قصائد من “يوميات الألم الأخضر”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أمل إدريس هارون 

أحلام اليقظة والنوم

 

كان ذات مرة موت أبيض، قصير وساخر، يعود منه أصحاب الحظوة في الحب، في جنح الليل، يلقون فراشات وعلامات في الأحلام، الفراشات تذهب للموت الأب ليترك الموتى قليلًا بين الأحياء، بأردية خضراء يتفقدون الأحزان، يربتون على الصغار والكلاب الضالة، يضحكون كثيرًا من أوجاع القلب والمفاصل، يتذكرون الحب القديم ويسرون للخاصة أن الموت له أبناء عدة، ومحظوظ وطيب من يرافقه الموت الأبيض.

**

بالأمس حلمت أنني أنقذ غريقًا، له شعر أسود، منكفئ ومستسلم، بانتظار معجزة، سحبته من كتفه برفق، لم يقاوم، لا وجه له في الحلم، الغرقى لا وجوه لهم، بحثت عن غرقى أخرين، بلهفة وخوف، كنا كُثر نبحث وننادي، أخرجنا الكثير من الغرقى، فقدنا واحدًا منهم، ناديناه كثيرًا، جففنا النهر من أجله، في الحلم يمكن إيجاد الغريق بعد يوم أو اثنين، انتظرنا طويلًا، وأسفل أقدامنا كان النهر الجاف يبدو منتزهًا شديد الاخضرار، وبقاعِه الواسع، الكثير، الكثير من ودائع الغرقى السابقين.

**

لا يجعلني الشعر أمًا جيدة، يسخر من معاني الحياة الكبرى، يخبرني كم أنا صغيرة للوصول، الميلاد وضع مستمر، خلاص روح من روح، ألد أولادي كل يوم، ينزلقون بعيداً في بداية اليوم، يصرخون، يدوسون على أقدامي لأنتبه، يتشبثون بالثدي وأنا متعبة، يرحلون في نهاية اليوم كطبيعة الأشياء فأبكي، بيننا دم مشترك، أو حب دامي، بيننا خراب صغير، يولد كل يوم، نرعاه بخوف، بيننا هواجسي والشعر، يضحكون منها كثيرًا ويربتون على ظهري بعنف وأبوية، لا بأس يا ماما، فينحني ظهري بمقدار حزن، بيننا حبل سُري لا ينقطع ولا يحررنا، يقول الشعر أنني وحدوية ومتعبة، أعود صغيرة في المساء، أنام وتختمر الأجنة في ظلام الليل، يجعلني الشعر أمًا سيئة.

**

الماء هموم قادمة، البحر موت يتلوى نحو الشواطئ الخاوية، ركوبه مخاطرة بلهاء، تتقافز أسماك من العدم، بلا صوت، ملمسها لزج وبارد، أغوص في الماء الضحل وأبكي، أخاف من القناديل، أخاف من الظلمة، أهبط ببطء واستسلام وأنتحب، خواء ووحدة، ثم يأتي صوت أبي قاطعًا، يسحبني إلى الشاطئ ويصرف البحر، ارتجف لكني غير مبتلة تمامًا ولا خائفة تمامًا ولا باكية تمامًا، قلبي يرتعش، يتكوم هاجس، يكبر مع الوقت، مذاقه محايد ونفّاذ، قلبي يرتعش، يتحرى النذير، والنهارات متوثبة، انشطرت قلادة الحياة على صدري ذلك اليوم، انفرطت تميمتي على الأرض، قُضي الأمر، كنت في الحلم أهوى نحو البحر، سحبوني منه فجرًا بالعويل.

رحل أبي.

……………………………..

 يوميات الألم الأخضر

 

هناك موت كالطرقة على الرأس،

وهناك موت هادئ،

مات أبي فسقطت على وجهي،

تكلس عنقي،

أسير من يومها بميل،

رحلت أمي،

فافترشت الأرض،

نبتت لي وخزة في صدري

زهرة تخشخش كلما تمايلت

وها أنا أسبح في حزن عذب،

عذب وهادئ.

