تقف رواية “Flesh” (لحم) للكاتب الكندي-المجري ديفيد سالاي شاهدة على انتصار نوع الأدب الذي يرفض أن يكون مريحا أو متصالحا مع توقعات القارئ. في العاشر من نوفمبر 2025، أُعلن فوز هذا العمل الروائي السادس لسالاي بجائزة بوكر البريطانية، محققا ما فاته عام 2016 حين رُشح عن روايته “كل ما عليه الإنسان” دون أن يظفر بالجائزة آنذاك. لكن “لحم” ليست مجرد انتقام متأخر أو محاولة ثانية محسّنة؛ إنها، بصراحتها الجارحة وصرامتها الأسلوبية، إعادة تعريف لما يمكن أن تكونه الرواية المعاصرة حين تتخلى عن أي طموح للمواساة أو التطمين.
البنية السردية: معمارية الفراغات
يبني سالاي روايته على ما يمكن تسميته بـ”تقنية طعنة السكين” – وهو مصطلح استخدمه النقاد لوصف الطريقة التي يتعامل بها الكاتب مع اللحظات المصيرية في حياة بطله إستيفان المجري. بدلا من أن يستغرق في تصوير العنف أو الصدمة النفسية أو اللحظات الدرامية الكبرى، يختار سالاي أن يقفز فوقها، تاركا فراغات سردية تشبه المساحات البيضاء في لوحة تجريدية. هذه الفجوات السردية ليست عيبا تقنيا، بل هي استراتيجية محسوبة تجبر القارئ على أن يملأ الفراغ بخياله الخاص، وهو ما يخلق نوعا فريدا من التواطؤ بين النص والمتلقي.
حين يقتل إستيفان رجلا عن طريق الخطأ – أو ربما ليس خطأ تماما – فإن السرد لا يتوقف لتأمل الحدث أو استكشاف تبعاته النفسية. نلتقي بإستيفان بعدها وقد أنهى عقوبته في مؤسسة إصلاحية للأحداث، وكأن السنوات التي قضاها هناك لم تكن سوى فاصل زمني لا يستحق الذكر. وحين يُرسَل للخدمة العسكرية في العراق، لا نشهد ساحات المعارك ولا دماء الحرب؛ بل نراه يعود منها صامتا، حاملا في جسده – لا في لسانه – آثار ما رأى. هذه الطريقة في السرد تستعير من سينما الرعب تقنية “القطع المفاجئ”، حيث يكون ما لا يُرى أكثر إثارة للرهبة مما يُعرض.
ما يميز هذه البنية أن سالاي لا يكتفي بحذف التفاصيل الدرامية؛ بل يستبدلها بلحظات عادية، يومية، مسطّحة تقريبا. المحادثات البسيطة، وجبات الطعام، لحظات الصمت الطويلة في السيارة أو في غرف الفنادق – هذه هي المادة التي تُبنى منها الرواية. والنتيجة أن القارئ يشعر وكأنه يراقب حياة إستيفان من خلال كاميرات مراقبة متعددة، دون أن يكون له حق الوصول إلى عالمه الداخلي. هذا الانفصال المتعمد بين السرد والوعي الداخلي للشخصية يخلق نوعا من “الفراغ المقدس” الذي يشبه ما نجده في روايات ألبير كامو أو في أعمال كوتزي، حيث تُترك الشخصية معلقة بين ما تفعله وما تشعر به، دون جسر واضح بينهما.
إستيفان: بطل الرواية المضاد للبطولة
إستيفان ليس بطلا روائيا بالمعنى التقليدي. إنه، بكل بساطة، رجل يحدث له ما يحدث. في سن الخامسة عشرة، تبدأ الرواية بمشهد صادم: امرأة متزوجة في الثانية والأربعين من عمرها تستدرجه إلى شقتها وتمارس عليه ما يمكن وصفه – بلا مواربة – بالاعتداء الجنسي. لكن سالاي لا يقدم هذا المشهد بلغة الإدانة أو الضحية؛ بل يعرضه كواقعة، كحدث جسدي خالص، تاركا للقارئ مهمة الحكم الأخلاقي. إستيفان، في هذا المشهد وفي كل ما يليه، لا يبدي مقاومة ولا حماسا؛ يقول “حسنا” (okay)، وهي الكلمة التي ستصبح توقيعه اللفظي طوال الرواية.
