Her.. كبسولة السعادة الوقتية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
إسراء إمام
فى عالم الأفلام، ثمّة الكثير مما يثير الدهشة، كفيلم يخذل توقعك عن مدى جودته، ويبقى رغم تباعد الفترة التى شاهدته فيها يحمل إليك الجديد، مفسحا لذاته موضعا آخر من نفسك، ومُعنوِنا مضمونه بفضفاضية لا تندرج تحت خانة وحيدة، وإنما تكتنز بطبقات من الوعى والعمق صوب الحياة بأكملها، هذا النوع من الأفلام قد لا يجرعك كبسولة السعادة اللحظية المكتملة، وقد لا تصل معه إلى النشوة الخرافية فى المرة الأولى لمشاهدته، ولكنه يمنحك فى المقابل تذكارا منحوتا على حافة روحك، ليبقى فيما بعد جزءا من أفكارك ونظرتك إلى الدنيا.
على عكس تلك الأفلام تأتى نقيضتها، التى تُلهمك فى لحظة آنية بينما تشاهدها، قد تدفع بنبضات قلبك إلى التسارع، وتستحوذ عليك كلك، وتبلغ بك ذورة المتعة، فتنغمس فى عالمها، وتستغرق فى الانغمار مع شخوصها وحدوتها، فى الوقت الذى تودعك فيه بمجرد انتهاءك منها، فهى تقف عند حدود تواجدها الملموس، وبعد وقت تدريجى نسبى يختلف من فيلم لآخر، تبدأ فى التلاشى، تتبخر كسراب قد يعلق منه على ملابسك بعض من ذرات الحلم الخفيفة، التى لا تُشبع روحك على الأمد الطويل، ويقل السحر رويدا رويدا مع تكرار المشاهدة بعدما انفرطت حبات العُقد دفعة واحدة.
فيلم "her" من أفلام الفئة الثانية، فهو الفيلم الذى يخطفك وقت مشاهدته لدرجة تغشى عينيك عن بعض عيوبه، التى على الرغم من تربصك بها، تقبل فى التعامى عنها مقابل مقدرة الفيلم على إقامة تلك العلاقة الحميمة معك، متجاوزا أى عراقيل قد تتواجد فى توقيت التعرض والفُرجة، فأيما كانت حالتك المزاجية ستتفاعل مع الفيلم شئت أم أبيت، وبالطريقة التى يحددها هو، إنه يملك هذه القوة فى الحضور، وتلك النزعة فى السيطرة على عقلك وكيانك، والتى تفنى بعد مدة ليست بكثيرة بعدما تتم عملية المشاهدة، بعدها تبدأ فى التفانى ولا تلبث سوى أن تتراجع أمام مفعول الوقت.
لست بصدد تبيان الأفضلية ما بين النوعين، فكل منهما يملك مميزاته وعيوبه، ولكنى قصدت أن أتطرق لتوصيف كل منهما، ليتم وضع الأمور فى نصابها الصحيح، وليسع مجال الحديث عن فيلم "her" فى ظل هذه الحقيقة، التى لا تُعنى أنه لا يمتلك العديد من مواطن القوة، ولكنه أيضا يحمل فى معالجته بعض من التعثرات، التى بالطبع أخذت من جاذبيته المستقلبية، وأكسبته فى الأغلب طابع انبهارى رائح لا يبقى أبدا على شاكلته الأولى.
