الرواية عندى منذ شهور لكننى قرأتها بعد أن فازت بالبوكر، وهى بقلم محمد سمير ندا عن دار مسكيليانى التونسية والطبعة المصرية من دار صفصافة فى ٣٥٣ صفحة. الرواية مكتوبة بالفصحى الشاعرية وتستخدم كلمات غير مألوفة ولكنها مفهومة وبلغة جميلة، واستخدامُ الرموز خلق خيالًا غامضًا بين جوانبه حقائق تاريخية وحياتية جعلتنى أعيد قراءة بعض الصفحات، ثم الرواية كلها مرة أخرى فى محاولة لفك كامل رموزها. فالرواية قوية وجميلة وصعبة فى قراءتها.
الرواية تتحدث عن قرية صغيرة فى الصعيد فى حضن الجبل (نجع المناسى) وتدور أحداثها فور هزيمة ١٩٦٧ حين وقع فى القرية نوع من الصاعقة الطبيعية أدت إلى أن فقد أهل القرية شعور رأسهم وحواجبهم وأصبحوا مثل الزواحف. وكان كثير من المواليد أطفالًا مشوهين. وسمح فقط بخروج الشباب للالتحاق بالمحاربين. وكانت الأخبار تأتى القرية عن طريق خليل الخوجة ذو الأصول الغامضة والذى أنجبت زوجته طفلًا لا يشبهه واختفت الزوجة. خليل الخوجة هو ممثل النظام ويذيع على القرية مذياع أخبار الحرب المستمرة طوال الرواية والتى استمرت ما يقرب من عشر سنوات وأن قواتنا تدحر العدو. الشخصية السياسية ذات الوزين المذكورة بالاسم فى الرواية هى جمال عبد الناصر والتى توضح بطريقة روائية توحد الناس فى صورة الزعيم والوهم الذين يعيشونه طوال العمر. والشخصيات الاستبدادية التى تتحدث باسمه وتتحكم من خلال قوته وتستفيد ماديًا ومعنويًا وتزيد القهر والتخلف. وبالرغم من ذكر عبد الناصر بالاسم إلا أن التمثالُ الذى وُضع له فى القرية وتم تحطيم جزء منه ثم إلقاؤه فى الترعة فى مرحلة لاحقة اتضح أنه لا يشبه عبد الناصر فى الطول ولا فى الشكل.
فى هذه المرحلة حوصرت القرية بالألغام التى تنفجر فى أى من السكان يريد الهرب من النجع وكل شىء من أكل وشراب ودواء يُحضَر بسيارات من طريق آمن ويتسلمه خليل الخوجة الذى يبيع للناس كل شىء ويقتطع جزءًا للمجهود الحربى ويوزع صحيفة من ورقة واحدة يصدرها باسم «صوت الحرب» تشرح انتصارات وهمية. وأصبح هو الحاكم والمتحكم ويساعده فى ذلك الشيخ إمام المسجد الذى يحاول أن يبعث طمأنينة فى قلوب الناس.
من أشخاص الرواية نوح النحال الذى عذبه البوليس وهو شاب وبعد الإفراج عاد إلى النجع ليعمل نحالًا مثل والده وأنجب مراد الذى أخذوه إلى الحرب ولم يعد والخوجة يدعى أن الإجازات موقوفة منذ عشر سنوات، فثار وحطم تمثال الزعيم.
زكريا النساج وهو الفلسطينى الذى هرب إلى مصر بعد مقتل أبيه فى فلسطين والذى يكره عبد الناصر الذى سعى إلى قتل الناس بدعوى الكرامة ومقولة «ارفع رأسك يا أخي» وأصيبت زوجته بالسل وهو الثائر دائمًا ووجد مقتولًا.
محجوب النجار الذى حملت زوجته بعد عشرين عامًا. ووداد الداية وهى شخصية رئيسية، فهى تعرف كل شىء وتدخل جميع البيوت، تولد السيدات وتعالجهم وترقيهم وتقيهم من الحسد، وعُرف عنها أنها تدفن الأطفال المشوهين بعد الوباء لأنها لا ترغب فى تعذيبهم وتعذيب أهاليهم بحياة صعبة. أما شواهى فهى غازية ترقص فى الموالد وهى جذابة وجميلة وتصنع الخمر وتبيعه فى حانة أسفل بيتها.
