هوس الأمير: غواية السلطة وسقوط الأقنعة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أفين حمو 

ما الذي يمكن أن يفعله الهوس بصاحبه؟ وكيف يحوله إلى ظل مشوه يتخبط في عتمة رغباته؟

حين يضع “محمد عصام الدين” عنوانًا لمجموعته القصصية هوس الأمير، فهو لا يقدّمه كمجرد لافتة، بل كمصيدة للقارئ، دعوة لولوج عالم يُدار بأوهام العظمة، حيث السلطة تتحوّل إلى لعنة، والرغبات المتأججة تتلبّس أرواح الشخصيات حتى تتهاوى في فوضى الهوس. لا يتيح لنا الكاتب رفاهية التماهي أو التعاطف، بل يتركنا وجهاً لوجه أمام أقنعة تتساقط واحدة تلو الأخرى، كاشفة عن شهوةٍ خامدة تحت أردية الوقار.

المجموعة، التي تمتد على 94 صفحة وتضم حوالي 40 قصة قصيرة، ليست مجرد حكايات عن شخصيات مأزومة، بل هي تشريح نفسي للأقنعة التي يرتديها البشر، بحثًا عن سلطة، عن معنى، أو عن شيء لا يدركون كنهه إلا بعد فوات الأوان. محمد عصام الدين لا يهاب الاقتراب من المناطق الممنوعة، بل يخترقها دون تردد، كاشفًا عن هشاشة ما نظنه راسخًا.

في القصة الأولى، والتي تحمل العنوان ذاته، نجد الشيخ سرحان الجخاخ، الأمير الذي تحيط به هالة التقوى، لكنه في الخفاء يصوغ سردية مغايرة، حيث تتداخل العبادة مع الطمع، والقداسة مع الرذيلة. جائزة “مصحف الأمير”، التي تُمنح لحفظة القرآن، ليست سوى مسرحية مرتبة، حيث يتبدد اليقين ويتسلل الشك إلى قلب الأشياء. خلف هذا التقليد الديني، تتوارى ألاعيب السلطة، حيث يصبح الدين وسيلة لحياكة النفوذ، والفضيلة مجرد رداء ينسلخ عند الحاجة.

ثم تأتي بهية، زوجته، التي تنحرف عن المسار المرسوم لها. تهرب، كأنها تخلع قيدًا خفيًا، لكنها لا تترك خلفها فراغًا، بل تترك ابنًا يحمل ظل خطيئتها. وهذا الطفل، بغير اختيار منه، يجد نفسه في عين العاصفة، بين يدي تاجر سلاح يدير اللعبة بمكرٍ بارد. الأحداث تتشابك، الأدوار تتبدل، حتى ينهار الشيخ، مذبوحًا على يد أحد تلامذته، بينما تتردد في المكان عبارة مشبعة بالمفارقة: “الله أكبر”.

لكن الكاتب لا يكتفي بسرد الحدث، بل يجعلنا نترنح بين التفاصيل، بين اليد التي تمسك السكين، والفم الذي يتلو آيات الذكر، وكأن القداسة نفسها تنقلب على ذاتها، متجسدة في مشهد فادح الازدواجية.

أما في القصة الثانية “هوس المملوك”، نلتقي بكونكيرو، الذي يبدأ حياته كعبد في سمرقند، لكن العبودية ليست مجرد سلاسل تكبّل جسده، بل هي فكرة تتغلغل في روحه، تحدد موقعه في العالم. يشاهد سيده يمارس سلطته، يراقب لذته المحرمة، يطالع قوته التي تبدو غير قابلة للانكسار، لكنه في لحظة ما، يعي أن المتفرج ليس محكومًا بالبقاء خارج اللعبة. تنقلب الأدوار، يتقمص كونكيرو شخصية سيده، ويتعلم أن السلطة ليست إلا قناعًا يمكن لأي شخص أن يضعه، بشرط أن يتقن فن الإطاحة بمن يسبقه.

