فيلم “السادة الأفاضل” .. حين يصبح العبث نظامًا

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ولاء الشامي 

يأتي فيلم “السادة الأفاضل” للمخرج كريم الشناوي كأحد أكثر التجارب السينمائية جرأة في مصر خلال السنوات الأخيرة، لأنه ببساطة قرّر أن يسير عكس الاتجاه. في وقتٍ ما زالت فيه السينما المصرية تميل إلى الواقعية الاجتماعية أو الكوميديا الخفيفة، يختار الفيلم أن يدخل منطقة العبث، حيث لا تُحكم الأحداث بالمنطق، ولا تُدار الشخصيات بالعقل، وإنما بالصدفة واللا معقول.

ينطلق الفيلم من رؤية فلسفية ترى أن العالم في جوهره غير منطقي، وأن محاولاتنا الدائمة لفهمه محض وهمٍ، صحيح أنه وهم جميل، لكنه يظل وهمًا في نهاية المطاف! في هذا الإطار يتحوّل الضحك إلى رد فعل على الفوضى، ويغدو الجنون لغة بديلة للمعنى.

يقدّم الفيلم الذي كتبه مصطفى صقر ومحمد عز الدين وعبد الرحمن جاويش هذا العبث بروحٍ مصريةٍ خالصة، تبدأ من رؤيته الدعائية الصريحة، فكأن صناعه يريدون القول أن في هذا الفيلم سيكون كل شيء خاطيء من البداية وحتى النهاية.

 ومنذ اللقطة الأولى -الإعادة ساخرة للوحة The Creation of Adam مع وجوه بيومي فؤاد وانتصار وعلي صبحي- يُعلن المخرج صراحةً أنه لا يبحث عن الواقعية، وإنما عن كشف اللاواقعي داخل الواقع نفسه.

الرمزية حاضرة في التفاصيل الصغيرة كأن الفيلم يريد أن ينبئنا أننا في لحظة خلق جديدة للعالم الشعبي، عالم يعيد اختراع المقدس والرمز، لكن بطريقته الهزلية. حتى الولاعة التي تتنقل من مشهد لمشهد، تتحوّل لأداة رمزية توحّد بين الفوضى والقدر، بين الصدفة والنتيجة، وهذا منتهى العبث المنظم.

يشتغل الفيلم على مفارقةٍ دقيقة، مفادها أن أكثر الطرق صدقًا لتصوير الواقع المصري اليوم، هي أن تُقدّمه بلا منطق. فحين تصير الفوضى هي القاعدة، يصبح العبث هو الحقيقة الوحيدة المتبقية. ولهذا فإن المشاهد الغريبة كأن يغرق أحدهم لأنّ الشخص الذي يهدده انشغل بذبابة ليست نكاتًا مجانية، بل رموز بصرية لواقعٍ فقد منطقه الداخلي.

لتتحوّل السخرية في السادة الأفاضل إلى أداة نقد اجتماعي لاذع، تُعرّي منظومة “الاحترام المصطنع” التي يعيشها المصري المعاصر. الجميع “محترم” وكلهم “أفاضل”، لكن ذلك غير حقيقي فلا أحد فيهم صادق. كل شيء يبدو منظّمًا من الخارج، بينما هو منخور بالعبث في الداخل.

 يعتمد الفيلم في ذلك على توازنٍ صعب بين الهزل والصرامة الفنية. فبينما يترك الحدث للصدفة، يظل البناء الدرامي محكمًا في التفاصيل الصغيرة؛ نكتة الولاعة مثلًا، التي تبدأ كمزحة عابرة بين طه دسوقي وعلي صبحي في الدقائق الأولى، تعود في النهاية كعنصر حاسم يُغلق الدائرة السردية، لتُذكّرنا أن العبث -وإن بدا فوضى- له منطق داخلي خفيّ، لا يُرى إلا بعد اكتمال الرحلة. وهو ما يتماس مع ما يقوله أنطون تشيخوف من أنه لا ينبغي للمرء وضع بندقية محشوة بالرصاص على المسرح، إذا لم يكن ينوي اطلاق النار في الفصول التالية من المسرحية.

ينتمي السادة الأفاضل إلى تلك الفئة النادرة من الأفلام التي تُحوّل الخطأ إلى منهج جمالي، وتجعل من “العبث” بنية واعية تُفكّك فكرة السرد التقليدي. فالأحداث في الفيلم لا تتبع تسلسلًا منطقيًّا، لكنها تمتلك إيقاعًا داخليًّا غريبًا، يُذكّرنا بأن الفوضى نفسها قد تكون شكلًا من أشكال النظام.

