ألفت عاطف
فيلم مربك. يثير المشاعر ثم الفضول، وصولا إلى تفجير عدد لا نهائي من علامات الاستفهام، كعادة أفلام تشارلي كوفمان.
ظاهر الفيلم يحكي عن فتاة في زيارة أولى لأسرة حبيبها، حيث تسافر معه لبيتهم الريفي في مزرعة نائية. وعلى الرغم من اضطراب العلاقة الواضح بينهما، وحالة الكآبة المسيطرة على الفتاة، فإن الأحداث الأولى لم تتجاوز الحدود الطبيعية، لكن تبدأ التداعيات الجنونية وتفجير المنطق لحظة وصول الثنائي لوجهته في المزرعة، ومن هنا يصير لزاما على المتفرج أن ينفتح على هذا الفيض من الجنون، عله يتمكن من الوصول لتصور شخصي أو رؤية خاصة لفهم الأحداث، وستكون واحدة من عدد كبير من الرؤى المحتملة، فالفيلم حمال أوجه وقادر على تخليق عدد ضخم من التفاسير المتباينة، وكذلك على خلق الكثير من المشاهدين المحبطين من مشاهدة فيلم لا معنى له على حد قولهم.
فما هو المغزى من كل تلك الفوضى؟
لم يكن من الصعب اكتشاف أن الفتاة الراوية لمعظم الفيلم، وحبيبها جيك، والعجوز الذي بدا وكأنه مقحما في الأحداث بلا سبب واضح، هم في الحقيقة شخص واحد، وأن هذا العجوز الذي ظهر مهمشا منذ البداية هو البطل الحقيقي، وكل ما عداه مجرد أوهام في رأسه.
“العودة للبيت موحشة جدا”
ربما تكون هذه الجملة التي جاءت على لسان الفتاة هي الخطوة الأولى لبدء تلك الرحلة، ولا أقصد هنا رحلة زيارة أسرة جيك، وإنما رحلة استشفائية يائسة قام بها لا وعي جيك العجوز، كمحاولة أخيرة للنجاة من الجنون.
وربما كان هذا هو معنى إسم الفيلم، الذي فسره البعض برغبته في الانتحار، إلا أنه في هذا السياق اقتراب وشيك من الانتحار العقلي، من الانفصال التام عن الواقع والاستسلام للذهان، وهو بالفعل ما ستؤول إليه الأمور في النهاية.
وعلى طريقة المحلل النفسي الذي يحث مريضه على إجراء عملية استبطان مؤلمة، يقوم فيها بسبر أغوار نفسه، وبهتك ستر مواضع التقرحات النفسية والعقد القديمة التي استعصت على الحل فطمرت في قاع عقله الباطن، مستخدما في هذا تكنيك التداعي الحر للأفكار بلا قيد أو ترتيب أو منطق أو أي نوع من التحفظات -تأتي أحداث الفيلم متبعة ذات المنهج الاستبطاني من خلال سرد سينمائي أشبه ما يكون بالتداعي الحر في جلسة التحليل النفسي.
ولأن هذا المريض شديد الاضطراب، يحتدم في داخله صراع عجز عن حله بالطرق السوية، كان لابد من هدنة بين أطراف الصراع. ستتفكك أجزاء شخصيتة.. ستتباعد وتتجسد وتتشخصن حتى تتمكن من التحاور، لربما يثمر هذا الحوار –وهو محاولة الاستشفاء اليائسة الأخيرة كما ذكرنا سابقا- عن نتيجة. ربما يتمكن من الحفاظ على عقله من الانهيار.
ولأن لكل عملية علاجية مدير أو طبيب أو مرشد، وكان على أحد ما أن يقوم بهذا الدور عنه لأن جيك أضعف من أن يمسك الدفة بيديه المرتعشتين، كانت شخصية الفتاة هي هذا المرشد.
لماذا لم يكن جيك هو بطل الفيلم على الرغم من أنه هو بطل الحكاية؟!