جعفر الوالى هو الشيخ الذى قيل إنه مات ثم ظهر مرة أخرى قبل الوباء، والشيخ أيوب الذى يحاول إعطاء الناس الطمأنينة عبر الصلاة.
خلال عشر سنواتٍ والقرية محاصرة بالألغام والشباب يُؤخذون للحرب ولا أحد يعود، وأغانى عبد الحليم حافظ الثورية وأغانى الحب مكتوبة كمقدمة للفصول. وبدأ الناس يفكرون فى الخلاص. النجار يحفر نفقًا والنحال يجمع الناس ويحثهم على الثورة ضد الخوجة. الشيخ يحاول جمع الناس فى الجامع، ولكن نداء الثورة يتفوق ويخرج الناس ليحرقوا بيت الخوجة ويموت الخوجة وأعداد من الناس.
عاش الناس فى وهم وكذب كبير، وكتابات غامضة تُكتب على حوائط البيوت، والحديث عن الخواجات الذين كانوا يحفرون فى زمن سابق عن المساخيط من قدماء المصريين، والحديث عن الدين وتأثيره والسحر ثم الحديث عن الصلاة وعن صنع العرق وشربه، ورأيهم فى المساخيط الذين بحث عنهم الخواجات.
توفيت وداد ودفنتها شواهى وسكبت زجاجات العرق على قبرها بعد أن ساعدها حكيم ابن الخوجة فى إطفاء النيران فى النجع. أفاق حكيم من إغمائه ليتذكر حادث العراك الذى حدث بين أبيه الخوجة وأمه، والذى انتهى بأن قتلها الخوجة، ومن فرطِ الصدمةِ قضمَ حكيمٌ لسانه وأصيب بنزيف، أسعفه الأب، ولكنه أصبح غير قادر على الكلام بالرغم من إجادته للكتابة والقراءة.
خرجت الجموع من القرية وغاب حكيم عن وعيه ونام وحلم أنه خرج من القرية وقابل الغازية شواهى وركبا معًا القطار وحدث تلاقى جنسى مكتوب بلغة راقية، مثلها كمثل استخدام ألفاظ جنسية فى وصف التمثال. وفى النهاية استيقظ وانتهى به الأمر فى مستشفى الأمراض العقلية، وكان يعالجه أحد أبناء النجع الذى درس الطب ونصحه بأن علاجه أن يكتب كل ما رآه وكل أحاسيسه، وما هو حقيقة وما هو خيال، وأعطاه أقلامًا وأوراقًا ليستمر فى كتابة هذا الكتاب.
الرواية رمزية، وحصار النجع هو حصار لأمة ولوطن. الرواية بها خيال رائع، وحديث عن الدين وتأثيره والسحر، ثم الحديث عن الصلاة وعن صنع العرق وشربه، وعن الداية التى تقتل الأطفال المشوهين، ورأيهم فى المساخيط الذين بحث عنهم الخواجات. وهناك أسئلة تشعر بها طوال الرواية عن الثورة وثمنها وضرورتها، وعن الحكم الاستبدادى، وتوحد الناس حول الزعيم والوهم الذى يعيشونه، مع الشخصيات الاستبدادية ومن يتحدثون باسم هذه الشخصيات يتحكمون ويتكسبون ويقهرون البشر.
يكتب الشاب حكيم فى أوراقه:
«لم أعرف كيف نرسم حدود الأوطان بالألغام ولافتات التحذير والأسلاك الشائكة. ولأى غاية تُسال من أجلها شلالات الدماء بغير حساب؟ أين إذن محرر المهمشين نزلاء العتمة؟
أنا مدون الكلام غير المنطوق، القادم من أرض الحلم الواحد الذى يُوزع على النيام قسرًا.
أنا المحكوم بالخرس أحكى، فهل يمكن أن تسمعونى؟
أنا من زمان الصوت الواحد، والنبرة الواحدة، والنشيد الواحد، والصحيفة الواحدة، ورجل مثلى عاش بلا صوت، ولم يعرف من ألوان الصوت غير نغمة واحدة».
رواية رائعة تعنى أنّ الحريةَ والمشاركةَ والعلمَ والتطورَ هم الطريقة الوحيدة للانتصار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن المصري اليوم مايو 2025