أمل العشماوي
البداية
كان الحي يعجّ بالحركة والنشاط في باكورة صباح الإثنين الخامس والعشرين من أغسطس، واختلط تراب الأرض بأقدام الرجال والنساء. هناك عدد من الفتيات يقفن على ناصية كوبري كرموز في انتظار الحافلة التي تُقِلّهن إلى مصانع حلويات النهضة. الصبيان في شارع نعسة يخرجون من متجر الألعاب الإلكترونية أو ما يعرف بـ”السيبر” محدثين ضجة عالية، بينما ازدحمت النسوة أمام أبواب مخابز العيش البلدي وقلّاية فلافل عم محروس في شارع ألبان تحدوهن النميمة ومُشاكَسَة بعضهن بعضًا.
كان الرجال، وأغلبهم عمال وحرفيون، يحاولون اللحاق بأعمالهم مهرولين بين أقدام الصغار المنطلقين في الأزقّة دون رادع، في الوقت نفسه الذي يعود فيه الصيادون بعد ليلة عمل طويلة وشاقة يسترزقون في جُبّ ظلمات البحر المعطاء، مارّين على دكاكين يفتح أصحابها الأبواب تباعًا مرددين عبارة: “يا حي يا قيوم.. بسم الله”.
في شارع جانبي، وقف رجل متوسط القامة ببشرة لفحتها الشمس وشعر خاطه الشيب يغسل بالخرطوم عربة طعام متجولة تحمل عبارة “غريب مَلك الكبدة” مكتوبة بأحرف داكنة، مع صورة رجل مكتنز أمامه جبل من الشطائر. ثمة سيارة سوداء لامعة تجول في الشارع وكأنها تقيّم حالته من نوافذها المصقولة باللون الأسود، تشبه كرة سوداء تتدحرج على الأرض.
وعلى رأس الشارع الرئيس، ظهر شرطيان بزي مدني وارتسمت على ملامحهما علامات التوتر، رغم أن أحدًا من الأهالي لم يعِرْهما أي اهتمام واضح منذ ظهورهما قُبيل أيام، وكل من خشي على نفسه من الاعتقال بأي تهمة أو مصادرة بضاعته الممنوعة غادر المنطقة. وخلال تلك المدة كانت الخلافات في الحي أقل، ومستوى الشك في قلوبهم يزداد. على جانبي الشارع محلات تجارية متعددة الخدمات، أشهرها وأقدمها دكان عم عمران وأولاد عكرم الفخاخني، أما في الأزقة الضيقة فتراصّت بيوت منخفضة عن مستوى الشارع بعشرين درجة ما يمنع الهواء والضوء من الوصول إلى الساكنين المكشوف أمرهم للمارة من خلال نوافذهم المفتوحة دون حرمة. بالنظر عن كثب فالحياة وقتذاك كانت بسيطة إلى حد الذهول، وموغلة إلى حد الغرابة. إذا رفع المرء بصره رأى الحَمام يحلّق تحت سماء زرقاء قبل أن يهوي مندفعًا فوق أسطح البيوت الواطئة، وإذا خفض بصره رأى أناسًا يسيرون تارة منكشفين تحت ضوء الشمس، وتارة مجهولين خلف ظلال البيوت، وكان منظر الشوارع باعثًا للكآبة، والبيوت أغلبها آيلة للسقوط. إنهم من الطبقة المعدومة المسجلة في القوائم غير المحسوبة على الدولة، وإن كانت الوجوه الباسمة أكثر منها اليوم عددًا.
فتيات الحي تعشق الألوان، ولكل منهن أسلوب خاص، وإن كانت تميزهن ألوان براقة وزينة تستلفِت الأنظار، أما النساء فعلى رؤوسهن أغطية رأس سوداء باهتة، ومتلفّعات بعباءات طويلة فضفاضة من ذات اللون الأسود الذي يرافقهن طوال العام، ولكل من الفئتين تعلق عام بمعرفة كل ما يدور خلف الجدران من أسرار مهمة ومهملة لفرض السيطرة والاغتياب وترديد أنباء الفضائح، وكان الرجال أقل همة، متواكلين على ربات البيوت في تدابير شؤون الأسرة بـ”يوميتهم” الزهيدة.