هذا هو السبب. لأنها تمثل الجزء الوحيد منه القادر على المقاومة والإصلاح. صحيح أنها يائسة ومكتئبة وضائعة، إلا أنها على سبيل المثال تمكنت من التودد لأبويه والتفاهم معهما بشكل عجز هو عنه. هل لاحظت نظرته لها عندما أدارت دفة الحوار على المائدة بعد مشادة كلامية بينهم؟ عندما تمكنت من تهدئتهما وإضحاكهما وإثارة انتباههما وإعجابهما. كان ينظر لها كطفل عرف الطريق إلى بيته بعد أن ضل طويلا. لماذا؟
لأنها بالفعل كانت طريق، حاول عبره التواصل مع أهل بيته –الموحش جدا- حيث توجد الجذور المعطوبة لكل ما نمى لاحقا من اضطراب وصل حد التفسخ. كانت الفتاة محاولة لرأب الصدوع بينه وبين أبويه، وبين الأجزاء المتناقضة في شخصيته، وبين حاضره وماضيه ومستقبله.
لكن لماذا كانت امرأة؟
ربما لنفس السبب الذي يجعل معظم خيالات المحبطين والوحيدين والمتعطشين للحب والمؤانسة، تدور حول حبيب يقوم/تقوم بدور المنقذ المخلص من كل ما يمر/تمر به من عذابات. وارد جدا أن تكون ظل لشخصية حقيقية التقاها يوما في حانة، وتمناها ثم عجز عن التقرب إليها، أو أنه حاول وقوبل بالرفض، لكن بالتأكيد اختيارها لدور البطولة لم يقتصر على مجرد تعويض إحباط عاطفي، وإلا لما كانت مشاعرها تجاهه بهذا الفتور وفي بعض الأحيان النفور.
وهناك احتمال آخر وهو أنها تمثل الجزء الأنثوي من شخصيته، ويمكن تفسير هذا بناء على مفهوم الأنيما والأنيموس لكارل يونج، فلكل رجل جانب أنثوي هو الأنيما، ولكل امرأة جانب ذكوري هو الأنيموس. وبالنسبة للأنيما فهي تمثل في الرجل الجانب الرقيق العطوف القادر على العناية والاحتواء، وهو بالضبط ما كانت تحاول البطلة فعله طوال الفيلم.
وأخيرا لا يمكننا أن نغفل احتمال ثالث ربما يشير إلى اضطراب هوية جندري لدى جيك، عبر عنه من خلال هذه الأنثى، وهناك بعض الإشارات العابرة المؤيدة لهذا الاحتمال، منها كلام الفتاة المتذبذب عن صديقتها التي كانت بصحبتها في الحانة عندما قابلت جيك للمرة الأولى، فمرة تذكرها بصديقتي ومرة أخرى بحبيبتي. وأيضا من خلال أحد حوارات جيك والفتاة في السيارة نجده يغضب بشكل واضح من وضعها المثلية وسط عدد من الاضطرابات النفسية والعقلية الأخرى كالفصام والتوحد وبعدها مباشرة يأتي مشهد لافت في محل بيع الآيس كريم ليشير من جديد إلى ذات الفكرة، لكن سنأتي على ذكره لاحقا.
والآن.. لنلقي نظرة جديدة على هذه الرحلة..
يبدأ الفيلم بعرض لقطات لمنزل جيك، على خلفية من صوت البطلة التي لن نتمكن من التأكد من إسمها أو مهنتها طوال الحكاية. المنزل جميل ودافىء لكنه خالي. وهي بداية شديدة الذكاء، فإلى جانب ما تشير إليه من إحساس بالوحدة، والحنين إلى الماضي رغم خوائه –فهو يعتبر نقطة انطلاق حقيقية لكل الأحداث غير الحقيقية اللاحقة، فهذا المنزل الخالي هو الموجود في لحظة الحاضر الواقعية، التي يمكننا ببساطة أن نستنتج أن الأبوين فيها قد فارقا الحياة، فصار البيت على حد قولها “مكان هادىء خاوٍ، المشاهد كثيرة لكن الناس قلة”
منذ اللحظة الأولى التي تتواجد الفتاة مع جيك في السيارة نلاحظ أن ما يدور في عقلها يبدو مسموعا له، وهو تمهيد لما سوف نكتشفه بعد ذلك من وحدة الشخصيات الثلاثة. وفي الطريق، تدور بينهما حوارات فائقة الزخم والإمتاع دلت على سعة اطلاع وثقافة وعمق كلاهما، وعلى الرغم من كل ذلك يكون واضحا أن كلا منهما لا يقدر حديث الآخر وإن تظاهر بغير ذلك. ها هو الصراع الداخلي وتدني مستوى تقدير الذات يبدأ في الكشف عن نفسه.
