فصلٌ من رواية “الهروب إلى الظل” لـ فريد عبد العظيم

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
دعيني أحدثك عن مشاعري، لنكون أكثر وضوحًا ليست مشاعر وإنما مجرد انطباعات، امرأة بمنتصف العمر عادية الملامح، وجه بلا مساحيق وشعر قصير، لم أنبهر وإنما توترت، أدركت الورطة، ما لي أنا بالجيران؟ صعبت عليّ نفسي، هل وصل بي الحال إلى فعل أشياء صبيانية لتمرير الوقت.

فريد عبد العظيم 

هجرتني بسبب قبلة.

قالت بأسى: أخاف الارتباط برجل يخشى التقبيل.      

لسنا بمراهقين يا “حياة”، رتبت كل شيء وبالنهاية تركتِني بلا حتى تحية وداع.

أنسيتِ حديثك؟!

قلتِ: ينقصك الشجاعة يا بهيج، كررت جملتكِ مرارًا وتقبلتها بصدر رحب، استقبلت الطعنات وبالوقت ذاته رسمت الابتسامة على شفتي.

لماذا؟!

أنتِ غبية. أحبك، وحده الحب هو ما جعلني أتحمل ترهاتك، رعونتك وكلماتك التي كالرصاص.

نعتِني بالجبن فاستجمعت شجاعتي، قلت لنفسي: سأثبت لها خطأ رؤاها، اتصلت بك وحددت موعدًا للقاء، اشتريتُ خاتمًا وحجزت منضدة على النيل بمطعمك المفضل، احتضنت بيدي أناملك، نطق لساني صراحة بكل ما أحمله لك بقلبي، لم أتخيل أبدًا أن تكون ردة فعلك بتلك الطريقة.

لماذا انتفضتِ وحررتِ أصابعك؟ لمَ قطّبت جبينك وهببتِ من على الكرسي؟

جريت كالمراهقات عندما ناديتك، ركضتِ واندفعت داخل التاكسي وكأنني أطاردك.

لم أتخيل أنك بمثل هذه القسوة، لم تلتفتي حتى لتري دموعي.

ما المشكلة؟!

طالما أكدتِ أن السن ليست بعائق، قلتِ: العمر الحقيقي للإنسان يقاس بالأيام السعيدة.

لو طبّقت مقياسك للعمر عليّ سأكون رضيعًا، ليس بيني وبين السعادة وفاق.

حسنًا لنكون أكثر دقة، عمري ستة وستون، عشت أغلبها في كدر، بالفعل تصغرينني بخمس سنوات وثلاثة أشهر لكن وفقًا لحسابك أنا ما زلت طفلًا.

تعرفين يا حبيبتي لو أنك تركتِني لسبب مقنع؛ رفض ابنتك مثلًا، المظهر الاجتماعي، أي شيء من هذا القبيل، لكنت تقبّلت الأمر على مضض، أيام من الحزن ثم أعود إلى طبيعتي الأولى، وتصبحين ذكرى لأيام سعيدة لم تدم، لكن أن يكون السبب قبلة، قبلة توقعتِها ولم تحدث.

لماذا لم تصارحينني؟ أنت جريئة كما تدعين دائمًا، لمَ لم تطلبيها؟ أنا لا أضرب الودع يا حبيبتي.

لم يكن لحياتي طعم قبلك، لا أتذكر هل صرّحت لك بذلك من قبل أم منعني غروري، أقرّب لك المعنى، أعرف أنك لا تفضلين تلك التعابير، بطريقة أكثر ركاكة، كانت الحياة قبلك أشبه بالطعام المسلوق، شوربة خضراوات على الطريقة الأوروبية خالية تمامًا من النكهات، كهل ينتظر النهاية، كن صريحًا يا بهيج، شيخ بمرحلة الأفول يمرر الوقت بصبر حتى تأتي اللحظة.

صدفة جعلتني أقابلك في آخر العمر، أعتقد أن أفضل قرار قد اتخذته بحياتي هو القدوم إلى تلك المدينة الجديدة.

أمضيت أغلب عمري بمصر الجديدة، ولدت وعشت بها، لم أتخيل يومًا مغادرتها على قدمي، جدي شيّد المنزل، أعتقد في عصر الملك فؤاد، سكنه وأنجب الأولاد، كبروا وصاروا رجالًا، تزوجوا فيه، ملأوه بالأطفال، حديقة رائعة ما زلت أتذكرها، نافورة أنيقة وأرجوحة أثرها لم يفارق فخذي الأيسر إلى الآن، ندبة لي وأخرى لابن عمي.