في هذا الصباح الذي ظن الجميع أنه لا يختلف عن أي صباح سابق، والذي سيتذكره الأهالي في السنوات الموالية ككاسحة طريق شقّت شوارعهم وهدمت بيوتهم، تعالت الهمهمات المستفسرة مع دخول عربات أمن مركزي تحمل عددًا من العساكر الذين اصطفوا في الشوارع الرئيسة والجانبية كأسوار بشرية تعوق المرور، لهم هيئة مرعبة بخوذاتهم وهراواتهم ووجوههم المُكفهرة، وانتشر في كل مكان ضباط شرطة يحملون أجهزة لاسلكية يديرون من خلالها حوارات متقطعة، مع مجموعات متفرقة من رجال الأمن بالملابس المدنية، والكل في حالة تأهُّب وانتباه. وقد توقع الأهالي أن البلاغ هذه المرة عن حمولة أطنان من المخدرات تستدعي كل هذا الزخم الأمني غير المسبوق، وما لبِث أصحاب المتاجر والمقاهي بغلق أبوابهم بالأمر المباشر، واحتشدت الرؤوس في البلكونات والأسطح، ولم يسمح لأحد من المارة بالوقوف في الشارع الرئيس أو التجول بدافع الفضول. جاء صوت أبواق السيارات بعد ساعة ليعلو فوق كل الأصوات، سيارات ضخمة بمحركات هجينة أخذت عجلاتها تندفع وتعفّر الطريق المفروش بالحصى، وخلفها سيارات فخمة سوداء أبطأت من سرعتها ووقفت عند قارعة الطريق، هبط منها رجال بملابس رسمية: بدلات كاملة، وأربطة عنق، ونظارات سوداء. وكان اثنان منهما يلبسان صديريات واقية من الرصاص. تطلعت أعينهم على البيوت والشوارع بنظرات متفحصة، وبدأت أولى جولاتهم التي ستمتد حتى المغرب، سائرين في تروٍّ وترصد لكل شبر تحت أقدامهم، ومع كل دقيقة لهم في المنطقة كانت أعماق الأهالي تستعر، وتزيدهم التنبؤات وهجًا وجنونًا، ثم انجلت الحقيقة أمام أبصارهم مع ربط كل كلمة التقطوها من هنا وهناك، وثارت ثائرتهم، واجتمعوا في المقاهي والبيوت للحديث عن الهاجس نفسه، وعاد الرجال إلى بيوتهم كل يوم متلهفين لسماع الجديد، وأقامت النساء لا تبدي حراكًا أمام المخابز عن طيب خاطر تترفهم الثرثرة، ووجد الصبية تسلية في التعبير عن مخاوفهم أكبر من الألعاب الإلكترونية، وكان من السهل الشعور بهذا الوئام الذي استحدث بينهم جميعًا، وهذا الوفاق على نفس الرؤية والدفاع، إذ إن ما سمعوه لم يكن في حسبانهم، وما وقع عليهم ليس متوقعًا، وانصدموا بهذا الواقع الجديد الذي فُرض عليهم فرضًا. كان في الأمر دهشة هائلة، وفجيعة لا تحتمل، وتغيير سريع يصرع النفوس، ويُذهل الألباب.
ما قبل البداية
1
حديد
نور شمس الصباح سطع على الشارع الموازي لشارع الوزير من جهة قسم محرم بك، وأنار واجهات البيوت والمتاجر، وانطلق بصحبته صوت قوافل الإوز والدجاج فوق الأسطح تُكاكي.