لكن لماذا السيارة؟ لماذا كانت تقريبا المكان الأساسي في الفيلم؟
تقول البطلة،
“يحلو للناس الاعتقاد بأنهم نقاط تمضي عبر الزمن، لكني أعتقد أن العكس صحيح. نحن ثابتون والوقت يمر عبرنا. يهب كرياح باردة، يسرق حرارتنا، يتركنا مشققين ومجمدين.. ميتين. أشعر بأنني كنت تلك الرياح الليلة تهب على والدي جيك. أراهما كما كانا، أراهما كما سيكونان، أراهما بعد رحيلهما بينما لم يبق سواي، الرياح فقط”
كانت الفتاة هي خط الزمن الشاهد على الناس. الزمن، الفتاة، السيارة، كلهم متحركون عبر الأعوام والمراحل السنية والذكريات. في محل بيع الآيس كريم عندما قابلت الفتاة الغريبة المظهر، بدأت الأخيرة في تحذيرها بذعر قائلة “لست مضطرة إلى المضي للأمام في الزمن، يمكنك البقاء هنا. أنا خائفة جدا عليك.
كانت تحذرها من مواصلة المُضي والمرور عبر الجميع، بالتنقل بالزمن، أو بالسيارة.. لا يهم فكلاهما واحد، وعوضا عن ذلك يمكنها البقاء هنا.
هنا أين؟ في محل الآيس كريم؟ بالطبع لا، فالمحل بكل ما فيه هو مجرد رمز لمرحلة الصبا، وهو ما سيتضح لاحقا.
يصل الثنائي للمزرعة أخيرا. يركن جيك السيارة تحت المنزل، ومن نافذة الطابق العلوي تظهر الأم في منتهى الفرحة والترحاب، تلوح بيديها لهما وتدعوهما للدخول، لكن وعلى غير المتوقع، يصر جيك على اصطحابها أولا لزيارة حظيرة الحيوانات!
هل كان فعلا يريد أن يريها مجموعة الخراف البائسة سجينة الحظيرة القذرة؟
الإجابة هي لا.. بل كان يريد أن يبدأ رحلة استبطانه من أبعد نقطة يذكرها في الماضي، من قاع لا وعيه، حيث يرى نفسه مجرد خنزير مُهمَل محبوس في حظيرة، وسيؤكد المخرج على الفكرة في نهاية الفيلم عندما يتوحد جيك بالفعل مع الخنزير.
يحكي لها أثناء وجودهما غير المبرر هناك القصة الكئيبة لخنازيرهم التي اضطُروا في الماضي إلى قتلهم جميعا، بعد أن انشغل عنهم والداه بضعة أيام حتى غرقوا في قذارتهم إلى أن تآكلتهم الديدان وهم أحياء. كانت هذه هي الرسالة التي أراد جيك أن يبدأ بها تداعيه. كان هذا هو القاع، أنه في نظر نفسه مجرد خنزير أهمله والداه إلى أن تآكلت شخصيته. لقد تفسخ عقله كما تفسخت الخنازير وهو بعد على قيد الحياة.
وأخيرا يذهبان للبيت، متوقعان أن يكون الأبوان في انتظارهما، وخصوصا الأم التي كانت متهلله فرحا في النافذة منذ قليل، لكن أحدا لم يكن في الانتظار. البيت خالي تماما من أي مظهر من مظاهر الاستقبال. كلاهما يستشعر الحرج محاولا إخفاءه عن الآخر، ويبدأ هو في الصياح.. ينادي عليهما مرة بعد الأخرى وكأنه يستجدي منهما الاهتمام، ولا يسفر كل هذا عن شيء إلا بعد مرور وقت طويل.
“خنزير مهمل في حظيرة”
وعندما يحدث اللقاء أخيرا، يفاجأ المشاهد أنه أمام صورة كاريكاتورية مشوهة لأب وأم في غاية الاضطراب والغرابة، وهي أغلب الظن ليست صورة موضوعية وإنما انطباعية، تظهرهما بشكل يشبه شعوره بهما، خصوصا في طفولته.