كبر الأحفاد، رحل ملكان، اعتقل رئيس وسُمّ آخر، اغتيل ثالث وأتى رابع أمضى ربع قرن ونيفًا.

من الواضح أن كل شيء قد تغير وأنا ثابت، كنا أقارب وأصبحنا مجرد ورثة، أبناء الأعمام اتخذوا القرار وأبلغوني، للأمانة هم ليسوا أصحاب الفكرة، أبناؤهم أرادوا المغادرة، ليس الرحيل بالطبع هو الهدف وإنما الأموال، أقنعوا آباءهم بحتمية البيع، رجل سمين صاحب مال ونفوذ ويريد التوسع، حقه ومن يقدر على الرفض، المنزل الذي عشنا فيه لسنوات هدم بأيام، برج آخر ذو مدخل رخامي يفتقر للجمال انضم إلى الصف، متأكد من أن مصر الجديدة ستتحول خلال سنوات قليلة إلى كتلة أسمنتية غاية في القبح.

اشتروا فيلا، تحديدًا كل واحد منهم شيّد واحدة لأبنائه، اجتمعوا في المدينة الجديدة على تخوم القاهرة، قالوا بثقة: المستقبل هنا، هززت رأسي ووافقتهم، لا أعرف لماذا طاوعتهم، ربما طمعًا في ونس.

عرضوا عليّ بصدق السكن معهم، شقة صغيرة لك يا ابن العم، السن كبرتْ وستحتاج يومًا إلى من يقوم بخدمتك، هززت رأسي ثانية لكن هذه المرة بالرفض، على بعد خمسة كيلو مترات منهم سكنت، اخترت شقة مشمسة تطل على حديقة، لم نتقابل منذ انتقالنا من فيلا مصر الجديدة، مشاغل الحياة هي الحجة، لا أنكر أنني قد ارتحت لذلك. لا أعرف هل أنا من اخترت الوحدة أم أنها قد كتبت عليّ.

لم أعد أفاجأ بألاعيب الدنيا، رحل أبناء العم قبل أن يهنأوا بالعيش في المدينة الجديدة، لم يستمتعوا بالنقود، الغنيمة راحت كاملة للأبناء، ارتكبوا الإثم، أيدوا هدم الماضي وشاركوا طواعية في بناء مستقبل غاية في القبح.

لم نتزاور، لم أقابلهم إلا مرة وحيدة، وهم ممددون على أسرّتهم غير قادرين على النطق، حملت نعوشهم واحدًا تلو آخر وتصدرت سرادق العزاء.

انعزلت بشقتي، وحيدًا أزداد وحدة ولا أمل بكسرها، ثم أتيتِ، جئتِ فأنرت لي الحياة، دبت عصاك على سقف الغرفة، فأحدثت شقًا من نور، كغارق تشبثت بك، نجوت بفضلك، ذقت حلاوة الدنيا متأخرًا.

لو كنت إلى جواري ستقولين هازئة: كفاك تفلسفًا.

حسنا سأقولها بطريقة أكثر بساطة، ودعت شوربة الخضراوات بفضلك وتذوقت طعامك الشهي. تأقلمت ببط، تعودت على مذاق الشطة والتوابل الحارة، تغاضيت عن تقلص معدتي، فالمذاق المدهش يستحق بعضًا من التضحية.

تريدين أن أعود كما كنت؟!

طلقت الماضي، أنت حاضري ومستقبلي، سنعيش أيامنا المتبقية معًا وسأودع الدنيا وأنا بحضنك.

 

(2)

للمدن الجديدة مميزات.

هذا ما قالوه لي فصدقته وانتقلت، بالفعل الهواء نقي هنا، مساحات شاسعة من الخضرة ومبان على الطراز الأوروبي، أوهمت نفسي بأنني سعيد؛ أستيقظ مبكرًا كل يوم، أمارس التمارين الرياضية، أعد قهوتي وأتناول إفطاري ببطء، أجلس بالبلكونة وأستمتع بالهدوء. تمر الساعات فأمل، تلسع الشمس جبهتي فأنسحب إلى الداخل، أفتح التليفزيون وأقلب بين القنوات، أحاول إضاعة الوقت فلا يضيع، أشرب الشاي، الينسون، النسكافيه، تؤلمني معدتي فأتوقف.