شهد.. لم يقدم لها والداها صنعًا بهذا الاسم؛ فالفتاة التي تُسمى شهد تعني التي تقطر فتنة وجمالًا وأنوثة، وليست فتاة نحيلة العود، سمراء البشرة، حادة التقاطيع، ذات أنف معقود، وعينين واسعتين حزينتين، وقامة قصيرة يبلغ طولها مئة وخمسة وخمسين سنتيمترًا. شهد! يا له من اسم لا يناسبها تمامًا.
انتعلت حذاءها الرياضي الأسود، تنورة المدرسة الرمادية، قميصها الزهري، وعقصت شعرها الطويل في كعكة تحت غطاء رأس من القطن الأبيض، وأحكمته بدبوس بحيث لا تظهر من شعرها خصلة واحدة.
كان هذا هو أول يوم في مدرستها الجديدة، مدرسة نبوية موسى الثانوية بنات، ولشد ما كانت متحمسة لدخول حياة جديدة ومختلفة، كانت متوترة قلقة تربت على قلبها باستماتة كي يهدأ من خفقانه، وعزت ذلك لعدم اختلاطها طيلة السنوات الماضية إلا بصديقة واحدة فرقتهما الأيام وخطط الأهل.
– شهد.
بلغ النداء أذنيها، ومعه تسلل عبر فراغات باب الغرفة رائحة الفلافل المقلية في الزيت الساخن التي تحب أن تتناولها من يد أمها دون غيرها. وأطلقت الرائحة سهام الجوع المتوحشة داخل معدتها، فدست في حقيبتها كتبًا مدرسية من تلك المتراصة فوق سطح المكتب، وتعجلت بخروجها إلى صالة مربعة تتوسطها طبلية طعام خشبية رصّت عليها هاجر أطباق الفلافل والجبن القريش والزيتون.
– صباح الخير ياما.
– صباح الخير يا شهد.
ردت هاجر التحية بوجه باسم، امرأة خمسينية، ممتلئة الصدر، ذات وجه أبيض مائل للشحوب، وعينين زمردتين واسعتين تشي بأنها من بنات المنصورة، ولها حاجبان مرسومان مثل قوسين بديعين فوق أنف شامخ يشي بأصالة عرقها، وقد استنكرت ما تراه من شهد وهي تلتهم كل ما يقع في طريقها دون مضغ.
– ولا بيبان عليكي الحَشر اللي بتعمليه ده، امسكي بطنك يا بت لحد ما أخوكي يصحى وناكل مع بعض.
مالت على كنبة الصالة التي ينام عليها مصطفى، ابنها الوحيد، ونظرت إليه -وهو ملتحف ببطانية بهت لونها من كثرة الغسيل والاستخدام- بنظرة إشفاق، وندبت حظه العاثر الذي يجعله عاطلًا على مشارف الثلاثينيات من العمر، ودون شهادة أو حرفة تصنع له مستقبلًا، مستقبل! سخرت من الكلمة سرًّا، وهل أصحاب الشهادات والحِرف لهم مستقبل! أغلب رجال المنطقة يجاورونه في رحلة البحث عن عمل نهارًا، وسهرات الليل الفارغة وسوء الطالع في المساء، فأي مستقبل هذا الذي تفكرين به يا هاجر! هزأت، ثم طبطبت عليه، وطبعت قبلة على قمة رأسه، وحادثته:
– قوم يا ضنايا، الشمس طلعت.. قوم شوف أكل عيشك.
وتحرك “ضناها” أسفل البطانية كثعبان يتلوى، وطلب منها متذمرًا أن تتركه ينام ، ولما شدت عليه بإلحاح، رفع عنه الغطاء وتثاءب متسائلًا عن ذاك المكان السحري الذي سيأكل منه عيش، فردت عليه بدلال:
– الحاج عمران كلمني امبارح، وقال لي إن عنده لك شغلانة مريحة، ومرتبها معقول.
