قراءة نقدية في رواية “غربان لا تأكل الموتى”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شاهيناز الفقي 

.

كفوا أبصاركم عن الهزيمة العارية، وتضرعوا كي لا تمطركم السماء بزعيم جديد يعيد شرح البلادة لكم

تندرج رواية “غربان لا تأكل الموتى” للروائية دعاء البادي  ضمن سلسلة الأعمال الأدبية التي تناولت الفترة الزمنية الممتدة بين نكسة يونيو 1967 وانتصار أكتوبر 1973 مرورًا بحرب الاستنزاف، وقد عالجت هذه المرحلة أعمالا متعددة، منها:

الحب تحت المطر لنجيب محفوظ ، رواية 67 لصنع الله إبراهيم، التي تأخر نشرها 45 عامًا وقدمت رؤية مغايرة للنكسة، قبل النكسة بيوم للكاتب إيمان يحي، صلاة القلق لمحمد سمير ندا الفائزة بالبوكر العربية عام 2025. بالإضافة إلى أعمال عربية مثل رواية الستة أيام للكاتب السوري حليم بركات، وأحدثها رواية الكاتب الأردني قاسم توفيق “ليلة واحدة تكفي” التي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر عام .2023

ومن هنا تتضح حقيقة أن النكسة لم تكن مصرية فحسب، بل كانت نكسة عربية بامتياز، الأمر الذي وسّع دائرة التوثيق الروائي لتلك المرحلة.

دلالة العنوان

“غربان لا تأكل الموتى” جملة خبرية تتكون من مبتدأ “غربان” وخبر هو جملة فعلية “لا تأكل الموتى. اختيار المبتدأ نكرة (غربان) يفتح باب التأويل، إذ لا تتحدث الكاتبة عن جميع الغربان، بل عن نوع محدد منها ومن المعروف أن الغربان تأكل الجيف والجثث المتعفنة، ما يثير التساؤل

إذا كانت هذه الغربان لا تأكل الموتى، فما غذاؤها إذن؟

ولماذا لا تزال تحوم فوق المدينة بعد انتهاء الحرب؟

هل تعرف سرًّا خفيًّا بأن الحرب لم تنتهِ بعد؟ أم أن الحرب تبدلت صورتها لتلتهم الأحياء بدلًا من الموتى؟

العنوان يعكس جوًا ديستوبيًّا متشائمًا، إذ ارتبط الغراب منذ الأزل بأولى الجرائم على الأرض. والعبارة تفتح أبواب الأسئلة الكبرى، من هم الغربان؟ من هم الموتى؟ وهل المقصود بهم البشر الأحياء الذين فقدوا معنى الحياة؟

العتبة النصية والمفتتح

استهلت الكاتبة الرواية باقتباس من أحمد ابن عطاء الله السكندري: “ما قادك شيء مثل الوهم”

وهو اقتباس يمثل مفتاحًا أساسيًّا لفهم البطل ومسار الرواية، حيث يقوده وهم الحب إلى مسار مأساوي. أما المشهد الافتتاحي، فيصور رجلاً يعتلي مئذنة، فيتأرجح التأويل بين رغبته في الاقتراب من السماء ومحادثة الله وإصابته بالجنون أو اقترابه من الغربان التي تحوم فوق المدينة! 

لكن لماذا اختار الانتحار من فوق مئذنة المسجد لا من فوق الفنار المهجور الذي شهد لقاءاته مع حبيبته سلوى؟ سؤال يلقي الضوء على ثنائية الإيمان واليأس التي تشكل لب الرواية.

للأسماء في الرواية شحنة رمزية لافتة: 

المنسي الجد الذي شق ترعة للمياه العذبة في السويس لكنه مات عطشًا. المفارقة تتجلى في لقبه، فهو “أبو الفضل المنسي” هل نُسي هو، أم نُسي فضله؟

غريب الابن الذي استشهد في معركة كبريت ولم يُعثر على جثمانه

موسى غريب المنسي بطل الرواية يحمل في اسمه إرث الغربة والنسيان

سلوى الحبيبة التي كانت سلوى له في بداية علاقتهما ثم تحولت لوهم قاده للخراب والتطرف .

صابرين الزوجة الصابرة على الفقر والفقد وبتر الذراع

عبد المنجي الصديق الناصح الذي اكتفى بالكلام دون موقف حاسم

فتحي العش والد سلوى، يرمز إلى الانتماء لبيئة الغربان؛ مواطن سلبي لا يعارض السلطة حتى حين يتضرر من قراراتها.