عن الشخصيات
الشخصية الأساسية فى الفيلم، هى شخصية ثيودور"واكين فينيكس"، ذلك الشاب الذى يوحى مظهره، بإنطوائية لا تشعر بها فيه، فهو محبوب فى عمله، وله عدد من الأصدقاء، وسبق له الخوض فى علاقة صحية إلى حد بعيد مع فتاة تزوجها عن قصة حب قوية، خلفت أثرا قويا عليه اثر اخفاقها. فعندما يطل عليك ثيودور للوهلة الأولى، يُسرب مظهره إليك بعض من الشفقة، النظارة والثياب الإعتيادية التى لا تميل إلى الهندمة، وخصلات الشعر المطلقة على سجيتها، بينما تتفاجىء بثيودور يخيّب إنطباعك الأولى عندما تطلع على حياته، كل هذا الزخم من الذكريات المثقلة بالمشاعر مع زوجته السابقة، والتى قد يحيا أحدهم ويموت دون أن يختبرها، إضافة إلى فصاحته التى تجده يمكلها عندما يتحدث إلى أحد الفتيات ليلا وهو يشرع فى دخول علاقة جنسية معها على الهاتف. فهذا المظهر التقليدى ليس له أى داعى، ولا يتماشى مع شخصية ثيودور، ولا علاقة له بقرار ثيودور فى أن يخوض تجربة التعامل مع نظام صوتى نسائى آلى يتورط معه فى علاقة حب. فهو شخص محبوب يتمتع بالكثير كرجل، ومعاناته فى الإحتياج إلى المشاركة على حسب ما جاء بالسيناريو لم يكن الدافع ورائها غرابة أطواره أو تفرد تركيبته، وإنما هى الحاجة العادية التى يعانى منها الجميع فى أن يحالفه الحظ فى الحصول على وليف يمسّه بحق من الداخل. فمظره بهذه الصورة المتعمدة طوال الفيلم لم يمثل سوى عامل إرباك ليس أكثر إلى جانب كونه كليشيه معهود يخص صورة اعتدنا عليها رسمتها السينما سابقا لمن يُقدم على تجارب كهذه من أشخاص يعانون من خطب ما فى التواصل مع المجتمع المحيق بهم. فالسيناريو هنا كان ذكيا فى إحداث تطوير فى مضمون الشخصية وسماتها بينما جاء مصرا فى الإحتفاظ بمظهرها النمطى.
احتدت لذعة الواجهة الشكلية تلك مع التزام الشخصية الأخرى آيمى " آيمى آدمز" بنفس الأسمال الرثة، والوجه الشاحب من دون أية مساحيق تجميل، آيمى هى الصديقة الأولى لـ ثيودور والتى يظل يبوح لها ببعض من مكنون قلبه طوال الفيلم، وملاذه الأول بعد رحيل انثاه الإليكترونيه المزعومة، فإذا كانت نوايا السيناريو ارادت أن تُلفت النظر لوجود تقارب ما بين ثيودور وآمى بهذه المباشرية فى مظهر كليهما، فهى بالطبع أضرت بباقى الأواصر التى تطرقت لها خلسة فيما يجمع بينهما، فلم تدع لذهنك الفرصة لكى يتأمل، وحرصت على أن تُلقى لك بالا بالمظاهر التى حتى وإن وافقت رغبة السيناريو فى التعبير عن أى شىء فهى حتما ستكون منقوصة فى دلالتها من فرط التوقع.
السيناريو
يقع السيناريو في منطقة رمادية ما بين الضعف والقوة، فبدا يملك شتات نفسه عندما بدأ بالتعريف عن شخصية ثيودور، ماضيه النفاذ مع إمرأة كان يحبها، واختزال تلك العلاقة فى تقديم بسيط وموجز، أجاد التعبير عن أثرها فى حياته. هذا بالإضافة إلى تفاصيل بسيطة مُلهمة فضت للمُشاهد غشاء بكارة حياة ثيودور الإنسانية وتخلت له عن باقى مساحة التمعن، فحينما تم سؤال ثيودور عن علاقته بوالدته من قبل المُبرمِج الذى يعد نظام الصوت الآلى النسائى له، أجاب فى تلعثم يوحى بتعقد ما يقف فيما بينمها. والحقيقة أن هذه التفصيلة الصغيرة تحاكى بقوة الطبيعة التى يتبدى بها ثيودور، فهو على حد قول صديقه فى العمل " يحمل فى شخصيته جزء من الأنثى والرجل" وهذا المزيج لابد وأن يواجه بعض الصعوبات فى التواصل مع الأم بشكل خاص إلا فى بعض الإثتناءات.
كما بدا السيناريو فى أوج قوامه، حينما بالغ فى دقة رسم الحياة التى يعشيها ثيودور ما بين المنزل والعمل، إلى جانب الإستعانة ببعض اللفتات اللطيفة التى أمدت الفيلم بأكمله بنوع من الحيوية، كظهور تلك الدمية الصغيرة فى لعبة الفيديو جيم بتصميمها المَرِح وتمتعها بروح الدعابة، ومشاركتها الحديث مع ثيودور وسامنتا _أنثى الصوت الإليكترونى_، تماما مثلما حدث فى مشهد الطفلة الصغيرة التى أجرت محادثة مع سامنتا عبر هاتف ثيودور الذى ظلت تتلاعب به فى براءة رقيقة تبعث على البهجة.
