“جامايكا” لمحمد الأصفر.. حين يعزف القرد على ذاكرة وطن

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
بين سرد توثيقي لأحداث سياسية واجتماعية، يمرّ الزمن، وتستمر الأسرة في بناء بيتها بين العزف والتعلم والنضال، لكن تصاعد التوترات السياسية يعيد الاضطراب

أفين حمو 

في حضرة الظل ليست كلّ الظلال مريحة للنفس. يفتتح محمد الأصفر روايته  “جامايكا” بهذه العبارة، كمن يضع قدمه الأولى في حقل لغم سياسي وإنساني. لا يكتفي بالإشارة إلى الإرث الثقيل، بل يصوّب عدسته مباشرة نحو “ظل بابا جمال عبد الناصر”، مؤكدًا أنه “ليس كأي رئيس”. ذلك الظلّ الذي لم يكن مجرد ذاكرة، بل لعنة تتكاثر في وجدان الناس.

لم تمضِ بضعة شهور حتى رحل الزعيم، فانقلب بعدها شيء في حياة الناس رأسًا على عقب، تحوّلت البلاد إلى مشنقة متنقلة“.

هكذا لا تكون الرواية مجرد حكاية عائلة، بل سيرة ظلّ، وسيرة وطن يتقافز من حلم إلى خيبة. يبدأ الأصفر من مشهد طفولي، يكاد يكون أسطوريًّا: الأب يرفع ابنه الصغير على كتفيه ليصافح عبد الناصر في زيارته لليبيا.

“أبوك لا يقنع برؤية دون لمس، يقول لك لا بدّ أن نصافح الزعيم… سأميل إلى الأمام وأمدّ يدي ما استطعتُ، سنقترب من الصف الأول حتى وإن تهرسنا بين هؤلاء المحبين“.

بهذا المشهد، يصبح الأب جسرًا بين ابنه والسلطة، بين البراءة والمقدّس لكنها مقدسات لا تصمد كثيرًا أمام المتغيّرات إذ يذبل الحلم الناصري كما يذبل النشيد الوطني الجديد، فيشعر الطفل بأن النشيد الجديد “به نشاز”، ويُهدَّد بتحويل ملفه إلى الوزارة

مدير المدرسة قال لولي الأمر إن هذا الأمر خطير، وأنه قد يُحوّل ملف ابنك إلى الوزارة للتحقيق“.

هنا تظهر الثنائية العميقة التي يتقن الأصفر بناءها الموسيقى الرسمية في مقابل موسيقى الروح. الأب يأخذه إلى الزاوية ليعلّمه العزف على الدرامز، هناك حيث تبدأ “موسيقى الروح في مواجهة الموسيقى السياسية المفروضة. يظهر القرد الجامايكي، لعبة صغيرة تعزف على الدرامز، لكنها ليست عادية، بل “كائن حيّ” يستبطن الذاكرة، ويهزّ الزمن بإيقاعه.

“يلعب على الدرامز ككائن حي”

هكذا يصف الراوي القرد الذي لم يكن مجرّد لعبة، بل تحفة تحمل “كلمات تتغير دومًا، لتعبر عن أحاسيس متنوعة”.

صُمم هذا القرد بيد فتاة جامعية، مهندسة مناضلة خريجة جامعة بكين.

حفظت لحنًا من شاب جامايكي وضعته ضمن هذا القرد في مشروع تخرجها“.

لحن الحرب، من جزيرة جامايكا في الكاريبي، يأتي كصرخة من عالم بعيد، لكنه يُدمج في سياق وطني وإنساني محلي، في بنغازي تحديدًا، داخل حيّ المحيشي، بين البيوت التي تطوي أحلامًا وأسماءً منسية.

يكبر الطفل ويتزوج ويسافر الى امريكا والصين والتبت وجامايكا و ليعود مع زوجته إلى ليبيا، “تدهورت أوضاعها بين ليبيا وأمريكا”، لكن الأمل يسكن حيّ المحيشي حيث “كانت تساعد سكان الحي في حل المشاكل”. هناك تتقاطع السردية الكبرى مع حكايات الهامش، ويستعاد اسم عمر فخري المحيشي، الذي طالب بـ”تقسيم الأراضي المملوكة للوجهاء على سكان العشش والأكواخ”.

وبين سرد توثيقي لأحداث سياسية واجتماعية، يمرّ الزمن، وتستمر الأسرة في بناء بيتها بين العزف والتعلم والنضال، لكن تصاعد التوترات السياسية يعيد الاضطراب، وتنخرط الزوجة في لجان ثورية، فيما يظل القرد يعزف لحن الحرب، كأنه يصرّ على تذكير الجميع بأن “الحب السياسي” ليس إلا ظلًا آخر للغياب.

لكن المأساة لا تكتمل إلا بفقدٍ مفاجئ سقوط الطائرة، موت الزوجين، وتبقى الابنة التي تحمل الذاكرة وتقاوم النسيان. ترفض أن تفرّط في القرد، رغم أن المهندسة التي صنعته، في أيامها الأخيرة، تعرض مبلغًا ضخمًا مقابل أن يُتلف معها في موتها.

هكذا يصبح القرد شاهدًا على كلّ شيء. وحين يطلب صحفي صيني  لقاء سي حيطة، الرجل الذي باع تجارته وترك القرد، نجده في المستشفى بين الحياة والموت يسمع عزفًا بغرفته، فيشعر أنه يعيد صياغة الحكاية، وكان عزف القرد يحرر الأسرار المدفونة، ويبث في الأماكن المظلمة من الروح بريقًا من الحياة .

لغة محمد الأصفر في “جامايكا” هي في ذاتها موسيقى لا تستعرض ولا تتكلف، لكنها نسيم يحمل عبق الذكريات، وضجيج الحواس، وتضاريس الألم التي تصقل النفس . لا تكتفي بالكلمات، بل تلتقط الصور من عمق الشعور، من رغبة الإنسان في الفهم، من هشاشته، ومن مقاومته للزوال.

في هذا السياق، الغياب ليس حالة بل معاناة مستمرة، ليس مجرد فقد، بل حضور يخيّم، ظلّ لا يفارق. الخطاب المباشر هنا لا يبعث على التقريرية، بل يُقحم القارئ في حوار داخلي متوتر، كأن الرواية تتحدث إليك تسألك، وتدعوك للتفكير في زوايا نسيانك وذاكرتك.

إنها ليست رواية فقط، بل مرآة للذات. بل سيمفونية، يعزفها الأصفر بأناة، يحرّك فيها الحنين من جهة، والفجيعة من جهة أخرى. يقفز بسلاسة بين الأزمان، بين الحلم والفقد، بين الطفل الذي امتشق درامز الزواية والقرد الجامايكي الذي يعزف لحن السلام.

“جامايكا”لا تنتمي فقط إلى ذاكرة وطن، بل إلى أرشيف داخلي يسكننا جميعًا. فيها تتكسّر الحدود بين الحنين والمعاناة، بين السياسة والفن، بين المنفى والبيت، وفي النهاية، تدعونا لنفهم شيئًا بسيطًا وعميقًا في آن . هل كانت تلك الأصوات محاولة للهروب من نشاز الذاكرة؟

 أم أن كل ما نملكه في هذا العالم، هو الحكاية وإيقاعها؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم