رواية “الحياة السرية لمها توفيق”: عن الوحدة، الغضب والتناقض!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
لا تتعارك الرواية مع التحرش الإلكتروني باعتباره فعل مشين عن طريق تطبيع بطلة الرواية معه وباستغلال مرتكبيه لتمضية الليالي الكئيبة، ولكن لأن في كل لعبة مكسب وخسارة يقع في طريق مها ثلاثة رجال أولهم عاشق ولهان والثاني رجل يتمنى الخضوع والأخير رجل دين يوعظ الناس في النهار وفي الليل يقدم عرض جنسي أمام بطلة الرواية!

سيد عبد الحميد 

تضيع مها توفيق في التفاصيل، امرأة لا ترأف بحالها!

في روايتها الأولى تكتب “هبة عبدالعليم” سيرة حياة مزدوجة لامرأة واحدة، ككل حيواتنا التي يظهر منها جانب واحد للجميع، وجانب خاص قد لا يعرفه أحد، قد لا نعرفه نحن عن أنفسنا حتى ينكشف لنا فجأة بمجرد حدوث الفاجعة.

من افتتاحية النص الكابوسية نعرف أن مها توفيق سقطت من بين النجوم بالأمس فقط!

قبل هذا الأمس كانت حياتها هادئة، ليست مملة، ولكنها ليست صاخبة وفجأة سقطت في التجربة التي ندعوا الإله أن ننجوا منها دائمًا. تصفعها يد -على حد تعبير أمل دنقل في قصيدة الكعكة الحجرية- فتخرج من رحم البيت الدافئ إلى حياة شرسة، وككل من يخسر الحب ويتبدّل شعوره إلى خوفٍ تتعرف مها ببُطء الجاهلين على نفسها في نص مزجت فيه الروائية الفُصحى المنضبطة بالعامية المحكية على مدار 175 صفحة. تتضارب مشاعر مها بين الثبات والفرار، القوة والضعف، القسوة والحنان، النشوة والبرود، والحب والكره. فجأة تنبت في رأسها فكرة الحياة المزدوجة من خلال حساب مزيف على مواقع التواصل الإجتماعي. حساب سري للهرب من تعليقات الأخ السلطوية والابتعاد عن الرسميات القائمة في الحساب الأساسي الذي تظهر عليه الصورة المثالية للأخت، الأبنة، وزميلة العمل الجادة التي تعمل مترجمة في مكتب وكالة أنباء أجنبية في القاهرة.

 ” متى بدأ كل هذا كله؟

كل ما أذكره هو ليالي الوحدة في بيتٍ عارٍ من الأثاث”.

 تظهر “مها عادل توفيق” على حسابها المزيف باسم “ماتي” كنيتها التي لطالما دللها والدها بها، وما بين الحقيقي والمزيف، وبين مها وماتي تنكشف التفاصيل الباطنية داخل نص مكتوب بحساسية عالية في تشريح العُقد النفسية. يعود هذا الانقسام لطفولة بطلة الرواية التي نشأت في بيتٍ يحتوي على كل التناقضات اللازمة لإنشاء أزمة. أب هادئ عمل طيلة حياته في ترميم الآثار وأم عصبية ظلت في البيت طيلة حياتها لتُغذي أبنها الأوسط بالسلطة والصلاحيات الذكورية العدوانية والعنيفة تجاه مها التي لا يحبها إلا والدها، والتي تدربت على الإذعان والمراوغة بذكاءٍ للحصول على ما تريد في بيت العائلة أو في بيت الزوجية لتسيير حياتها كما يحلو لها.

الحياة التي امتلئت منذ الطفولة والمراهقة بالكتب والصور التي أدمنت التقاطها.