هنا، تتجلى فلسفة الهوس في أنقى صورها. إنه ليس مجرد رغبة، بل لعنة تتلبّس صاحبها، تحوله من مراقب إلى مشارك، من ضحية إلى جلاد، ومن تابع إلى سلطان جديد.

أما في “هوس الثرى”، فنجد صورة أخرى للهوس، لكن هذه المرة تأخذ شكلاً أكثر برودًا. حاتم، الستينيّ الغارق في الملذات، يملك من الثروة ما يمكنه من شراء أي شيء، لكنه لا يبحث عن الممتلكات، بل عن فكرة الامتلاك نفسها. يوزع الهدايا، ثم يدّعي سرقتها، كما لو أنه يلهو بحقيقة الأشياء، يجرّدها من معناها، ثم يلقي بها في الفراغ. منزله غارق في الأطفال، لا كأب يرعاهم، بل كإقطاعيّ يستمتع بإحساس السيطرة المطلقة. كل شيء عنده يمكن شراؤه، حتى البراءة نفسها.

اللغة في هذه القصة تفقد نعومتها، تتخذ طابعًا أكثر حدّة، تكسر مجاملة السرد، لتكشف عن بشاعة لا يمكن تلطيفها. وهنا يكمن جوهر عالم هوس الأمير: لا مسافة بين الجمال والقبح، لا خط فاصل بين الفضيلة والرذيلة، كل شيء قابل للتحلل عند حافة الهوس.

في قصص أخرى من المجموعة، مثل “على حافة العدم” و*”على حافة الاحتمال”* و*”على حافة الحرية”*، نجد شخصيات تتصارع مع فكرة الاختيار، لكنها في النهاية تدرك أنها لم تكن تمتلكه منذ البداية.

أما في القصص التي تحت عنوان “إلى صباح”، ففي أحد المشاهد، تقول الراوية:

صباح عقدي الثاني، ألبستني أمي عباءة جديدة ونقابًا جديدًا، أجلسني أبي في حجرة الضيوف، كان معه رجل في عمره، طلب مني أن أخلع عباءتي ونقابي، تفرّس الغريب في وجهي، ثم قال لوالدي: لنقرأ الفاتحة.”

وفي مشهد آخر، نجدها بين سلطة أخرى، لكنها هذه المرة ليست سلطة الأب، بل سلطة تُمارس باسم المطلق:

ها أنا أنصت لأوامر شيخي وزوجي، وألبس الفستان القصير فوق الحزام الناسف. إنه صباح مختلف. هل عليّ أن أضغط على الزر بينهما الآن أم أنتظر أن يأمراني؟”

هذه الشخصيات لا تسير إلى مصائرها بإرادتها، بل يتم دفعها نحوها، كما لو كانت قطعًا على رقعة شطرنج يحرّكها الآخرون. الهوس هنا ليس فعلًا فرديًا، بل هو لعنة تتغلغل في النسيج الاجتماعي، تسلب الأفراد خياراتهم، وتحوّلهم إلى أدوات لتنفيذ مشيئة أكبر منهم.

ليست هوس الأمير مجرد مجموعة قصصية، بل هي تشريح نفسيّ للأقنعة التي يرتديها البشر، بحثًا عن سلطة، عن معنى، أو عن شيء لا يدركون كنهه إلا بعد فوات الأوان. محمد عصام الدين لا يهاب الاقتراب من المناطق الممنوعة، بل يخترقها دون تردد، كاشفًا عن هشاشة ما نظنه راسخًا.

لغته ليست مجرد أداة للسرد، بل هي مشرط جراحٍ يقطع في عمق النفس، يجبر القارئ على مواجهة الحقائق التي يفضل تجاهلها. ليست هنا الصراحة مجرد صدمة، بل هي مواجهة مباشرة مع أوهام المجتمع، مع الهوس الذي لا يملك صاحبه إلا أن يغرق فيه.

تجعلنا نتساءل بين أنفسنا: من منا لا يحكمه هوس ما؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة وشاعرة سورية،
المجموعة صادرة عن دار روافد 2024

مقالات من نفس القسم