فتهكم من نبرتها الحالمة بقوله إن كل وظائف الحاج عمران تكسر الظهر وتخسف العمر. ضحكت لتواري إحساسها بالهاجس ذاته، وضاعفت إلحاحها إلى أن زفر وقام من رقدته.
تزحزح، وتربع على الأرض بجوار شهد المفجوعة في أكلها، فلم تولِه اهتمامًا.
– ما تقولي صباح الخير يا بت.
صفعها على مؤخرة رأسها كمزاح استقبلته بحركات متتابعة من يديها كمن يهش الذباب، فابتسم بطرف شفتيه، وانتظر حتى تربعت هاجر على الحصير البلاستيك تشاركهم الإفطار، وظل يرمقها وهو يمضغ الطعام شاعرًا بالاستياء من جراء تدليلها المفرط له، ابتسامتها الحانية، الأمل الذي ترشح به مسامها ببراعة. كل يوم، من يوم مولده، وهي تعلم أن لا شيء في واقعهم قادر على بعث بهيج الأمل في موات الأنفاس. تقول إن غدهم سيكون أجمل، وكل غد يأتي يجلب معه الأسوأ دومًا، فما الجدوى من استيقاظه كل صباح لينفض عنه الكسل! ما الجدوى من الخروج إلى الشارع مدركًا أن خطواته القادمة لن يكون له عليها سلطان؟ وأنه مجرد دمية بائسة في يد من يمتلك بضعة جنيهات يتسلمها كالشحاذ. ما كسر بخاطره أنه رأى الصرصار الذي يتهادى على طرف السجادة أمام بصره في التو واللحظة له قيمة أكثر منه، على الأقل الصرصار يعيش حياة طبيعية ولا أحلام تنغص عليه منامه.
– الحمد لله.
قالت شهد وهي تنفض كفيها ببعض علامات الانتهاء، ثم حملت حقيبتها وانطلقت نحو الشارع لتسير مُطرقة الرأس، تحمل حقيبة ظهر مدرسية، وكتابًا تضمه بقوة إلى صدرها كطفل رضيع مع ذلك الشعور المقيت بأنها تمتلك ساقًا أطول من ساق تجعلها تتعثر في مشيتها.
– ارفعي رأسك وأنتِ ماشية يا شهد.
أوصتها هاجر مرارًا ولم تستجب إلا لمامًا. ولكنها تلك المرة، في أول يوم لها في المدرسة الثانوية، رفعت رأسها، دارت بعينيها في الأرجاء، فتجعدت ملامحها وكأن أحدهم نخزها بإبرة: رثاء يلف كل شيء، يطبع سوداويته على الوجوه والنفوس، وكل شيء يبدو كما لو أنه بُنيَ من الطين، الأرض فوقها تراب، والسماء ملبدة بالغيوم الكثيفة فوق رؤوس خاطها مشيب الفقر والعوز. بخطواتها العثرة، وخوفها المعهود من كل شيء، وأمنيتها في أن يكون لها أجنحة تطير بها في السماء فوق البشر بدلًا من مجاورتهم، جرجرت أقدامها.
تقع شقتها على بعد اثنتي عشرة دقيقة سيرًا على الأقدام من مدرستها الجديدة، وأربع عشرة دقيقة من شارع بوالينو، أشهر الشوارع وأكثرها ازدحامًا في محرم بك، ولهذا السبب تحديدًا شهد لا تحبذه، وتصفه بغابة تتزاحم فيها الكائنات البشرية حد الاختناق.