 سيتحول الهدوء والإذعان داخل روح مها لسلاحٍ في يد ماتي. لا تدور الرواية حول امرأة تعاني من فصام بدون وعي كامل منها، بل أنها -وبإرادة حرة- ستبدأ في تجربة الأمر باعتباره فكرة مجنونة اشتعلت بسرعة داخل رأسها، وفي محاولة الاقتداء بشهريار ستسعى ماتي للحصول على حبيبٍ مجهول لليلة واحدة، 24 ساعة لإبعاد أشباح الوحدة المرعبة والتخلص بشكلٍ مؤقت من الشعور بالضياع. ثرثرة لا فائدة منها إلا قتل الصمت الذي لا يقطعه إلا حفيف أوراق أشجار المعادي الوارفة!

 “احتاج صديقًا في حياتي أستطيع الخروج معه وتناول القهوة، ربما نشاهد فيلمًا معًا، أو نتسكع في الشوارع بلا هدف، صديقًا فقط، وليس حبيبًا”.

 تبحث ماتي أيضًا عن الرفقة، لأنها وبمجرد طلاقها خسرت فجأة كل شيء، وأصبحت في مواجهة الفراغ، الهوة العميقة التي يُسببها فقدان الحب الأول والزواج الطويل، والتي بسببها ينقطع المرء عن كل ما جمعه يومًا ما مع شريكه، والتي بسببها أيضًا يمضي ساعات الليل في مراقبة عقارب الساعة والتحديق في السقف مُتسائلا عن الأسباب.

 يرتبط كل شيء في نص هبة عبدالعليم بالافتتاحية التي ما أن يُطالعها القارئ في كل مرة تنكشف له أسباب تدهور حالة بطلة هذا النص القائم على شخصية محورية واحدة وعدة أدوات!

تستند عبدالعليم على قدراتها الفنية المتراكمة في التحرير الأدبي لكتابة نص حاد كشفرة، كل كلمة مقصود بها شعور دقيق واحد، وكل فعل من أفعال مها توفيق يؤدي لنتيجة معنية لبطلتها الموازية ماتي.

“شعرت بالتوتر والخوف والرغبة في الاختفاء. فقررت إيقاف تفعيل حسابي على الفيس بوك”.

 يعكس هذا الاقتباس صورة أخرى من صور الوحدة في عصر مواقع التواصل الإجتماعي التي اختزلت الكثير من المفاهيم والمشاعر الإنسانية وعطلت أغلبها وقولبت بعضها في إطار إلكتروني ما بين الحزن والفرح والإعجاب والغضب والاندهاش أو التلاشي الذي يتحقق بضغطة زر لتعطيل الحساب.

 هل يمكن أن نتبع خطوات الطبخ للحصول على عمل أدبي جيد؟

  حسنًا، تنطبق الإجابة على رواية “الحياة السرية لمها توفيق” حيث تعمل الكاتبة كما جاء في سيرتها الذاتية المرفقة في الرواية بأنها مقدمة برامج طهي، ولديها مدونة عن الطهي وتعمل كمطورة وصفات طعام. يبدأ النص أيضًا بمكونات بسيطة جدًا، بطلة وحيدة كما لو أنها العنصر الأساسي، بالإضافة لرجال عديدين سيظهرون في لياليها كما لو أنهم مجرد إضافات للطبق الأساسي أو كمقبلات الطعام على مائدة نص شمل العديد من المقبلات!

لا ترسم عبدالعليم في روايتها الشخصيات الفرعية لأنهم في الأساس مجرد ألعاب في يد “ماتي” تستخدمهم كما تشاء للسبب المذكور أعلاه. يتبقى لنا البهارات. يمكن للقارئ التقليدي وصف الرواية الأولى بالسيرة الذاتية لأي كاتب. من منا لم يفعل هذا؟ جميعنا وقعنا في هذا الفخ، يمكنه أيضًا أن يصف هذا النص باعتباره نص إيروتيكي / جنسي فقط لأنه يحتوي على عدة علاقات مشوهة لم يكن الهدف الأساسي منها هو الجنس!