تبدأ في الظهور الكثير من المشاعر والانطباعات المتناقضة عند كل منهم. هو يشعر بحرج شديد نتيجة سلوكهما العجيب، وينفر من لمساتهما، وفي ذات الوقت يحاول بشكل يائس إثارة اعجابهما وخلق علاقة طيبة بينهما وبين الفتاة، لأنه وكما ذكرنا سابقا الفتاة هي قناة الوصل بينهم جميعا. يحاول إثارة اعجابهما بأنها فيزيائية ناجحة، لأنه هو فيزيائي ناجح، وبأنها رسامة موهوبة، لأنه هو رسام موهوب، وبأنها تعاملهما برفق، لأنه هو من كان يعاملهما برفق كما ظهر في مشهد إطعام الأم العجوز، عندما قال لها أن لا أحد يرى الخير الذي يفعله، ولا أحد يقدره. ولهذا كان بحاجة لخلق تلك العين المنفصلة عنه لترى جوهره الطيب، ولتُري الوالدين هذه الطيبة والميزات علهم يشعروا بالرضى عنه فيرضى هو عن نفسه.
لكن النتيجة لم تكن قبولهما أو رفضهما، بل الإثنين معا، وهو أمر يثير الجنون بلا أدنى شك،
فالأم ترحب بشدة في النافذة، ثم ترفض النزول لإبداء الترحاب عند الاستقبال. تثني على جهوده في الدراسة ثم تصمه بالغباء. تضحك بهستريا ثم تبكي بحرارة. تقبل وترفض، تُقبِل وتُدبِر.
ويجدر بنا هنا الحديث عن نموذج الأم المُسَببَة للفصام
(schizophrenogenic mother)
وهي الأم المضطربة التي يمكن تمييزها بعدد من الصفات أهمها إرسال (double message)أو رسائل متناقضة، في نفس الوقت وطوال الوقت. مما يتسبب في اضطرابات نفسية وذهنية شديدة لدى الأبناء قد تصل للإصابة بالفصام. وقد تطرق الثنائي للحديث عن هذا الموضوع تحديدا بعد انتهاء الزيارة، عندما تقول الفتاة مازحة في سياق الكلام “آيس كريم بارد مثل أمك”
فيغضب في البداية ويرفض تفوهها بالعبارة، ثم بعد وهلة يقول “أنا أرفض فكرة أن الأم هي سبب كل المشكلات النفسية، لكن من المغري أن نجد شخصا نلصق به التهمة، سبب شعور معين، سبب تكون سمة معينة”
فتبدأ هي في الدفاع عن أمه وعن الأمومة عموما ضد هذه الاتهامات التي اعتبرتها هراء فرويدي لا معنى له، وأنهم ظلما كانوا يتهموا الأم بأنها السبب في معظم الأمراض النفسية والعقلية، كالفصام والتوحد، والنرجسية والمثلية. ولا ننسى أنها تدافع هنا عن الأمومة عموما وعن أمه خصوصا لأن دورها الأساسي في تلك الرحلة هو رأب الصدوع بينه وبين أبويه.
تمضي الزيارة من سيء لأسوأ، وتظل هي متماسكة، تتعامل بذكاء ولطف، فلقد خُلِقَت في الأصل للقيام بهذا الدور، والذي أرادت بشدة التمرد عليه ولم تستطع.
طوال الوقت كانت تؤكد على رغبتها في العودة لبيتها في المدينة، والأبوان يصممان على بقائها في المزرعة، فالماضي يزداد شراسة، وإرادته توشك على التغلب على إرادتها، وجاذبية القاع تواصل شدها، محاولة إبقاءها.
إبقاءها أين؟
في لا وعيه، حيث يعيش مريض الذهان غير قادر على العودة لوعيه مرة أخر.
وقد كان أعمق مكان في عقله المضطرب هو القبو، والذي كان يهابه ويرفض نزولها إليه رفضا باتا، إلى أن دفعتها أمه دفعا لاتخاذ تلك الخطوة حينما أمرتها بصرامة “إنزلي القبو وواجهي المخاطر”، تماما كما أصرت عليها لترد على هاتفها الذي كانت تتجاهله متعمدة –لتواجه خطر آخر- والذي كان يظهر أسماء متصلين تشبه أسماءها المختلفة، وعندما ردت كان الصوت المجهول على الجانب الآخر يكرر طلب واحد، وهو أنه يحتاج لإجابة على سؤاله، سؤاله الذي لم يتفوه به قط، والذي يمكن للمشاهد أن يحزره وحده.