لمحت صبيًّا يقف على ناصية الشارع أمام مقهى شعبي وعيناه مثبتتان عليها، تجاهلته، ومضت في طريقها، ولما ترامى إلى أذنيها أصوات هرج الفتيات من داخل سور المدرسة، تنفست الصعداء، وتمنت أن ينادوها بشهد فقط، وليس شهد الغبية، أو شهد الخرساء، أو شهد القبيحة! رغم كل الألقاب التي اقترنت بها على مدار السنين من أقرانها كانت تعرف أن وراء هيئتها المتبلدة، عقلًا ذكيًّا يحسدونها عليه من وراء ظهرها، وروحًا ثرثارة تنتظر من تبوح له بمكنونها، وقلبًا أبيض ناصع الجمال لم يضمر لأحدهم ضغينة قط. وعلى كثرة شعورها بعدم الرضا عن نفسها، كانت أذناها الكبيرتان أكثر ما تكره، إذ كانت مثارًا للسخرية منذ طفولتها ولم تطق صبرًا حتى ارتدت الحجاب وهي بعد في الثامنة من عمرها، أحيانًا يقول والدها إنها تُشبه جدتها، ثم يسكت ويستكمل بل تشبه جدها، وينهي كلامه بأنه لا يعرف! وكان هذا التعارض يغرقها بالحيرة. كيف لا يعرف إن كانت تشبه جدتها أم جدها! رغبت أكثر من مرة بالضغط عليه ليحدثها عن ماضيه، ليسمح لها بالتعمق داخل كينونته الخاصة، لكنه ظل يهرب من ثقل الحديث بالمراوغة والهزر. كان الأمر مريبًا بحق، لكنه لم يعد كذلك، حياة والدها وآراؤه كلها بمرور السنوات بدت متضاربة بشكل مُخزِ، وهي اعتادت على تجاهله، كدأب الآخرين.
***
أصابته تلك الليلة نوبة قيء، وصحا بعد أذان الظهر عليلًا. خرجت هاجر وشهد ومصطفى وتركوا له ما بقي من الفطور على الطبلية كالعادة، فأجهز على البواقي حتى أتخم، ثم سحب سيجارة محشوة من جيب قميصه، وعاد للاضطجاع. كان السرير دافئًا تحت البطانية، والنعاس يداعب جفنيه من أثر التعب والتأثيرات المهدئة للحشيش، لكن عقله لا يسعفه على الاستسلام، وسكون البيت أعاد إليه قاتم الذكريات. تقلب، وبالأخير خرج قرب العصر ليحل ضيفًا على مقهى المعلم عبد السلام إكرامًا لدين قديم سدده الأخير منذ زمن بعيد، لكن المدين لعزيز يظل دينه قائمًا إلى أجل غير مسمى. واعتبر عبد السلام أن كوبًا من الشاي في الصباح مع الشيشة في المساء لا ضرر منهما طالما لن ينكأ عزيز بلسانه القذر على الجراح القديمة.
دلف عزيز إلى المقهى عابسًا، وشق طريقه بين المقاعد حتى وصل إلى كرسيه المفضل في الزاوية البعيدة حيث يستطيع أن يراقب الجميع. جلس شابكًا أصابع يديه فوق كرشه الكبير، وراح يركز نظره أمامه كدأب المفكرين، فما كان من عبد السلام إلا أن يقول مستنكرًا:
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. مش عوايدك يعني تدخل علينا من غير زعابيبك.. خير إن شاء الله.
ألقى عليه عزيز نظرة جانبية، وتنهد:
– ماليش مزاج للكلام؟
– أحسن بردو.. تشرب شاي؟
سأله المعلم عبد السلام دون ترحاب، واستقبل هزة رأسه بالرفض بكلمة مقتضبة:
– وَفرت.
ثم مال عليه بعد هنيهة، وسأله عن حقيقة الراقصة الشهيرة التي ذكر اسمها مساء أمس زاعمًا أنه تزوجها وقت كان يعمل محللًا شرعيًّا لرد المطلقات.
– تقصد البت نجاة؟
– هي كان اسمها نجاة؟
هز عزيز رأسه منتشيًا، وتهللت أساريره متمتمًا:
– وقسيمة طلاقها لسة معايا.