بالإضافة لأنه لا يوجد ما يُسمى بالنص الجنسي أو الرواية الجنسية لأن الجنس بشكلٍ مستقلٍ فعل بشري وحيواني شديد العادية كالأكل والشرب، والتوق إليه أو حدوثه داخل نص أدبي ليس من المفترض أن يثير أي استهجان، ولأن أي عمل فني لا يتلاحم مع تابوهات المجتمع هو عمل غير مفيد اجتماعيًا كما أنه يكون عمل غير حر، وكلما أبتعد العمل الفني بشتى أشكاله عن ملامح المجتمع المكتوب فيه أصبح عمل غير فني بالتبعية.

تتعثر “ماتي” على الفيس بوك برجالٍ كُثر كلهم يسعون لممارسة الجنس مع امرأة لا يعرفونها تمامًا، كلما وضعت تعليقًا على أي شيء تهافت الرجال عليها من كل الطبقات فقط للحصول على متعة جنسية. في هذا الإطار أشارت عبدالعليم لشيء متكرر يحدث بدل المرة ألف حتى أصبحت شكاوى النساء منه شيء أمر لا يثير الاستهجان لأن كل تعليق في هذا الفضاء الأزرق يعتبره المتحرش دعوة مجانية لصندوق الرسائل أو ما يُعرف بال “Others” الذي ما أن يتم ذكره حتى تبدأ جميع النساء في الإشارة بأنه مليء بالدعوات الجنسية والصور العارية لرجال يبدون من الخارج -عن طريق صورهم الشخصية ومعلومات حساباتهم- محترمين!

لا تتعارك الرواية مع التحرش الإلكتروني باعتباره فعل مشين عن طريق تطبيع بطلة الرواية معه وباستغلال مرتكبيه لتمضية الليالي الكئيبة، ولكن لأن في كل لعبة مكسب وخسارة يقع في طريق مها ثلاثة رجال أولهم عاشق ولهان والثاني رجل يتمنى الخضوع والأخير رجل دين يوعظ الناس في النهار وفي الليل يقدم عرض جنسي أمام بطلة الرواية!

 – الشبق

ما الذي قد تستدعيه رواية رواية كابوسية إلا فيلم كابوسي؟ في عام 2013 صدر فيلم Nymphomaniac – الشبق من كتابة وإخراج الكاتب الدنماركي “لارس فون ترايير” يدور الفيلم حول امرأة واحدة تحكي سيرة حياتها الذاتية/ الجسدية/ والجنسية على مدار جزئيّ الفيلم. لا يمكن وصف Nymphomaniac بأنه فيلم جنسي مثير، أو أن المشاهد الجنسية التي ملئت الفيلم صُنعت للمتعة، بالطبع فيلم عنوانه الشبق قد يستدعي هذا الانطباع بشكلٍ غير واعٍ ولكن في المتن/ عمق النص المكتوب أو الفيلم المرئي تتجلى مبررات درامية عديدة. في “الحياة السرية لمها توفيق” تظهر العقدة في منتصف الرواية تمامًا بعدما تظهر أمام ماتي عقبات الفخ الذي نصبته لنفسها، وكذلك عُمق الهوة التي سقطت فيها بعد التعامل من أزمة الخروج من البيت باعتبارها أزمة يجب تجاوزها بأي ثمن دون تحليلات أو مواجهات حاسمة.

لا تعرف مها نتيجة اللعبة إلا في النهاية بعدما تأكلها الأشباح وتنتهي منها، تشبع من اللعب وتتشبّع روحها بكابوسيتها وظلامها. تلجأ مها في النهاية للطريقة التقليدية للخروج من الفخ، وككل من يصابون بالصدمة ويكتشفون فيما بعد حجم المصيبة التي وقعت بهم، وبالمرور بمراحل الحزن الخمس التي تبدأ بالاكتئاب وتنتهي بالتسليم أو القبول تنجو مها من سلطة ماتي المتوحشة ذات النزعة التدميرية بعدما توقن حقيقة أننا قد نخسر كل شيء أحيانًا حتى أنفسنا، ولمراتٍ عديدة في نفس الحياة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقد وروائي مصري 

مقالات من نفس القسم