**

انضم الكوفيد لقائمة أمراضي،

يموت الفيروس على الأسطح

بعد ثلاثة عشر ساعة،

عمر بعض الفراشات أربع وعشرون ساعة،

نبدأ كبشر بنفس التصميم،

ينتهي بنا الأمر لسلك طرق مختلفة،

غير متوقعة.

رعشة وحمى خفيفة،

تقلصات قوية بالبطن والقولون،

يجب انعزالي خمس أيام،

مع آلام حقيقية لا مجاز فيها هنا،

فكرت أنه لو تفاهمت مع المرض،

لو لم يضربني في الأعصاب بخسة،

ربما يمكننا التعايش الطويل معا،

اليوم أيضاً عرفت بعد كل هذا العمر،

أن كلمة الموت لدى المصريين القدماء

كانت عبر، نام، هرع،

لماذا لم أعرف ذلك مبكراً؟

**

كتبت رسالة لصديقة،

قلت لها ربما أصابتني لعنة،

تقول محسودة،

أفكر أن الوقت العادي انتهى،

آخر مرة تقابلنا بنهاية يناير 2020،

كان أيضاً تاريخ

نهاية حياتي كما أعرفها،

الكوفيد لعنة كونية،

جاءت معها لعنات

خاصة وصغيرة،

لحيوات بالكاد تقف

على قدميها.

***

في عمق الليل استمع لموسيقى ما،

المرض فرصة لتحييد النظر للساعة،

يمر الوقت بلا خدوش،

نبضات الألم،

نوم وعرق ورائحة الدواء،

عبور وعودة من عتبات متداخلة،

العالم خلفي،

الليل سكون والموسيقى حادة

لا أشبه حياتي

بلا توتر ولا خوف،

أتامل أن الموت

لم يعرفه المصريون قديماً،

كان هرولة، عبور، نوم.

**

تكتب لي صديقة

عن وداع أخير لأبيها،

عبر التليفون في ليل فبراير الطويل

من شرق البلاد لغربها

قبل رحيله بأربع ساعات،

حكت له حكاية،

أنها ستلتقي به هناك

ليكتشفا المجرات اللانهائية بالكون،

وأنه لا داع للخوف

فهو على وشك بدء رحلته الأبدية

لاكتشاف الحيوات الأخرى،

الرجل الذي فقد النطق منذ أسابيع،

أطلق صوتًا سعيدًا،

تحمست وغنت له،

أغنية أخيرة

وتركته ينام في سلام،

بدت لي خطة ممكنة،

نوم، عبور، هرولة،

لاكتشاف الكون

حياة وراء أخرى.

**

“ماما، ماذا لو كان كل ذلك

Simulation?!

ماذا لو كنت موجودًا

في نفس الوقت

في كواكب أخرى؟

هل سأكون نفس الإنسان؟

أم نسخًا مختلفة؟”

أفكر أننا نحمل

كل النسخ الممكنة بالداخل،

كل أنا متعددة،

كل نسخة من نفس الأنا لها لغة خاصة،

وكل نسخة تتطور،

أفكر في روعة أن تساند تلك النسخ بعضها،

ستكون الحياة محتملة

سيكون الموت محتملًا

وسيكون الألم محتملًا.

يخبرني عن مدى اتساع ال:

Observable univers

وعن إمكانية فناء الحياة والكون

وعودته مرة أخرى

بعد عدد خرافي من السنوات الضوئية،

أفكر أن ضآلة حجمنا

لا تخفف تراجيديا الحياة،

ولا ألام المفاصل،

ولا خذلان الزمن،

ولا حشرجات الموت.

 

“ربما كل ذلك

مجرد simulation،

كل ذلك محض خيال،

أنا وأنتِ،

تلك الحياة،

تلك الذكريات،

حتى الخيال،

محض خيال!”

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة مصرية ..تقيم في مونتريال 
الديوان صادر مؤخرًا عن دار المرايا للثقافة والفنون

 

مقالات من نفس القسم

يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

كنت شجرة