ولما لاحظ أن الجالسين حولهما قد أرهفوا آذانهم، اعتدل في قعدته، تمطّع، وتمايل بجذعه يمينًا ويسارًا، ثم راح يحكي عن خجلها الذي عُرفت به قبل عامين من امتهانها الرقص. طلاقها البائن من زوجها الأول ثلاث مرات جعل الأخير يفكر في حل يسمح له باستعادتها، فنصحه صديق بالبحث عن مُحلل شرعى يتزوجها لعدة أيام على الورق ويطلقها مقابل أجر، لكنه رفض رفضًا قاطعًا، ثم أذعن مضطرًّا.
– آه لو كنت أعرف إن العباءة والطرحة كانوا مخبيين تحتهم حتة القشطة ديه! آه.
استأنف مُتحسّرًا، وسخر منه عماد الحلاق وهو يلتقط مبسم الشيشة:
– كنت هتعمل إيه يعني؟ دة أنت أخرك تدخل على الورق بس.
– طب وعهد الله دخلت على ثلاثة، ورجالتهم كانوا شاهدين على العقود كمان.
– وافرض، كنت هتقدر عليها؟ ده أنا سامع إنها اتجوزت سبع مرات.
وإذا بعزيز ينتفض مُزمجرًا:
– وأقدر على عشرة زيها كمان، ما تقوله حاجة يا عبسلام.
وكمحاولة بديهيًا من عبد السلام لملاطفة الأجواء وإرضاء غرور عزيز في الوقت ذاته، تدخل بصوته الأجش:
– وأقوله ليه؟ ما فضايحك كلها على عينك يا تاجر، وسمعتك اللي زي الزفت سابقة خطواتك.
فعاد عزيز بظهره إلى الخلف ضاحكًا، معتدًّا بماضيه. وانطلقت أغنية “مافيش صاحب بيصاحب” من مذياع المقهى، فقفز من مكانه مثل الضفدع، وأخذ يرقص بذراعين مرفوعتين إلى الأعلى، وقدماه ترتطمان بالأرض في حركة إيقاعية ملتوية. يلف ويدور ويصفق كما رقص عادل إمام فوق سيارة غريمه في فيلم اللعب مع الكبار، وكان جميعهم يضحكون عليه وهو يختال مزهوًّا بينهم، فينغزه هذا، ويقرصه في فخذه ذاك. ما دام باله رائقًا وأسنانه الصفراء التي نخرها السوس ظاهرة بين شفتيه المنفرجتين على ضحكته الفذة، فلا مانع من التمادي معه لبعض الوقت، أما إذا غضب واربدّت ملامحه، وانكتم صوته، وتدفق في جسده قوة مريعة جبارة، تتراجع الألسن خائفة إلى الحلوق، وكأنما لدغتها العقارب، بيد أن الواحد منهم لا يجرؤ على الضحك أمامه أو معاتبته بكلمة، ويحنون رؤوسهم في انتظار اللحظة التي يعود فيها إلى سطَله، فيتشفون برؤيته سفيهًا معربدًا يقفز كالقرود هنا وهناك لأجل تسليتهم.
جلس على مقعد على الرصيف يلتقط أنفاسه، ورفع يده إلى صبي القهوة بصوت آمر:
- الشاي يا أوزعة.
فقطب عبد السلام غيظًا:
– مش أنت قلت مش عايز؟
– غيرت رأيي، وأنا من أمتى كان لي رأي واحد!
وعاد يضحك. كل هذا ومصطفى يقف من بعيد، غاضب العينين، يراقب والده والآخرون يستهزئون به، ويتمنى في قرارة نفسه لو كان يمتلك الشجاعة الكافية لردعه عن سفاهته أو التخلص منه إلى الأبد، ويبدو أنه بقي مكشوفًا أكثر من اللازم؛ لأنه حين تلاقت أعينهما استدار بغتة، وسارع إلى السلم فرقاه إلى الطابق الثاني.
– مصطفى.