هذه السلبية في الشخصية ليست نتيجة ضعف في الكتابة، بل هي جوهر المشروع الروائي. إستيفان هو تجسيد للإنسان الذي لم يتعلم – أو ربما رفض – أن يصوغ تجربته في شكل سردية. إنه يتحرك في الحياة كما لو أنها تحدث له من الخارج، وليس كما لو أنه فاعل فيها. حين يُعرض عليه عمل، يقبل؛ حين تُعرض عليه امرأة، يأخذها؛ حين تُفتح له باب الثروة، يدخل. لكنه لا يبدو أبدا وكأنه “يريد” شيئا بالمعنى العميق للكلمة. هذه السلبية تخلق إحساسا مقلقا بالحتمية: حياة إستيفان تبدو وكأنها تتكشف بفعل قوى خارجية – الصدفة، الجغرافيا، رغبات الآخرين – وليس بفعل إرادة داخلية.
الكاتب يرفض أن يمنح بطله أي سحر أو كاريزما تقليدية. إستيفان “غليظ، فظ، غير مهذب”، كما وصفه أحد النقاد، ويظل كذلك حتى حين يرتدي بدلات توم فورد ويسافر في طائرات خاصة. حين يصبح ثريا، لا يتحول إلى نسخة مصقولة من نفسه؛ بل يبقى ذلك الصبي المجري الصامت الذي لا يعرف كيف يحمل محادثة لأكثر من ثلاث جمل. وحين يُقال له – في لحظة مؤلمة قرب نهاية الرواية – إنه “شكل بدائي من الذكورية”، فإن الرواية لا تدافع عنه ولا تشفق عليه؛ بل تتركه واقفا في صمته المعتاد، عاجزا عن الرد.
الجسد كموضوع أولي
“لحم” ليست رواية عن الوعي أو الأفكار أو التأملات الداخلية؛ إنها رواية عن الجسد بوصفه موقعا للتجربة الإنسانية. يقول سالاي في أحد الحوارات: “أردت أن أكتب عن الحياة كتجربة جسدية، وعن معنى أن تكون جسدا حيا في هذا العالم“. هذا الاهتمام بالجسد يتخلل كل صفحة: الجنس، الطعام، العنف، المرض، الشيخوخة – كلها تُعرض بلغة مباشرة، خالية من الرومانسية أو الزخرف الأدبي.
الجنس، بالذات، يُصوّر في الرواية بطريقة مختلفة عن معظم الأدب المعاصر. ليس هناك إيروسية بالمعنى التقليدي، ولا حميمية عاطفية. الجنس هنا هو فعل، تبادل أجساد، آلية فسيولوجية. حتى في علاقته الطويلة – مع هيلين، الأرملة الثرية التي يتزوجها – يظل الجنس عند إستيفان “سهلا ومُرضيا”، بينما الحب “تعقيد للجنس”. هذا الانفصال بين الجسد والعاطفة هو ما يجعل إستيفان شخصية مأساوية: إنه محبوس في فيزيائيته، غير قادر على تجاوزها نحو أي شكل من أشكال التواصل الروحي أو العاطفي العميق.
سزلاي يستخدم عنوان “لحم” بكل تورياته: لحم ودم (flesh and blood)، رطل من اللحم (a pound of flesh) بمعناه الشكسبيري. الرواية تقول إن الإنسان، في نهاية المطاف، هو جسده أولا وأخيرا – وهذه ليست مادية فلسفية بقدر ما هي اعتراف بأن الكثير من التجربة الإنسانية يحدث “تحت عتبة الفكر الواضح”، كما قال سالاي نفسه.
الأسلوب: بلاغة التجريد والتسطيح
يتبنى سالاي في “لحم” أسلوبا تقشفيا إلى حد يقترب من البرود. الجمل قصيرة، مقتضبة، خالية من الزينة. الحوار مختزل إلى حده الأدنى: إستيفان يقول “حسنا” (okay) في معظم الأحيان، وحين يتكلم بجمل أطول، تكون لغته خشنة، محدودة المفردات. هذا التقشف الأسلوبي ليس نقصا في المهارة الكتابية – سالاي أثبت في أعماله السابقة قدرته على كتابة نثر غني وشاعري – بل هو اختيار متعمد يخدم الرؤية الفنية للرواية.