انصاعت الفتاة لرغبة الأم ونزلت للقبو، فثارت ثائرة جيك، ووقف أعلى السلم يحاول إقناعها بالعودة لكنها ترفض وتواصل التغور داخله.
وهنا نلاحظ أن صوته يخفت رغم أنه كان يصيح، حتى إننا نكاد نسمع ما يقول.
لماذا؟
لأنها في تلك اللحظة انتقلت إلى طبقة أعمق من لا وعيه، حيث لا يملك سلطة، ولا قدرة على التأثير.
وهناك.. في هذا القرار، تتجمع رموز الشخصيات الثلاثة سويا للمرة الأولى. فالفتاة هي الشخصية الأساسية الفاعلة هناك، تكتشف أن كل لوحاتها مرسومة بريشة جيك، وهو الشخصية الثانية، أما الثالثة فهي شخصية العجوز التي أحالتنا إليها قطع ملابسه المتطابقة في الغسالة، فجيك العجوز يحاول تطهير نفسه وعقله من كل تلك السموم العالقة به، وربما لهذا كانت وظيفته الحالية هي تنظيف وتعقيم المدرسة، التي تمثل جزء محوري من ماضيه، والذي على حد قوله عاش فيه أسوأ سنوات عمره.
يغادر الثنائي البيت أخيرا، لكن رحلة التداعي الكابوسية تستمر. يعودان للسيارة مرة أخرى، التيار المتحرك عبر الناس والمواقف والذكريات. يخوضان من جديد أحاديثهما الممتعة والمثيرة للتوتر في آن، أثناء انتقالهما من البيت رمز مرحلة الطفولة، إلى محل الآيس كريم “تولسي تاون” ثم المدرسة واللذان يشكلان معا رمزية مرحلة المراهقة.
من جديد يستدرجها جيك لتولسي تاون بحجة احتياجة للسكر، في تصرف مماثل لاقتيادها للحظيرة في بداية الزيارة، فهو يختار محطاته بعناية، مواضع القيح التي تحتاج لعين تراها، وقلب يعطف عليها ومهارة تنظفها وتشفيها. وكانت دولسي تاون هي رمز مرحلة المراهقة التي مر فيها بأفظع التجارب على حد قوله والتي يرى أنها مرحلة مدمرة للعديد من المراهقين المنبوذين الذين يقضون ما تبقى من حياتهم في معاناه إثر ما خبروه في تلك السنوات.
قبل الوصول كان ذكر المحل نوستاليجيا مبهجة استعادا من ذاكرتهما الأغنية الدعائية للمحل، حيث المهرجة الجميلة تعطي للأطفال الآيس كريم الذي ينبت على الأشجار. لحن جميل وكلمات مرحة، تمثل توقعات ما قبل دخول المدرسة الثانوية لشخص مثل جيك، أحلام طفولية بريئة سيكون فيها كل شيء ممتعا وسط أجواء لطيفة في عالم المهرجين الملون، لكن كل هذا قبل الوصول، أما عن حقيقة المرحلة الثانوية التي عانى أثنائها الأمرين، فهي ما وجدوه في محل دولسي تاون الحقيقي، هذا المكان الكئيب الواقع وسط الظلام الحالك والعواصف الثلجية. وهناك وجدا ثلاث بائعات بأنماط عجيبة لا يمكن تجاوزها. أولا ظهرتا فتاتان جميلتان لعوبتان، كانتا بلا شك تعرفانه، تشيران إليه وتحاولان جذب اهتمامه بميوعة لا تخلوا من السخرية، وهو لا يقوى حتى على النظر مباشرة إليهما، فهما يثيران فيه إحساسه بالدونية والنقص والارتباك، أما عن الفتاة الثالثة والتي دار بينها وبين البطلة حديث قصير غريب ومثير للتوتر والخوف، فكانت من ذات النوعية التي تحدث عنها جيك منذ دقائق في السيارة، فئة متواضعي الجمال، منخفضي الكاريزما، المصنفين كمنبوذين، بل إن الفتاة إن أعدت الشريط قليلا إلى الخلف، هي ذاتها التي ظهرت تمر بجواره في رواق المدرسة الثانوية، في مشهد ظهر سريعا أثناء حديثه عن النبذ المدرسي، لكنها بدت هنا بشكل انطباعي أكثر قبحا.
