جزيرة هرموش: رحلة في دهاليز النفس البشرية 

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
قراءة حول رواية جزيرة هرموش للروائي محسن يونس

أفين حمو 

لم أكن أعرف أن جزيرةً من الرمل والذهب قادرة على فضح أرواح البشر.
في رواية محسن يونس الجديدة “جزيرة هرموش” يخرج القارئ منها كمن يخرج من غابةٍ من الأشواك: مدمى، لكن يقظ. رواية من 280 صفحة تقريبًا، لكنك إن قرأتها جيدًا، شعرت أن كل سطر منها يحفر في داخلك طبقة.

تدور أحداث رواية “جزيرة هرموش” للكاتب محسن يونس حول رحلة جماعية لعدد من الأصدقاء الذين ينطلقون بحثًا عن الذهب على جزيرة نائية، لكن ما يبدأ كمغامرة بسيطة سرعان ما يتحول إلى اختبار لطبائعهم البشرية، وما يدور في أعماقهم من رغبات وجشع. في سياق هذه الرحلة، تتجلى الطبائع المختلفة لبطل الرواية “هرموش” وزملائه، وينكشف تطور العلاقة بين الأفراد الذين كانوا أصدقاء في البداية، ليتحولوا إلى أعداء في النهاية.

من خلال الأحداث المشوقة التي يمر بها هؤلاء الشخصيات، يضعنا الكاتب أمام تساؤلات متعددة حول الجشع البشري وحب التملك، الذي قد يدفع الأفراد إلى ارتكاب أبشع الجرائم، وصولًا إلى القتل. لكن الأهم من ذلك هو قدرة هذه الرواية على الكشف عن الصراع الداخلي للشخصيات، وكيف أن حالة الدهشة التي تصيب الفرد تجعله غير قادر على اتخاذ قرار، كما يوضح هرموش في إحدى مقاطعه:

إذا أصابت الدهشة شخصًا قيّدت ذهنه وألجمته، هرموش قال هذا لأنه مرّ بالحالة، وزاد في الشرح، فقال: هذا الشخص المدهوش لا يستطيع اتخاذ قرار، اطمئن.

هنا يظهر لنا الكاتب محسن يونس بأسلوبه المميز كيف أن الدهشة هي عامل محوري في تحولات الشخصيات، حيث تعجز العقلية عن اتخاذ القرار، مما يساهم في تعميق المسار المؤدي إلى الفوضى والقتل في نهاية المطاف.

ولم يقتصر الكاتب على تقديم الأحداث عبر تسلسل زمني فحسب، بل استخدم الرواية لتسليط الضوء على التوترات النفسية التي قد يمر بها الأفراد تحت تأثير الثراء السريع، واستخدام الذهب كرمز للقوة والسيطرة. هذا الذهب، الذي كان سببًا لفساد العلاقات بين الأصدقاء، يُعتبر عنصرًا محوريًا في الرواية، حيث تمثل الجزيرة بكل ما تحتويه من معادن كنزًا يفتح الأبواب للشرور، ويخفي في ثناياه الخطر:

هرموش هَذِهِ أَرْضٌ كَأنَّ كَنْزًا مِنَ الذَّهَب يختلط بِرَمْلها!”

أدت هذه الصورة الرمزية إلى تحول بسيط في الرواية، فإلى جانب حب التملك، هناك أيضًا تساؤلات فلسفية حول ما إذا كانت هذه “الكنوز” تستحق كل هذا العناء والدمار البشري.

تتميز “جزيرة هرموش” بلغة سردية تنساب بين الشاعرية الخفيفة وواقعية تشبه ضربة حجر ، حيث يدمج الكاتب بين الأسلوب الأدبي والرمزية العميقة. يظهر تأثير الأدب الفلسفي في تصوير الشخصيات والمواقف. على سبيل المثال، عندما يتحدث هرموش عن الدهشة وارتباك العقل، تجد أن اللغة تحمل وراءها أكثر من مجرد وصف لحالة ذهنية، بل تسبر أغوار النفس البشرية المتخبطة بين التردد والطمع.