النثر المسطح يخلق فراغا، القارئ لا يُمنح نافذة إلى داخل إستيفان؛ كل ما نراه هو السطح: الأفعال، الكلمات القليلة، الصمت. هذا الأسلوب يشبه تقنية السرد في أعمال إرنست همنجواي أو في “الغريب” لألبير كامو، حيث يُستخدم التجريد للتعبير عن اغتراب الذات عن نفسها. لكن بينما كان ميرسو عند كامو يمتلك – على الأقل – صوتا سرديا يروي به قصته، فإن إستيفان محروم حتى من هذه الامتياز. إنه يُروى عنه، لا أنه يروي.
ما يجعل هذا الأسلوب فعالا بشكل مخيف هو أنه يجبر القارئ على أن يشعر بالعجز نفسه الذي يشعر به إستيفان. حين لا نستطيع الوصول إلى أفكاره، حين تُترك لنا فجوات سردية ضخمة، حين يقفز النص فوق سنوات من حياته بجملة واحدة – كل هذا يخلق إحساسا بالدوار، بالعجز عن الفهم الكامل، وهو ما يشبه حالة إستيفان نفسه. الأسلوب هنا ليس مجرد شكل؛ إنه المعنى نفسه مجسدا في اللغة.
الهجرة والطبقة: جغرافيا القوة
“لحم” رواية عن الهجرة الأوروبية في القرن الحادي والعشرين، لكنها ليست رواية “مهاجرين” بالمعنى المألوف. إستيفان لا يحمل قصة لجوء أو معاناة في الطريق؛ إنه ببساطة شاب من أوروبا الشرقية انتقل غربا بحثا عن حياة أفضل، كما فعل ملايين غيره بعد انضمام المجر إلى الاتحاد الأوروبي في أوائل الألفية الثالثة. هذا السياق التاريخي المحدد مهم: سالاي نفسه قال إن “الحكاية لم تكن لتحدث بنفس الطريقة في عالم ما بعد بريكست”. الرواية تلتقط لحظة تاريخية معينة حين كانت الحدود الأوروبية الداخلية مفتوحة، وحين كان الشرق الأوروبي يمثل مستودعا للعمالة الرخيصة التي تُستخدَم لخدمة النخب الغربية.
إستيفان يصعد السلم الاجتماعي من خلال جسده: أولا كحارس أمن، ثم كسائق خاص، ثم – عبر علاقة جنسية مع هيلين – كزوج ثري. لكن هذا الصعود ليس قصة نجاح؛ إنه، بالأحرى، توضيح لكيفية عمل الطبقة. إستيفان مُقدر دائما بناء على منفعته الجسدية: قوته العضلية، قدرته على العنف عند الحاجة، جاذبيته الجنسية. وحين يفقد هذه المنفعة – حين يكبر، حين تصبح علاقته بزوجته متوترة، حين يرفضه ابنها بالتبني – يبدأ الانحدار. الرواية تقول إن الحراك الاجتماعي الصاعد ليس ثابتا؛ إنه مؤقت، مشروط، قابل للإلغاء في أي لحظة حين تتغير شروط “الصفقة”.
الذكورية المعاصرة: بلا دفاع ولا إدانة
واحدة من أكثر الجوانب إثارة للجدل في “لحم” هي طريقتها في تناول الذكورية. الرواية لا تدين إستيفان ولا تدافع عنه. لا تقدمه كضحية لظروف قاهرة، ولا كوحش تتحكم فيه غرائزه. إنها، ببساطة، تعرضه. وهذا العرض المحايد أخلاقيا هو ما أزعج بعض النقاد وأعجب آخرين. الرواية تطرح سؤالا صعبا: ماذا لو كانت الذكورية – بعنفها الكامن، وصمتها العاطفي، وعجزها عن التواصل – ليست خيارا بل حالة؟ ماذا لو كان إستيفان محاصرا في ذكوريته بنفس الطريقة التي يكون فيها محاصرا في جسده؟
بعض القراء اعتبروا الرواية دفاعا عن الرجولية “البدائية”، بينما رأى آخرون فيها نقدا لاذعا لها. الحقيقة أن سالاي يرفض أن يقدم إجابة واضحة. الرواية تعرض رجلا غير قادر على الحب، غير قادر على الكلام، غير قادر على معالجة صدماته – لكنها تعرضه بنوع من الحنان البارد الذي يجعلنا نرى إنسانيته رغم كل شيء. في هذا المعنى، “لحم” هي رواية شجاعة: إنها ترفض أن تحول بطلها إلى كاريكاتور، لا “الرجل السام” ولا “الضحية المسكينة”. إنه ببساطة رجل – بكل ما تحمله الكلمة من ثقل وعجز ووحدة.