أدخل رأسي في شاشة اللاب توب، الإنترنت بطيء والعناوين مكررة، أقرأ الخط الدقيق بصعوبة، أدرك أن لا جديد لديهم ليقولوه فأغلق مواقع الأخبار، أمر إلى الصندوق الأزرق، أحرك الفارة وأضغط بعشوائية على الأيقونات، لا أعرف هل أنا غبي أم أن الفيسبوك قد صُمم لتسلية أناس غيري، يؤلمني ظهري فأجدها حجة جيدة لإغلاقه.

أجلس على كرسي المكتب، أراقب عقارب الساعة التي تأبى التحرك، يؤذن لصلاة الظهر فأدرك مصيبتي، استنفدت كل حيلي لتمرير الوقت ولا أمل، أغلق عيني وأحاول التأمل، أظن أن جرس الباب قد رن فأنتفض، أهرول نحوه فأدرك أنني لن أتأقلم أبدًا، كل يوم على هذا الحال، أفتح فلا أجد أحدًا، لا أعرف هل أذني قد شاخت أم أن حاجتي إلى ونس باتت مفضوحة؟!

لا زيارات لمن لا يمتلكون عائلة، معلومة صحيحة اختبرتها بنفسي، لم يطرق أحد بابي منذ وطأت قدمي تلك المدينة الجديدة، باستثناء محصلي الكهرباء والغاز والمياه لم يظهر أحد، المرة الوحيدة التي حضر فيها واحد من أبناء الأعمام، أقصد أبناء أبناء الأعمام، كان لإبلاغي بقرار بيع العشرين فدانًا، شرب الشاي في عجالة ثم توجهنا إلى الشهر العقاري، يومها أخبرني أنني حسن الحظ.

شقتك سيتضاعف سعرها بالمستقبل يا عمو، سيشيدون “كومباوند” ضخمًا أمام بلكونتك، “فيو” رائع سيجعل كثيرين يعرضون عليك أضعاف ما دفعته.

الحظ، دعونا نسميه حظًا، أؤمن بالقدر، أشياء غير منطقية تحدث وغالبًا ما تفتقر إلى العدل، العجوز المنفي إلى مدينة جديدة مضطرًا سيرتفع سعر شقته التي يكرهها، سيمتلئ سور الكومباوند بالمطاعم والكافيهات، سينتهي الهدوء وسيكون الزحام على أشده، سأقاطع البلكونة مرغمًا، بعدها بسنوات قليلة سأموت، ستفوح رائحتي وستزعج السكان، سيبلغون حتمًا البوليس، ستنشر الجرائد الخبر، سينعيني اتحاد الكتاب وربما يقيمون حفلًا لتأبيني.

سيظهر أبناء أبناء العم بملابس الحداد، سيرمون كراكيبي ويبيعون مكتبتي لأحد بائعي اللب والسوداني، لن يضيّعوا الوقت، سيضعون إعلانًا على أحد المواقع المختصة ببيع العقارات، سيكتبون: شقة بموقع غاية في التميز، بسعر مغرٍ وذلك لسرعة البيع.

لولا دبيب عصاك يا حياة لكنت مت.

يوم كغيره من الأيام، جلوس بالساعات على المكتب وتمرير الوقت بلا طائل في مراجعة مقالي الشهري اليتيم. نقر على الحائط، لا، دبيب مصدره سقف الغرفة، أكذب أذني، أرفض خداعها لي، أكره مقالبها المتكررة، يرتفع الصوت، أنهض، أغادر الغرفة، أتأكد من إغلاق جميع النوافذ والأبواب.

أعود وأسترق السمع، أتساءل: الشقة بالأعلى خاوية، منذ أن انتقلت إلى البناية وأغلب الشقق خالية من السكان، خمسة أدوار، عشر شقق، أربع منها فقط مأهولة، لا أحد بالدور الخامس متأكد من ذلك.

اختفى الصوت فعاد الملل، سلّيت نفسي برسم سيناريو؛ عصابة من شخصين قد استوليا على الشقة، عادل إمام وأحمد مظهر، سيصنعان فجوة بالسقف وينتظران الوقت المناسب لتنفيذ العملية، في اليوم الأول من الشهر سيهبطان، سأخرج كما المعتاد لاستلام المعاش وقبل أن أعود سيكونان قد نهبا كل شيء.

سيناريو مبتذل لا يليق بمثقف مثلك يا بهيج، اشغل وقتك بأشياء أكثر رقيًا.

