رواية اتجاه عكسي .. تقنية الرسائل وفضاءات البوح

اتجاه عكسي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد حسن 

في روايتها الجديدة الصادرة هذا العام ٢٠٢٤ تحت عنوان ” اتجاه عكسي” عن دار المحرر تحاول نسرين البخشونجي التوقف إزاء تجليات  عبور الزمن وسيولة الأحداث وغياب القيمة وندرة الصداقة واندفاع الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل لاهث يتماهى مع إيقاع العصر الحديث الذي لا يمكننا حتى من التوقف لالتقاط الأنفاس لنعيد رؤية الأحداث والمشكلات والأفكار والانفعالات رؤية هادئة متزنة تنهض على المعرفة وأصالة النظرة وخصوصية المنظور.

إذ ترصد البطلة الساردة عبر تقنية الرسائل المصوغة بضمير المتكلم  تحولات المجتمع المصري في سياقاته الأخيرة بين لحظتين فارقتين ثورة يناير ووباء الكورونا وإن كانت ترتد في الآن ذاته إلى أزمنة سابقة على فضاء تلك اللحظتين الفارقتين على طريقة النوستالجيا أو المقارنة وممارسة التأمل.     

ولا يأتي الفضاء السردي عاما يخوض في الخطابات المجتمعية السائدة في تلك  الأوقات المأزومة بشكل مباشر، بقدر ما يأتي مصوغا عبر حدقة العالم المعيش الذي تحياه البطلة الساردة باعتبارها أما لديها طفلان “ياسين ومسك”، ترغب في تربيتهما وتعليمهما تعليما حديثا  ينهض على إشباع رغبتهما في تحقيق الذات والفوز بالسعادة في آن، فتتعد رحلاتها بين المدارس الدولية لتكشف هيمنة النظرة الاستثمارية على حساب الرسالة التعليمية والتربوية  المقدسة، وعبر ذلك الفضاء من الأحداث المتتابعة تتجلى لنا شخصية البطلة الساردة التي آثرت نسرين ألا تختار لها اسما ربما لشيوع تلك المشكلات التي تعانيها الأمهات في مجتمعنا المصرى الآن وقابليتها للتكرار باستمرار فكأن تلك الأم رمز لكل أمهات شريحة من مجتمع الطبقة الوسطى التي تحاول أن تحافظ على التوازن والبقاء بالإصرار على تعليم الأبناء تعليما خاصا متميزا، بالرغم من تكاليفه الفلكية الباهظة.

على أن تلك المساحة العامة المشتركة لا تنفي في الآن ذاته فضاء الخصوصية المتبدي عبر صفحات الراوية التي ترصد أزمة البطلة المأزومة التي تعاني من تصدع العلاقة  مع أحمد الزوج الأناني والأب المثالي في آن، ومع أم متسلطة تمارس القهر والتحكم صباح مساء في كل خصوصيات الابنة من اختيار الملابس إلى المطالبة بحذف منشوراتها التي تعبر عن آرائها  الخاصة على الفيس بوك.

ولعل في هاتين الأزمتين إلى جانب إيقاع عصرنا  اللاهث ما يفسر لنا منطق بناء الرواية وفق تقنية الرسائل باعتبارها فضاءات للبوح الحميم، وهي تقنية روائية قديمة قدم الرواية ذاتها منذ ظهور أقدم رواية إسبانية “سجن الحب” الصادرة عام ١٤٨٥  لدييجو سان بدرو ومرورا بأحد رواد الرواية الحديثة- إلى جانب دانيال ديفو صاحب رواية روبنسون كروزو- الروائي صامويل ريتشاردسون في ثلاثيته الشهيرة “باميلا” و”كلاريسا” و”تاريخ السير جرانديسون” بالإضافة إلى “غادة الكاميليا” لألكسندر دوماس الابن و”آلام فرتر” لجوته و”البؤساء” لهوجو  و”العلاقات الخطرة” لدي لاكلوس و”المساكين” لدوستوفيسكي فضلا عن عدد كبير من روايتنا العربية التي توالى نشرها بعد  “زينب” لمحمد حسين هيكل  إلى ما نشر مؤخرا من روايات تعتمد على تقنية الرسائل كرواية “٣٦٦” لأمير تاج السر عام ٢٠١٣ و”بريد الليل” لهدى بركات عام ٢٠١٨.

 غير أن الجديد الذي صنعته نسرين البخشونجي يكمن في  أن رسائلها التي تشكل فصول الرواية التسعة كانت  إرسالا من البطلة الساردة في اتجاه سردي واحد متنام متطور دون أن تجاوبها رسائل موازية من الصديقة المسرود لها  والمخاطبة بصيغة “صديقتي” فقط دون ذكر اسمها، لكننا ندرك مع  آخر سطر في الرواية أن المخاطبة المجهولة طوال صفحات الرسالة تسمى “إيمان” فنعود سريعا لنأخذ اتجاها عكسيا -مستأنسين بلافتة العنوان- من النهاية للبداية لنلتقي بعتبة الإهداء: ” إلى جميلة الروح مكتملة الإنسانية إيمان خيري شلبي” صديقة الكاتبة وليتأكد لنا أيضا أنها الصديقة المسرود لها عبر إشارة أخري تشير إلى بدء المحبة وعمق الصداقة بعد ذلك :