التفصيلة التي تبدو شديدة الأهمية هنا، هي التقرحات الموجودة على جسد البائعة، ففي اللحظة التي سيقترب فيها جيك مرغما ليعطيها ثمن الحلوى، ولثوان عابرة، سنلاحظ كفيهما متجاورين، وفي كل منهما ذات التقرحات. عندما وقع نظر البطلة على البائعة لأول وهلة فكرت في أن الفتاة تبدو مألوفة بشكل غريب، هي تشعر بأنها رأتها من قبل لكنها لا تذكر أين ومتى. والسؤال هنا هو الآتي..
هل المقصود هو أن الفتاة المنبوذة المتقرحة هي الجزء الأنثوي المكبوت من جيك؟ ولا أقصد هنا الأنيما كما وصفت البطلة سابقا، وإنما أشير إلى اضطراب الهوية الجندري من جديد، ربما لهذا شعرت البطلة بأنها تعرفها، لأنها ببساطة تعرف جيك، وهي جزء مخبوء منه، لازال عالقا في عالم المدرسة الثانوية القاسي، يتقرح ويتعذب بصحبة الجميلات المرغوبات السويات، وربما لهذا حذرتها من المضي قدما في الزمن وأخبرتها بأنه يمكنها البقاء هنا. يمكنها اختيارها هي، بدلا من اختيار جيك. الأنثى بدلا من الذكر!
ترحل البطلة مع جيك لاستكمال الرحلة الكابوسية التي تأبى أن تنتهي، ومن جديد يستدرجها جيك للمحطة التالية، متحججا بحجة واهية وشديدة السخف، فهو يريد التخلص من أكواب الآيس كريم ولا يجد على الطريق أي صناديق قمامة، وبالتالي يقرر رغما عنها أن ينعطف عن الطريق الرئيسي ويسلك واحدا آخر يقود لمدرسته الثانوية ليرمي الأكواب في القمامة هناك.
الأكواب التي حصل عليها من دولسي تاون (مراهقته) والتي يقوم جيك العجوز بجمعها كل يوم اثناء تنظيفه للمكان، ليلقيهما في صندوق قمامة ضخم خارج المدرسة (محاولته للتطهر من أوساخ الماضي)
ولا يكتفي جيك بالانتظار في السيارة خارج المدرسة، فهاهو يعثر على سبب واهي جديد يستدرجها به داخل المبنى، لكن هذه المرة وحدها، فقد اختفى تماما، وأبواب السيارة تنغلق وهي خارجها، لتجد الفتاة نفسها وحيدة وعالقة وسط العاصفة الثلجية، ولا يكون أمامها خيارسوى دخول المبنى، رغم فزعها الشديد.
ها هو التفكك النهائي يبدأ في الحدوث، الشخصيتان الوهميتان تنفصلان، ليقابل جيك العجوز الحقيقي أحدهما وجها لوجه، وفي هذه المواجهة الأولى بينه وبين الفتاة- العلاج، المحاولة الأخيرة، الأمل الأخير، العين التي تمنى أن تبصر ألمه وتشفي ندوبة وتصالحه على العالم- في هذه اللحظة البائسة تنفجر ولأول مرة بحديث متضارب وجارح ومؤلم. يسألها العجوز بعينين حزينتين ” كيف يبدو حبيبك؟”
لقد عاش حياته غير مرئي وكان على هذا الجزء المنفصم عنه أن يتمكن من رؤيته..
لكن يبدو أنه فشل حتى في ذلك، فقد أخبرته أنها لم تفهمه أبدا، هي لا تراه، لاتذكره، تحتقره، وتتقزز حتى من نظرته، لقد شبهته ببعوضة لدغتها منذ أربعين عاما وقالت أنها بالتأكيد لن تتمكن من وصف تلك البعوضة. كان العجوز يرمقها باستجداء وحسره، ثم أخبرها بأنه لم ير حبيبها لكنه يراها هي.
بالتأكيد يراها فهو من خلقها في البدء، لكنها خذلته، كان ينبغي عليها أن تنقذه من الانهيار، لكنها انهارت قبله فلم يعد هناك من أمل في النجاة من الجنون.