صياغة العلاقة بين ثيودور وسامنتا من أقوى ما فى الفيلم، طبخها السيناريو على مهل، واعتنى بها لأبعد حد، خطّها بتدرج مٌقنع، فكان لخط الرومانسية فى الفيلم ألقه ورونقه فى أسر المُتفرج، والتمكن من تلابيب عاطفته، ومن ثم اشعاره بمرارة فقد ثيودور لهذه المرأة الرائعة التى وجد فيها من نفسه الكثير. مشاهد بينهما ضجّت بالعذوبة منها مشاهد لقائهما الجنسى، ومشاهد اصطحابه لها معه ليريا العالم بعين واحدة ما بين أماكن ترفيه ومتنزهات بروح منطلقة آملة، اختزلتها جمل جميلة من الحوار، فحينما يسأل ثيودور سامنتا عن المقطوعة الموسيقية التى ألفتها وتُسمعه إياه الآن، تجيب " إنها بمثابة صورة تجمع بيننا".
من ناحية أخرى جاءت علاقة آيمى بزوجها، علاقة مُبهمة سريعة التحضير، تعرض لها السيناريو فقط ليُنهيها، ولم يعبأ بتناولها بجدية، وبالتبعية أثر ذلك على شخصية آيمى، لدرجة أخلت أحيانا بمنطق تواجدها كله، إن السيناريو بخصوص هذا الجزء بأكمله فقد الكثير من منطقه .
وعلى قدر تماسك ترتيب الحدث فى السيناريو، ورشاقة الإيقاع التى يحملها ما بين طياته، جاءت المسارات التى يطأها توافق تخمينات المتفرج بجدارة، فهو لم يخذل التيمة التى اعتدنا عليها فى بلوغ نقطة الصدام فيما بين حقيقية علاقة سامنتا وثيودور وزيف شكلها، واختار السيناريو النهاية التى تراكم استخدامها فى رحيل الحُلم وبقاء الواقع بمرارته، وهو الأمر الغريب الذى يدعو للتساؤل، لماذا لم يكسر السيناريو هذا التابوه ويُكمل خطا الوهم للنهاية بمعالجة أخرى.
الصورة
المستوى الجمالى للصورة كان ملفتا، ذلك التناسق الواضح فى شكل الألوان وتكوين الكادرات، والحرص على أن يطغو اللون الوردى على أكثر قطع الأثاث بما يلائم ملبس ثيودور على الدوام، كل هذا كان مدعاة لدعم الحُلم والتقوية من أزر الوهم الجميل، فترى ثيودور بملبسا ابيض فى نهاية الفيلم بعدما هجرته سامنتا، مؤكدا عودته لدنيا الحقيقة من جديد، فالدلالات اللونية جاءت مع رمزيتها حملت طابعا بصريا مميزا، ومريح للعين.
تعمد إظلام الشاشة وقت اللقاء الجنسى بين ثيودور وسامنتا، حقق وقعا عطر لهذا المشهد الخلاب، الذى أعده من أجمل المشاهد التى قد تعلق فى ذهنك من هذا الفيلم .
عدد من اللقطات التى تم القطع عليها فى المشهد الذى تحدث فيه ثيودور مع سامنتا غاضبا متأففا من حقيقة كونها مجرد نظام على الحاسوب، جاءت على الرغم من غموضها داعمة لحالة التشويش والتوتر التى سيطرت عليه.
آخر كلمتين:
_ اختيار صوت سكارليت جوهانسين فى دور سامنتا، كان عبقريا، فهى تملك كاريزما غير عادية، فى صوتا مميزا على مستوى أداء يتلون بحرفيه ما بين الغواية والدعم والإحتواء والخوف والطفولة والأنوثة، أو على مستوى الفطرة، فهى تملك "حشرجة" منمقة وخاصة جدا مما يجعل لصوتها طنينا فريدا.