أتاه صوت أبيه حازمًا على عتبة فناء العقار المستطيل المغبر، وأمره ليهبط إليه، ثم ربت على كتفه وابتسم، فأدرك مصطفى أنه على وشك استقبال صدمة جديدة.
– الفرحة اللي على وشك ديه بتقول إنك قبضت.
ابتلع مصطفى ريقه، وعقب:
– المعلم قال إنه بيجربني أسبوع وهيبدأ يقبضني مع نهاية الشهر.
– نهاية الشهر إزاي والمعلم بيقولي إنك بتاخد منه 8 برايز كل يوم من قبل ما تمد إيديك في الشغل! أكلمه ونشوف مين الكذاب.
شعر مصطفى بلسانه كقطعة من الحجر في فمه، وأحس بحلقه قد جف فسعل مرتين وارتعشت أطرافه. ولم تسعفه الكلمات ليرد، وقد ارتاع حين لاحظ عين أبوه قد اتسعت بالغضب:
– فاكرني مش هعرف بتقبض كام يا ابن أمك.. يا حبيبي اللي ياكل ويشرب وينام ببلاش يبقى عويل، وأنا ابني مش عويل، وبعدين الرسول قال….
صمت وانتظر، ولما طال انتظاره زمجر:
– ما تقول عليه الصلاة والسلام.
ردد مصطفى كأنه يكتم نحيبًا:
– عليه الصلاة والسلام.
– عليه أفضل الصلاة والسلام.. قال أنت ومالك لأبيك، يعني أنت وكل اللي بتقبضه ملكي، وأنا بقاسمك عشان أنا راجل كريم.. أقولك حاجة، عشان أنت حبيبي، أنا هاخد منك ميت جني نصيبي من التلات أيام اللي فاتوا، والباقي حلال عليك ياعم.
كان مُفتخرًا بعرضه، مُقتنعًا بحقه. وعندما استلقى مصطفى على كنبة الصالة بكامل ثيابه، يحمل في يده محفظة مهترئة من الجلد الرديء خسر منها مئة جنيه في غمضة عين، انسابت الدموع من مآقيه وتساقطت على الوسادة، قطرة قطرة بلا ضجيج، بينما صرخت روحه حبيسة جدران جسده العازل للصوت بشكل يؤذيه زيادة. سأل أمه ذات مرة عن سبب زواجها بهذا الرجل البغيض، فوبخته على قوله، ثم عادت لتسرح في الفراغ قائلة:
– نصيب.
أغاظه الرد إلا أنه لم يستسلم، وقال لها إن النصيب قد جلب لها أسوأ زوج في العالم، وإن كان زواجها منه نصيبًا، فهجره والبعد عن شروره واجب. تجاهلته، بقي لأكثر من ساعة يخبرها أنها تقوم بدور الأب والأم من يوم ولادته، وأنه بلا نفع، إذ يعيش بينهم عالة، يستنزفهم، ويبتزهم، وينفق أموالهم على شراء الحشيش ومتعته الخاصة. تركته في المطبخ كأنه يُحدث غيرها، فلحق بها في الشقة لتنهي النقاش بقولها:
– أنا عيشت مع أبوك 33 سنة، شفت اللي عمر ما حد شافه ولا يتخيل إنه يعيشه، لكن أنا عيشت وصبرت، ومستعدة أتحمل ميت سنة كمان عشان البيت ده يفضل مفتوح زي ما هو.. ديه العيشة اللي أنا اخترتها، ومش هسمح لك، ولا هسمح لغيرك إنه يرجعنا لنقطة الصفر من تاني.