كما أن الحوار بين الشخصيات في الرواية يبرز بوضوح تناقضاتهم الداخلية، خاصة مع تعبيرات مثل:
“النفس أمارة بالسوء يا سي هرموش، هذا قول الناس، أقول لك وأنت الحكيم صاحب الحكم، إنها ليست أمارة بالسوء وحده؛ بل والحسن لو دققت وتمحصت…”،
حيث يحاول الكاتب أن يكشف عن الطبائع المتناقضة التي تسكن النفوس، ولا سيما في أوقات الشدائد.

لا يمكن تجاهل الحضور النسائي الموارب في الرواية، خاصة شخصية زوجة هرموش التي شاركت في قلب الحدث، لم تكن ثانوية. كانت وجودًا ناعمًا لكنه يقف كشاهد. .ترفضه احيانا بصمت، وتحذّره احيانا اخرى تمثل ضميرًا لم يكن غائبًا . امرأة لا تجادل كثيرا ، لكنها تقول الكثير حتى حين تصمت.

ومن الزوايا الأكثر مأساوية، تبرز قصة الشخص السادس، الذي لم يكن مجرد مشارك في الرحلة، بل حامل لذاكرة ثأر امتدت لعشرين عامًا. لم يكن يطلب الذهب بقدر ما كان يطارد شبحًا. وعندما لمح ما ظنه وجه قاتل أبيه في صاحب القارب، لم يتردد بإطلاق النار عليه، قبل أن يكتشف أنه كاد يقتل بريئًا بسبب تشابه الأسماء. هذه اللحظة المفصلية تكشف هشاشة العدالة عندما تُبنى على الغضب، وكيف يمكن لذاكرة الصعيد أن تحجب نور العقل.

في لحظة المواجهة، سأله هرموش: “هل ندمت؟
وهل ستكف عن مطاردة ثأرك؟”
فأجابه ببساطة دامية: “بالطبع لا”.
هنا يسقط القناع تمامًا، ويتجلى أن الإنسان قد يظل أسيرًا لوهم العدالة حتى لو أوشك أن يغدو قاتلًا. لم تكن هذه الحادثة مجرّد انحراف في السرد، بل كانت قلب الرواية، حيث يصبح الذهب والثأر شيئًا واحدًا: مطاردة شيء لا يُشفى.

“جزيرة هرموش” ليست مجرد رواية عن مغامرة بحث عن الذهب، بل هي رحلة في أعماق النفس البشرية، حيث يغرق كل شخص في فوضى مشاعره، ويُظهر كيف أن تصرفاتهم تتحكم فيها النزعات الذاتية، بعيدًا عن الأخلاقيات والمبادئ. يشير الكاتب إلى أن البشرية غالبًا ما تنقلب أخلاقياتهم عندما يتعلق الأمر بالمال والسلطة، فيمضون في طريق الظلام، لا يترددون في ارتكاب الجرائم من أجل الحصول على المزيد.

الكاتب محسن يونس يُطرح تساؤل فلسفي قد لا نجد له إجابة واضحة في الرواية، ولكننا نعرف أن “الجزيرة” نفسها هي مجرد انعكاس للصراع الداخلي بين الفرد ومحيطه، بين الخير والشر، وبين العقل والجنون. كما يختتم يونس روايته بتأكيد على أن “جزيرة هرموش” هي “كذبة كبيرة”، تشبه إلى حد كبير الوهم الذي يعيشه البشر في بحثهم المستمر عن الرغبات التي قد تبدو مغرية، ولكنها تقودهم في النهاية إلى هاوية الفساد.

هكذا يطغى على الرواية الصراع الدائم بين الدهشة والواقع، وبين الجشع والذهب، وبين الإنسان وظله، مما يخلق توليفة ساحرة بين ما هو داخلي وما هو خارجي في النفس البشرية، لتكون “جزيرة هرموش” صورة دقيقة لهذه التوترات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة وشاعرة سورية
 الرواية صادرة عن دار غايا للنشر، وحصلت على جائزة معرض القاهرة للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم