تاميران محمود
تقدم رواية غيمة التي صدرت حديثا عن دار العين بالقاهرة للكاتب كريم القاهري رؤية غير نمطية للثقافة والفن في رواية ذات لغة وسرد ساحرة. وغيمه هو البطل الحقيقي للسؤال المطروح عن حقيقة الانسان حين يقع تحت ضغط المادة والسلطة ذات القوة غير المحسوبة.
يقدم الكاتب من خلال الرواية موازييك فني شديد الخصوصية والرهافة على القارئ أن يقوم بتجميع أجزاء البازل من خلال الشخصيات لخلق صورة كاملة إلى الحي من خلال الأوراق.
تبدأ الرواية من خلال مجموعة من الأوراق الملونة تمثل الذاكرة التي تحضر في الرواية بأشكال متعددة ومستويات مختلفة يعيش القارئ مع أجزائها في كل سطر من سطور الرواية.
تدور أحداث الرواية داخل الحي وتتشابك علاقات الأبطال وتنحل حسب وجودهم في حيز هذا الحي الذي استطاع كريم أن يرسم ملامحه وكأنه صورة مصغرة للعالم فأنت بعيدا عن تسمية المكان باسم معين فقد يكون الحي داخل مدينتك بالفعل أو خارج دولتك تماما لا فارق فهو أحيانا يبدو كعلبة مغلقة على أبطالها وأحيانا هو صرة العالم كله.
اختار الكاتب لبطل الرواية اسما يليق به الراوي العليم وهو يرى كل ما يدور في الحي ويسجله وكأنه المؤرخ الخاص للشخصيات التي تجمعهم خيوط الحياة في كف الحي.
ويشتهر الراوي العليم بانه صاحب مطبعة تعمل على تزوير الكتب ولذلك يصبح تسجيله للأحداث بعض الباطل فيها مقبولا فهو يراقب كل شاردة وواردة ويذكرها تاركا لك أنت الاستدلال على صحة أقواله من عدمها مجمعا باقي أجزاء الصورة في لعبة نجح فيها الكاتب مع القارئ الذي قرر أن يدخل بقدمه إلى عالم الحي المكتظ بحكايات الراوي عن البلكونة ومقهى بسيط وصداقته مع كمال عزازي والشاب يحيى زهران الذي تتعلق به الآمال والأبصار وشخصية باسل قمر الانتهازي الكبير الذي يتلاعب بأطراف الخيوط والحاج أمجد يوسف ذو العقل الثعباني
نرى صراعات بسيطة بين فرشة الكتب والمشروعات الكبرى نرى تطورا زمنيا في الصراع عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومنابر الإعلام تتحرك نقاط الخير والشر في الرواية بتعادل يراه الراوي العليم وتحكم عليه خبرتك كقارئ تدفعه مغامرة القاهري أن يحل الألغاز التي يتركها الكاتب بين سطور الرواية مستحضرا لعبة من التراث الشعبي شهيرة مرددا فين السنيورة؟
والسنيورة هي عدد من الأفكار والحقائق والنساء المختفية داخل عوالم الرواية التي تدور بين شوارع وعمارات الحي. تدور حولهن الصراعات وتشتبك مصائر الرجال أو تنفرط للبحث عن السنيورة
يستغل الكاتب تقنيات السرد الحداثية في الرواية وقد أظهر قدرة لغوية تستحق الإشادة خاصة وأن الرواية اعتمدت على عدد من المرايات التي تظهر الشخصية بجانب نقيضها مما يجعل القارئ يقظا لكل كلمة يكتبها الكاتب دون إغفال.
تعرض الرواية البطولة في الشكل الشعبي المحبب مغلفة بالفكر والفن والثقافة للبطل المحبوب داخل الأحداث مسلطا الضوء على عالم المثقفين الذين يجيدون انتهاز الفرصة أو يخربونها بالانتهازية السائدة داخل أروقة عالم الحي. وقد نجح كريم القاهري في أن يكتب بمنتهى الجرأة في التناول والعرض داخل أحداث الرواية للقوة والسلطوية التي يمارسها الإعلام وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي وقدرتهم غير المحدودة في قلب صورة الحقيقة أو تجميلها.
الرواية تبدو كأنها أوراق الراوي العليم التي يستعد لطبعها وهي حكاية أخرى داخل موازييك كريم الذي قرر ينسجه يضع العناصر ويترك لك قراءة الأوراق باسم صاحبها تاركا لك في كل صفحة رسالة تؤدي بك إلى الجزء الناقص من الحكاية داخل الرواية
كل العلاقات المتشابكة والصراعات المستمرة داخل الرواية طوال الوقت تظهر قصص الحب مستترة وتظهر الغدر والقسوة بوضوح. مشهدان في الرواية يجعلك تتأكد من جودة العمل ودقة صاحبه مشهد الخصي بكل قسوته وكيف بعده ينتفي الفعل، مشهد الرقص بكل بهجته لتستشعر قوة الحياة. الحياة تحمل أوجه متعددة وعليك أن تختار صورتك فيها الفعل/ اللا فعل.
الرواية تحمل اسم غيمه وهو الطفل الغريب الذي يقع في قلب الكل انه الطفل المحبوب الذي يعتني به الكل بمحبة لما له من قدرات منقوصة طفل أعمى هو محور الحكاية مجهول الأب يموت في حادث بشع مفاجئ.
وبعدها ينهار الحي وأبطاله تمامًا ديستوبيا رسمها الكاتب بمهارة بدأت عند جدار متهدم باق من الحي الذي ضم مخزن المطبعة للمزور الماهر الراوي العليم وانتهت بعمل متكامل تنبئ بميلاد كاتب حقيقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية
الرواية صادرة مؤخرًا عن دار العين 2025