ومن يومها ومصطفى يفكر في “نقطة الصفر” التي تحدثت عنها هاجر، ويتمنى لو حملته الشجاعة على قول إنهم بالفعل قابعون عند نقطة الصفر، وإنهم لن يخرجوا منها بسببه. يتمنى لو سألها عن ذلك الشيء الذي تزعم أنهم يمتلكونه وتخشى ضياعه. هو مثلًا في الثلاثين من عمره ولم يصادف الحب ولن يعثر عليه قريبًا وهو دون دخل ثابت ومكان سكن خاص يسمح له بتأسيس أسرة، كما أنه لا يعرف ماذا يريد في الحياة، لا يحلم، ولا يتطلع إلى المستقبل بعين المبصرين، هو محطم، مذبوح، يسير كل يوم بلا هدى في ساقية الأيام المغلفة بالعنف والقسوة والاستغلال والتنمر.. فما هو الشيء الذي تخاف أمه من خسارته!
سمع صوت طرقات على الباب، تجاهله، عادت الطرقات بشكل أقوى وأكثر إلحاحًا، فمسح دموعه وامتثل للنداء. كانت أمنية، تحمل في يدها حقيبة سوداء، وحول عينها اليمنى كدمة داكنة رمقها مصطفى كأنها لا شيء، وقذف بأول ما تبادر إلى ذهنه:
– أبوكي شافك؟
– هتفرق لو شاف؟
ابتسم هازئًا، وأفسح المجال لها للدخول. عدا الكدمة، كانت أمنية في الثانية والثلاثين من عمرها، لكن وشوم الزمن على يديها، والتجاعيد من حول فمها الرقيق رقة الشفرة، منحتها عمرًا أكبر، أما على جبينها، فثمة خطوط عميقة، تجاعيد غير متناسقة ومبكرة أشبه ما تكون بحقل محروث. خمس دقائق، ودخلت عليهما شهد مُنهكة القوى بعد يوم دراسي طويل وساعات من الجلوس على مقاعد غير مريحة بمعهد تعليمي يبعد عن المنزل عشرين دقيقة. وحين رأت أمنية، شعرت بصخرة الشجن تُرفع عن كاهلها، وركضت إلى حضنها الذي لطالما كان يذودُ عنها أمام العالم. سألتها عن أطفالها، فتجاهلت أمنية السؤال، وأخرجت لها من حقيبتها السوداء قطة رمادية اللون عمرها عشرة أسابيع.
- كل سنة وأنتِ طيبة يا شهد.
شهقت شهد من وقع المفاجأة، اقتربت من القطة، احتضنتها ومسدت شعرها بحنو بالغ، ولم يكف لسانها عن الاسترسال بكلمات الشكر والحبور. تعرف أمنية أن شهد فتاة مرهفة الحس، رقيقة الطبع، تجرحها نظرات العيون كضربات الخناجر، وتؤلمها كل كلمة سيئة لعدة شهور متتالية، فكانت تؤثر العزلة، وتميل لصحبة الحيوانات والطيور وتجد في أصواتهم البدائية منجاة تخفف عنها وطأة الوحدة واجترار الأفكار السلبية، لذلك أحبت أمنية أن تملأ حياتها بهم، وافتتحت البيت بكتكوتين انتهى بهما الحال بالذبح على يد هاجر بعد شهر ونصف من تربيتهما، فعكفت على شراء حيوانات غير قابلة للأكل كالعصافير، وسلحفاة صحراوي، وحوض سمك، وأخيرًا قطة.
فوقهما، وقف مصطفى يناظر المشهد بعين تمنت لو دامت هذه اللحظة للأبد، تربع بجوارهما ولمس القطة بلمسة حانية:
– كويس.. أهو الواحد يلاقي حاجة يضربها في البيت ده.
– تضرب مين؟ ده أنا أكلك بسناني. هاجمته شهد.
ضحك:
– وهتسميها إيه يا وحش؟
– هسميها فلاولة.
قالت دون تفكير، فضحكت أمنية، وعقبت:
– فلاولة! اسم غريب.. عجبني.. أهلًا بيكي يا فلاولة في بيتك الجديد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية .. والرواية تصدر عن دار المحرر ..معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025