكت وصول المبعوث الكنسي بدموع هطلت طوال اليوم، وأقسم بعضهم أنهم قد رأوا تلالوك إله المطر يرقص بمجون وسط الماء. يمشي على الماء. بطبيعة الحال، كانت السماء على دراية بهول المآسي المنتظرة والتي لو علِم بها مسيحهم لغاص في الماء عوضاً عن المشي على سطحه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري، والمجموعة صادرة عن الكتب خان للنشر ..معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025