الدائرة: نهاية تعود إلى البداية
الشكل السردي المفضل لدى سالاي، كما لاحظ النقاد، هو الدائرة. “لحم” تنتهي حيث بدأت: إستيفان يعود إلى المجر، إلى المدينة الصغيرة التي نشأ فيها. لكن هذه العودة ليست عودة البطل المنتصر ولا عودة الابن الضال التائب. إنها، بالأحرى، اعتراف بأن كل ما حدث في الوسط – الثروة، السفر، الزواج، الصعود والهبوط – لم يغير شيئا جوهريا. إستيفان في النهاية هو نفسه إستيفان في البداية: صامت، منعزل، محبوس في جسده، عاجز عن صياغة حياته في سردية مفهومة.
هذه الحلقية السردية تعكس رؤية قدرية للحياة: أن الإنسان لا يتطور بقدر ما يعود، أن الصدمات المبكرة تشكل مسار الحياة كله، أن الحراك – الجغرافي أو الطبقي – لا يحرر الذات من ماضيها. “لحم” ترفض السرديات الكبرى للتقدم والنمو الشخصي؛ إنها تقدم، بدلا من ذلك، صورة للحياة كسلسلة من الأحداث التي تحدث لنا، لا بنا. وهذا القدرية، رغم قتامتها، تحمل نوعا غريبا من الصدق: إنها تعترف بأن الكثير مما نسميه “مصيرنا” هو في الحقيقة نتاج ظروف خارجة عن سيطرتنا.
رواية للزمن الراهن
فوز “لحم” بجائزة بوكر 2025 ليس مفاجئا إذا فكرنا في السياق الثقافي الحالي. نحن نعيش في زمن يشهد نقاشات محتدمة حول الذكورية، الهجرة، الطبقة، والجسد. ورواية سالاي تلمس كل هذه القضايا دون أن تقدم إجابات سهلة أو مواقف أخلاقية واضحة. إنها رواية تطلب من القارئ أن يتحمل عدم الراحة، أن يجلس مع الغموض، أن يقبل أن بعض الأسئلة لا تُحل.
ما يجعل “لحم” عملا استثنائيا ليس فقط موضوعاتها، بل شكلها. البنية السردية المتقطعة، الأسلوب المتقشف، الشخصية المستعصية على الفهم – كل هذا يخلق تجربة قراءة فريدة، مزعجة، غير مريحة، لكنها صادقة بطريقة نادرة في الأدب المعاصر. سالاي يثبت أن الرواية لا تحتاج إلى أن تكون دافئة أو متعاطفة لكي تكون إنسانية؛ في بعض الأحيان، البرودة نفسها – العين الثابتة التي تراقب دون أن تحكم – هي ما يسمح لنا برؤية الإنسان كما هو، عاريا من الأوهام والتبريرات.
عبر إستيفان، خلق سالاي شخصية ستبقى عالقة في الذاكرة الأدبية: ليس لأنها محبوبة أو مثيرة للإعجاب، بل لأنها تجسد نوعا من الوحدة الإنسانية العميقة التي نادرا ما تُصوّر بهذه الصراحة. “لحم” رواية عن رجل محبوس في جسده، في صمته، في عجزه عن أن يكون أكثر مما هو عليه. وفي هذا الحبس، نرى شيئا من أنفسنا جميعا – تلك اللحظات التي نشعر فيها أننا محاصرون في حياة تحدث لنا، لا بنا، وأن كل ما نملكه حقا، في النهاية، هو هذا الجسد الذي نسكنه، هذا اللحم الذي نحن عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