راجعت المقال لساعة، لا معنى لما أقوم به، فقد أرسلته للجريدة عبر الإيميل بالأمس، عاد النقر ثانية فنهضت، غادرت شقتي وانطلقت إلى الأعلى، لا أعرف حتى الآن كيف واتتني الجرأة لطرق الباب، مرت دقيقة ولم يفتح أحد فقررت الهبوط، وأنا على أولى درجات السلم عاد الدبيب، بات أكثر وضوحًا وانتظامًا، ارتفع فاقتربت ثانية، قبل أن أضغط على زر الجرس فتحتِ، رأيتكِ للمرة الأولى يا حبيبتي.

دعيني أحدثك عن مشاعري، لنكون أكثر وضوحًا ليست مشاعر وإنما مجرد انطباعات، امرأة بمنتصف العمر عادية الملامح، وجه بلا مساحيق وشعر قصير، لم أنبهر وإنما توترت، أدركت الورطة، ما لي أنا بالجيران؟ صعبت عليّ نفسي، هل وصل بي الحال إلى فعل أشياء صبيانية لتمرير الوقت.

دفء صوتك هو ما جعلني أقاوم رغبتي في الركض، ترحيبك كان مبالغًا، أعرف أنك ستقولين: ليس كل الناس مثلك، حسنًا كلكم ودودون وأنا الفظ الوحيد.

منذ الوهلة الأولى أدركت أنك وحيدة مثلي، لو تملكين عائلة لما اضطررت إلى فتح الباب بنفسك، العكاز الذي تستندين عليه هو سبب النقر على سقف غرفتي، استغربت نفسي عندما وافقت على المرور إلى الداخل، ليس بسبب إصرارك دخلت، وإنما للألم البادي على وجهك، استندتِ على عكازك حتى وصلت إلى الكرسي، جلستِ وطلبت مني بود إعداد الشاي.

امرأة غريبة لم تكد تعرفني وتعاملني كأنني قريب، هكذا قلت لنفسي وأنا أسألك عن موضع السكر والبراد.

ثرثارة أنت، فمك لم ينغلق لساعة كاملة أمّا أنا فلم أنطق بكلمة، شكرتِني لا أعرف لماذا وصرحت برغبتك في رد الزيارة، ودّعتك وهرولت هاربًا، خططت وأنا أهبط درجات السلم في كيفية الإفلات من صداقة محتملة.

قررت قضاء بقية اليوم في التجول، المشي مفيد لمن هم في مثل عمري، ولو تعبت سأجلس على المقهى، فكرت في الذهاب للسينما أو تجربة تناول الطعام في المطعم الصيني القريب، أرهقت عقلي بالتفكير وبالنهاية دخلت إلى شقتي مستسلمًا لقضائي.

تصرفت كمراهق، لا أستطيع وصف شعوري ساعتها، تحركت كما المجنون، غسلت المواعين وكنست أرضية الصالة وغرفة المكتب، نفضت الغبار من على الأثاث، رتبت المكتبة بحيث تظهر مؤلفاتي بالصدارة، وضعت عددًا قديمًا من الجريدة على المنضدة، وتعمدت إظهار المقال الذي تتصدره صورتي، شذبت ذقني وارتديت بنطالًا وجاكيت لم ألبسهما منذ سنوات، جلست على الكرسي أقرض أظافري وأنا أنظر لعقارب الساعة.

كطفل ينتظر أن يمر الوقت ليحصل على لعبة جديدة، كنت أعتقد أن عقلي كان مغيبًا، لو أنه قد عاد إلى العمل ساعتها لانتهت قصتنا قبل أن تبدأ، كنت سأعود لطبعي الأول، أغلق أضواء الشقة وأحبس نفسي بغرفة المكتب، ستطرقين الباب ولا أجيب، فأنا معتاد على الهرب مرة تلو أخرى وستنسين جارك البرّاوي عديم الذوق.

رن الجرس، أصبعك ضغط عليه فانتفضت، لم أعط فرصة لعقلي كي يفكر، فتحت الباب بسرعة كي أخادعه، دخلتِ حتى قبل أن أنطق: تفضلي، جلستِ على أقرب كرسي وأشعلت سيجارتك.

إعملنا فنجانين قهوة ولا أنت بخيل؟ هكذا قلتِ فضحكت وانسحبت إلى المطبخ.

أنت مجنونة ويبدو أنني أحتاج لبعض من جنونك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري، الرواية صادرة عن دار المرايا معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
أمل سالم

الحدث