وفي حلم أخير بدا كأجمل ما يكون، ظهر فيه كلا من جيك الشاب وحبيبته بمظهر آخر أجمل وأكثر جاذبية، يتشاركان رقصة رقيقة بتناغم بديع، يليق بأن يكون آخر تناغم لأجزاء الشخصية التي ستتفكك وتتشظى بعد لحظات، عندما يقتحم الرقصة من يمثل العجوز ويقوم بقتل البطل. وهنا ينتهي الاستعراض، وينتهي الحلم. يتبادل جيك والفتاة نظرة أخيرة ثم يمضي كلا منهما في طريق، ليبقى جيك العجوز الحقيقي وحده، بكامل ضعفه وعريه ومرضه.
وهنا تبدأ النهاية.
في التحليل النفسي عن أحد الحيل الدفاعية التي يلجأ(regression)يعبر مصطلح النكوص
لها الفرد بشكل لا واعي للتغلب على الإحباط والضغوط حينما يعجز تماما عن مواجهة واقعه الصادم بشكل سوي. والنكوص معناه العودة لمرحلة سابقة من التكوين النفسي لدى الإنسان، من خلال الارتداد لنمط سلوكي خاص بفئة عمرية سابقة، وغالبا ما يكون آخر سن شعر فيه بالأمان والطمأنينة. قد يعود أثناء كهولته لسلوكيات مرحلة المراهقة، وإن لم تكن تلك هي المرحلة المتزنة في حياته فسيعود لمرحلة الطفولة، لكن ماذا يمكن ان يحدث إن لم تكن هناك أي مرحلة في حياته يمكن أن يعود إليها ليطمئن؟! هنا يحدث ما يسمى بالنكوص الغائي المتقدم
(progressive teleological regression)
حيث يعود لمرحلة الطفولة المبكرة، حينما كان يبلغ من العمر شهور أو أيام، عندما كان يحلم ويهلوس بخيالات لطيفة ومسلية لتمضية الوقت والتغلب على شعور فقد أمه حينما تنشغل عنه. وبالطبع الارتداد لتلك المرحلة في سن كبيرة يمكن ببساطة أن يؤدي إلى الفصام، حيث الانفصال عن الواقع والغرق في الهلاوس والأخيلة.
وهذا بالضبط هو ما حدث لجيك العجوز، فبعد رحيل الشخصيتين المتخيلتين، وجد نفسه وحيدا تماما، أمام واقع لا يمكن احتماله.
في مشهد ركوبه للسياره، يشرع في تشغيلها ثم يتوقف، وتركز الكاميرا أكثر من مرة على السيارة من الخارج وهي متوقفة. السيارة التي كانت مرادف للزمن كما ذكرنا سابقا، ها هي تعجز عن الحركة.
لقد توقف الزمن في هذه اللحظة!
نرى لقطات سريعه لطريق نقترب فيه بسرعة من بيته، وهنا يظهر في البيت جيك الشاب والأم والأب بأشكالهم الحقيقية لا بأشكالهم الكاريكاتورية الانطباعية السابقة، وقد اختار المخرج أن يظهرهما في تلك اللحظات أثناء عراك، وأن يظهر جيك مضطرب وحزين، ثم يعود بنا بسرعة للسيارة التي يجلس فيها جيك العجوز ويبدأ في الانهيار التام والتشنج، لنجد أنفسنا هنا أمام آخر لحظة وعي حقيقي قبل أن يسقط ويضيع في دهاليز الذهان.
وبعدها مباشرة يظهر أمامه على زجاج السيارة الإعلان المرح لمحلات دولسي تاون، والتي ذكرنا مسبقا أنها ترمز لأحلام الطفولة الوردية البريئة، حيث ينمو الآيس كريم على الأشجار، وحيث تدلل الأطفال مهرجة جميلة ومبهجة، وهنا يبدأ في الاطمئنان،
لقد بدأت عملية النكوص إذا.. ها هو يعود إلى الخلف ويلقي نفسه في أحضان طفولته المتخيلة الجميلة.
لكن طفولة جيك لم تكن جميلة، إذا فهي مرحلة لا يمكن البقاء فيها طويلا لأنها لن تحقق الاطمئنان المأمول.. وهنا كانت المفاجأة..