هارون اسم يتكرر ثلاث مرات لشخصيات مختلفة، أبرزها “هارون المخبر” الذي تسبب في انهيار حياة موسى المفارقة هنا أن الاسم ذو دلالة دينية إيجابية ” يا أخت هارون” “سنشد عضدك بأخيك” “هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري”، لكن صاحب هذا الاسم هارون المخبر كان مصدر الأذى.

تتسم معظم شخصيات الرواية بالسلبية والاستسلام، لم يدافع موسى عن وسام والده الشهيد، ولم يقاوم فساد الحكومة، ولم يواجه رفض والد سلوى، ثم تحوّل بعد السجن إلى قائد جماعة دينية مسلحة، سلوى عابت على موسى استسلامه لكنها استسلمت بدورها لسلطة والدها، وتزوجت مرتين دون أن تحارب من أجل حبها الأول. صابرين الفتاة الفقيرة والزوجة التي صبرت على الفقر والخذلان، لكنها لم تحتمل خيانة موسى، فاختارت الانفصال، كذلك وجدنا عبد المنجي الصديق المخلص اكتفى بدور الناصح العاجز، فتحي العش نموذج المواطن المطيع للسلطة

الشخصية الايجابية في الرواية هي المهندس محمد ابن فتحي العش والاخ الاكبر لسلوى حبيبة موسى والذي حاول كسر دائرة السلبية ورفض زواج أخته بموسى ، لكن السرد قدّمه بصورة متعجرفة.

أسلوب السرد

اعتمدت الكاتبة ضمير المتكلم، مما أتاح الغوص في مشاعر البطل وأفكاره، إشراك القارئ في عملية التأويل، وتعزيز الإحساس بالواقعية.

لكن هذا الأسلوب انطوى على بعض السلبيات

ضيق زاوية الرؤية، إذ عُرضت الشخصيات الأخرى من منظور موسى فقط، وكنت أفضل الغوص داخل الشخصيات لأتعرف على مشاعرهم ولأتفهم الدوافع التي تقف خلف أفعالهم.

بالاضافة لغياب تفاصيل حياة بعض الشخصيات في غياب الراوي أو البطل، مثل الزوجة صابرين خلال سجنه وعلاقتها بعبد المنجي الذي طلبها للزواج في نهاية الرواية طالبا من موسى أن يطلقها ليتزوجها هو فكيف نشأت بينهما علاقة وما طبيعتها، كل هذا لم نتعرف عليه خلال السرد بضمير المتكلم.

ضعف المصداقية حين يروي أحداثًا لم يشهدها بنفسه، مثل اتفاق مجموعة الاتباع على قتل الصديق عبد المنجي، أو موقف والد سلوى حين انكشفت علاقتها بموسى.

نجحت الكاتبة في توظيف الحوار لطرح قضايا الدين والسياسة والحب، بلغة سلسة تميل أحيانًا إلى الشعرية.

لكن في بعض المواضع بدت لغة الشخصيات أعلى من مستواها التعليمي، كما في أحاديث عبد المنجي الذي لم يحصل من التعليم سوى على الشهادة الاعدادية ويتحدث بعمق فلسفي عن الحب والحرب.

استغلال الدين وصناعة الوهم

تكشف الرواية آليات الجماعات الدينية في توظيف الدين سياسيًّا، ومنها توظيف الرموز الدينية وربط القائد بالقداسة لكي تكون طاعته من طاعة الله دون تفكير أو اعمال العقل، صناعة العدو لتبرير العنف مثل تكفير الحكومة، استهداف الأقباط وسرقة محلاتهم وقد تجسدت هذه الميكانيزمات في شخصية موسى الذي قاد “جيش الله” بخمسة أتباع مخلصين منهم القاتل والنشال والمرتشي.

يمكن القول في النهاية إن غربان لا تأكل الموتى رواية مكتظة بالقضايا الاجتماعية والسياسية والدينية، مشحونة بالمشاعر الإنسانية والآلام الفردية والجماعية. تكشف مساوئ الحروب وآثارها المدمرة على البشر، وتفضح كيف يتقاطع الفساد السياسي مع استغلال الدين، باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة وروائية مصرية الرواية صدرت عن دار إشراقة وحصلت على جائزة الدولة التشجيعية 2025

مقالات من نفس القسم