عندما يكون الاعتذار عن الوجود هو أقصى درجات البوح، فإننا أمام نص شعري لا يكتفي بالرثاء، بل يغوص في عبثية الحياة. يُعدّ ديوان “الجريح” للشاعر أحمد عبد العزيز نصاً عارياً وصادماً، و سجلٌّ روحيٌّ دامٍ يوثق صراع الذات مع الخيبة والوحدة وقسوة الواقع، مقدماً تجربة فريدة في الشعر العربي الحديث تعتمد على قوة تعبيرية لا تخشى انكشاف الضعف.
تدور محاور الديوان الرئيسية حول ثنائية الألم والعبث، حيث يتجسد الرفض الوجودي في عزلة لا نهائية.
يجد أحمد عبد العزيز نفسه منبوذاً ومهزوماً، ليست وحدته اجتماعية فحسب، بل هي مأساة الانفصال عن الذات والحياة، حيث يرى نفسه وكأنه يعتذر عن وجوده:
“ما أجمل ابتسامتكِ / وما أتعس وجهي / وما أفعله في حياتي / كمن يعتذر / عن وجوده“.
يبلغ هذا الرفض ذروته في إعلان رفضه للمنظومة الكبرى:
“فقط رفضتُ وجودي، / ما دام هذا الصراخ / يفسره البعض لحنًا / وما دامت هذه الحروب / أفلامًا ممتعة، / وما دامت الوحدة / حرية“.
إن هذا الثقل الوجودي يفتح الباب أمام المحور الثاني، وهو الحنين إلى الموت كخلاص، فالنهاية في هذا النص ليست مُخيفة بل هي نقطة وصول ومنتهى الرغبات، والحقيقة الوحيدة التي توازي يقين الألم، حيث يرمز الشاعر للموت بأنه الخلاص المريح الذي يسكنه:
“وللموت أنياب / هل تلاحظها؟ / إنها في قلبي“.
ليصبح الموت فلسفة شاملة تتداخل مع كافة العلاقات:
“أرمز للحُب بالموت / وللعُمر بالموت / وللصداقة بالموت / وللموت بالحياة “.
أما العلاقة العاطفية، فمشوبة بمرارة الحب الضائع والخيانة الكبرى، حيث يرى الحب هدفاً بعيد المنال أو سبباً جديداً للألم:
“الحب إلهًا / يغيب كثيرًا / ثم يظهر وأنا جائع “
وتتجسد الخيانة في أصعب أشكالها الوجودية، وهي خيانة النفس للحقيقة:
“الخيانة أنواع / أصعبُها خيانةُ النفسِ / والموتُ أشكال / أخطرُه الموتُ حيًّا“.
إن هذا الكم من الانهزام لا يمكن أن يُعبَّر عنه بلغة تقليدية، ولذلك لجأ الشاعر إلى أسلوب فني يعكس حالة النزيف المخلص المذكورة في الديوان (المقطع ٧).
يتميز أسلوب عبد العزيز بـ اللغة اليومية والصور المفارقة (الأوكسيمورون)، حيث يزاوج بين لغة الشارع والمفاهيم الكونية، ليجعل الفاجعة الوجودية ملموسة بـ “حبَّة فراولة”، وهذا المزج يكسر الجدار الرابع بين القارئ والنص:
“سيدة عصرت قلبي مع حبَّة فراولة / وشَرِبتْهُ / ولم تُحِس سوى بالغرابة” (من المقطع ٦)
كما تتسم القصائد بـ البنية المقطعية والتكثيف التي تعكس تشظي الروح. ويتعمد الشاعر إلغاء العناوين الفرعية والاكتفاء بالترقيم (كالمقطع ٢، المقطع ٧)، مما يؤكد أن الديوان هو نص واحد متصل، بمثابة تيار متدفق من الوعي، حيث يشير الترقيم إلى وقفات في هذا النزيف الروحي بدلاً من أن يشير إلى قصائد مستقلة.
هذه التقنية تعزز الإحساس بالضياع البنائي والتجربة الذاتية التي لا تخضع للترتيب التقليدي. هذا الأسلوب يخدم الذاتية المفرطة التي تتجاوز الفرد لتصبح رمزاً إنسانياً أوسع:
“لا أختص بالذاتية / أنا ثلاثة وعشرون بطلًا وهميًّا / في كُتب لم تُقرأ“.
فلسفياً، يحمل الديوان تساؤلات إيمانية عميقة، حيث يمثل التمرد الظاهر إيماناً متألماً أو على حافة الهاوية. التساؤل هنا ليس كفراً، بل صرخة استجداء للعدالة الإلهية في هذا العالم البائس. يسأل الشاعر عن قيمة العبادة والصلاح في مقابل الشقاء المستمر:
“وأملك قناعة ورثتها / عن قدرة الله / في صنع المعجزات / فلماذا لا أضحك؟ / ولماذا تضحكون؟ “.
ويوضح عبد العزيز أن ما يريده ليس معجزات كونية، بل خلاصاً إنسانياً بسيطاً:
“لا يُخفف نزلات البرد / والحُب من طرف واحد / وأن يحتضنني / عندما أشعر بالنقص والوحدة (من المقطع ١٦، مُتحدّثاً عما لم يطلبه من الله)
إن ديوان الجريح يبحث في النهاية عن الإنسانية المفقودة كقيمة وحيدة يستند إليها في مواجهة العبث، حيث يرى نفسه طفلاً مُعذباً:
“هذا المصير الذي خلقه / ليُعذبني / وليجعلني هذا الطِّفل / الذي لا يريد شيئًا غير إنسانيته.”
ديوان “الجريح” هو عمل جريء بامتياز، يغرق في نقاء الخطيئة وصدق الانهزام.
الشاعر أحمد عبد العزيز لا يريد من القارئ أن يتعاطف، بل أن يتورط في هذه التجربة القاسية، ليُدرك أن الجريح قد يكون هو أي إنسان مُعذّب، وأن الشفاء الحقيقي قد لا يأتي إلا بالاعتراف بـ:
أن تكون النهاية سعيدة؟ (من المقطع ٣٦)
هذا الاستفهام الاستنكاري هو التحدي الأخير للمنطق القاسي للحياة، ونهاية تليق بجماليات هذا الجرح المفتوح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدر عن دار المرايا 2025