سيواصل جيك الارتداد، ولأنه لا ملاذ على خط الزمن الخاص به ليؤيه، سيستسلم لارتداد يعود به للمرحلة ما قبل الإنسانية.. سيتحول إلى حيوان.. إلى خنزير..
ها هو الآن يخلع عنه ملابسه وإنسانيته وينصت لكلمات الخنزير المختارة بعناية فائقة
“لا بأس بالأمر حين تكف عن الرثاء لنفسك.. لأنك مجرد خنزير، أو أسوأ.. خنزير مملوء بالديدان. هناك من يجب أن يكون خنزيرا مليء بالديدان.. صحيح؟
إنني أتطور الآن كشبح، كذكرى، كرماد كما ستصبح أنت. نحن متشابهان، كل شيء متشابه إن أمعنت النظر. بصفتك عالم فيزياء أنت تعرف ذلك. أنا.. أنت.. الأفكار.. جميعنا شيء واحد”
إذا، وكما ذكرنا في البداية، لقد كان في نظر نفسه خنزير مهمل مليء بالديدان في حظيرة أهله، وها هو الآن يسقط في الفكرة فتتلبسه وتتوحد معه. الآن هو في القاع، في حظيرة لا وعيه. لقد أتم انفصاله عن الواقع واستسلم للجنون.
وفي نهاية حواره مع الخنزير يخبره بأنه سيلبسه الآن بعض الثياب، ليبدأ بعدها مباشرة مشهد النهاية، الذي كان محيرا للكثيرين، لكنه في هذا السياق يمكن تفسيره بالآتي..
بعد أن انفصل جيك عن الواقع بدأت هلاوسه الفصامية. لم يعد الأمر مجرد اختلاق لشخصيات تساعده على التصالح مع ماضيه، وعلى رأب الصدوع بينه وبين أهله. لقد فشلت كل تلك المحاولات. ألم يكن منذ البداية يفكر في إنهاء الأشياء؟!
وها هو قد أنهاها بالفعل. لم يكن المقصود إذا هو الانتحار بل الانفصال عن الواقع.
وفي هذه الهلوسة الأخيرة كان نجما على مسرح. رجل ناجح ومقدر من الجميع، يرمقه كل الحضور بإعجاب، والحضور هنا هم كل الناس، كل من عرفهم، كل الممثلين المشاركين بالفيلم منذ بدايته.
الآن هم يرونه بعد أن كان خفيا لا يبصره أحد. الآن هو عجوز بهيئة مختلفة عن جيك العجوز الحقيقي، فهو يكرهه ويحتقره، لقد خلفه وراءه واستبدله بعجوز آخر أشبه بصورته في شبابه. وكان على الحضور كذلك أن يكونوا عجائز شبيهين بصورتهم الشبابية، بمكياج رديء يليق بهلوسة المجانين.
ولأن جيك مريض عقلي، وعلى الأرجح مريض فصام، فقد اختار لخطبة النهاية أن تكون مقتبسة عن الفيلم الشهير
Beautiful mind
.. لماذا؟
لأن بطله جون ناش عالم فيزيائي مريض بالفصام تمكن على الرغم من مرضه وانهياره العقلي أن يحقق الشهرة والنجاح العملي الذي وصل به للفوز بجائزة نوبل، وأن يحقق النجاح العاطفي بزواجه من فتاة أحلامه التي أحبته بكل عيوبه ونواقصه وظلت داعما له حتى النهاية. وقد كانت تلك هي الصورة النموذجية التي يمكن أن تنتهي بها حياته.
وعند هذه النقطة ينتهي الفيلم، وتنتهي الرحلة التي حاول البطل خلالها أن ينجو، لكنه فشل وتداعى، على مرأى ومسمع من المشاهد، ليمنحه هذا العمل الفني البديع، فرصة التغور داخل عقل فصامي. أن يرى من خلال عينيه، ويدرك بعقله المشوش، ثم يعود بعد النهاية لمنطقة أمانه، محملا بخبرة فريدة لا تنسى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة وروائية مصرية
المراجع:
-مدخل إلى الدراسة النفسية للأدب، شاكر عبد الحميد
-الطب النفسي المعاصر، أحمد عكاشة
-https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(12)60546-7/fulltext