في هذا العالم، كل شيء يمكن أن يحدث بلا سبب: رجل ينهار النظام كله بسببه، ثم يُقتل عرضًا على يد شاب لا يدرك حتى خطورة فعله. مواطن يُدهس بسيارة في مشهد عابر وكأنه لا يعني شيئًا!

 هذه المشاهد العبثية ليست عبثًا لمجرد التسلية، وإنما للتعبير عن واقعٍ فقد علاقته بالمنطق. فالفيلم لا يعبّر عن عالم مختلق بقدر ما يعكس منطق الحياة اليومية نفسها في مجتمعٍ تختلط فيه الصدفة بالمصير، والجِدّ بالهزل، والعقل بالجنون.

ومن الناحية البنيوية، يشتغل الفيلم على تفكيك منطق السبب والنتيجة الذي تحيا عليه الدراما الكلاسيكية. كل ما ننتظره في الحبكة لا يحدث، وكل ما يحدث لا يمكن توقعه، وكأنّ الفيلم يقول للمشاهد: “لا تبحث عن المعنى، بل تأمل غيابه”. هذا التحدّي الواعي للتوقّعات هو ما يجعل من السادة الأفاضل تجربة سينمائية فكرية، تقترب من إرث مسرح العبث الذي أسّسه صمويل بيكيت، لكن بلهجة مصرية ساخرة وسياق اجتماعي شديد المحلية.

الأحداث هنا تُبنى على منطق اللا منطق؛ فالكاتب يدرك أن العبث ليس نقيض المعنى، بل طريقه الأصدق. فبينما تنكشف الفوضى على الشاشة، نكتشف نحن كمشاهدين منطقها الخفي: عالم يسير بالمقلوب، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة ليبدو مستقيمًا.

بهذا الشكل، يصبح الضحك في الفيلم أداة تأمل، لا مجرد رد فعل. نضحك لأن ما نراه غريب، ثم نصمت لأن الغرابة مألوفة أكثر مما يجب. وهنا تكمن المفارقة الكبرى؛ إننا نضحك على اللا منطق، لكننا في الواقع نضحك على أنفسنا، وعلى واقعٍ أكثر عبثية من أي خيال.

وعلى الرغم من أن الفيلم ظاهرُه عبث وضحك بلا معنى، كأن رسالته “العبث هو النظام الوحيد الذي يؤمن به الفيلم”، إلا أنه يحمل بداخله وعي نقدي ساخر جدًّا من المجتمع نفسه. العبث هنا مرآة مشوّهة لحياة أصبحت فعلاً تمتليء باللا منطق. كل مشهد يحاكي حال الإنسان المصري الذي يعيش وسط فوضى القرارات والظروف. كأن الفيلم يريد أن يقول: “”مش إحنا كده برضه؟ بنضحك وإحنا غرقانين في العبث؟”

 من أبرز ملامح «السادة الأفاضل» أن مشاهد العنف والقتل خرجت عن النمط المصري التقليدي، واقتربت من مدرسة تارانتينو ومارتن سكورسيزي في أفلام مثل The Departed — ليس في الشكل البصري فقط، ولكن في الفلسفة الجمالية للدم. فالعنف ليس للتشويق، ولا يقدم ليجعلك تتعاطف مع ضحية أو تشمت في جانٍ، ولكنه يقدَّم بحياد تام، ببرود ساخر، كأن الكاميرا نفسها فقدت الإحساس بالصدمة. والقتلة والمقتولون متساوون في العبث، لا أحد يستحق البطولة ولا أحد يستحق الخلاص، وكل موت هو نتيجة منطق عالمٍ بلا منطق.

تُذكّرك هذه المشاهد بعنف تارانتينو الممجَّد للجمال وسط الدم، وبواقعية سكورسيزي التي تحوّل الجريمة لطقس اجتماعي بارد. لكن في «السادة الأفاضل»، العنف ياخد شكلًا أكثر سخرية، كأنه مشهد كرتوني يتكرر بعبثية لا نهائية، ليؤكد أن الحياة في هذا الفيلم لا تُعاقب ولا تكافئ، بل تضحك وتكمل.

الضحك في «السادة الأفاضل» ليس للترفيه، لكنه وسيلة للنجاة من الجنون العام. هو سخرية من واقع لا تستطيع ان تتعامل معه بالعقل، فتتعامل معه بالضحك.

 وهذا سرّ عبقرية الفيلم؛ إنه لا يبغي أن يضحك المشاهد من قلبه فقط، وإنما يجعله يفكر بعد الضحك، يفكر كيف أصبح كل شيء خاطئا فعلاً، وكيف أن العبث أصبح هو القاعدة ليس الاستثناء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة مصرية 

مقالات من نفس القسم