من ليلتها بدأت بذرة علاقتنا في النمو لأني شعرت لحظتها أني أمام شخصية مكتملة الإنسانية في عالم أزرق لا يقدم النصيحة ويكتفي بوضع علامة Like كإثبات حضور“ص١١٤

ولتبدو عبارة جميلة الروح  مكتملة الإنسانية  -سواء في  تصدرها اللافت لعتبة الإهداء وتوسطها فضاء الصفحة البيضاء مقترنة باسم الصديقة المخاطبة إيمان خيري شلبي أم في حضورها في متن الرواية-

أحد أهم المفاتيح الدالة في فضاء الرواية، وكأن نسرين البخشونجي التي تقوم بدور البطلة الساردة قد تحولت في سعيها  للبحث عن صديقتها الحاضرة الغائبة- عبر رسائلها الإنسانية الدافئة لها –  إلى أن تكون المعادل الحديث للفيلسوف اليوناني القديم ديوجين الذي خرج في وقت الظهيرة حاملا مصباحه ليبحث عن الإنسان الإنسان، ولم يجده ولكن نسرين وجدته.

 وفي تقديري أن “وقت الظهيرة” في الحكاية القديمة بما يستدعيه من ملمح الزحام البشري في أثينا القديمة  يبدو معادلا في رواية “اتجاه عكسي” لكثافة الحضور البشري الافتراضي على صفحات التواصل الاجتماعي لكنه في الوقت ذاته حضور زائف تكاد تشير إليه  عباراة أحمد عبدالمعطي حجازي الشهيرة  “هذا الزحام لا أحد” إنه حضور لا يحتاج إلى مصباح خارجي كمصباح ديوجين لرؤيته  -بالرغم من رمزية معانى الخروج والبحث والتهكم لدى الفيلسوف القديم-  بل يحتاج إلى مصباح داخلي لرؤيته من العمق بحثا عن الإنسان مكتمل الإنسانية الذي يصبح وحده الجدير بأن توجه إليه البطلة الساردة  رسائلها التسعة باعتبارها فضاءات للبوح بأكثر الأفكار صدقا وأشد العواطف حميميةوأصعب المشكلات حلا.  وحتى إذا غاب المخاطب أو المرسل إليه  على  مستوى الحضور الفيزيقي في معظم الأوقات فإنه يكون  أشد حضورا على مستوى العمق الإنساني، كما لاحظنا من غياب إيمان عن الحضور الجسدي الفاعل في أحداث  الرواية، لكن حضورها الروحاني عبر ذكريات المحبة المشتركة ومشاعرها الدافئة المصاحبة للبطلة الساردة  ونصائحها المخلصة لها وروحها المنفتحة على الخير والتضامن الإنساني هي التي أسهمت في إعطاء الرواية مذاقها اللافت على مستوى بنية فصولها التسعة التي تومئ إلى فكرة الميلاد الجديد بمعناه الرمزي الذي تحولت معه البطلة الساردة  من التبعية إلى الاستقلال،

ومن السلبية إلى الإيجابية، ومن الخنوع إلى التحدي،

ومن السير في الطريق المحدد إلى اقتحام الاتجاه العكسي،  ومن العاطفة المخلصة المجردة إلى المشاعر الإنسانية المكتملة الممتزجة بالعلم والثقافة والمعرفة والوعي. وعلى مستوى لغة السرد الشاعرية   النابضة  لاسيما عند جنوح البطلة الساردة إلى الانخراط في فضاء التأمل عند الإحساس بآلام الفقد أو مشاعر الوحدة : “كل العلاقات الإنسانية التي انتهت فجأه دون إرادة مني شكلت ندبة في روحي، وصارت قطعة من غرفة الوحدة التي بنيتها وارتضيتها لنفسي”ص٣٣

وعند ممارستها التأمل في معنى الموت حيث ترتقي لغتها إلى مقام الصفاء الرائق  مقدمة تأويلها الشعري الخاص: “الموت  ذلك السؤال الوجودي الذي ليس له إجابة. في طفولتي كنت أنظر إلى السماء وأتخيل أن النجمات ما هي إلا أرواح خرجت من حيز الجسد الضيق إلى البراح، أتساءل هل يشعر الإنسان قبل وفاته بقرب الرحيل“ص١٢١

وكما في قولها فرحة ببلوغ الأنثى/ رمز الميلاد المتجدد الذي تتوازى فيه الأنثى/ الابنة/”مسك” مع الشجرة في القدرة على الخصوبة والتجدد: “كل قطرة دماء هي إعلان لحياة إنسان …. حضنتها بقوة وأنا غير مصدقة أن نبتة الحياة بدأت تظهر في جسدها الصغير، ستصير ذات يوم شجرة”ص ٣١

هذا الميل إلى التؤدة والهدوء المقترن بطقس التأمل ورصد المشاعر في تدرجاتها المتناغمة أو في انتقالاتها الحدية  من الموت إلى الميلاد لا يفهم على حقيقته إلا في سياق عصرنا الحديث أو عالم الفضاء الأزرق الذي ترصد البطلة الساردة مأساتها معه قائلة: ” كل أشكال المصائب موجودة منذ القدم. كل أنواع الحزن ذاقها البشر منذ آدم. ما الجديد إذن؟ الجديد هو مواقع التواصل الاجتماعي التي صارت مثل اليد العنيفة التي تنبش، صرنا نرى ونسمع عن أشخاص لا نعرفهم ماتوا أو مرضوا أو  أو … مئات الشهادات وآلاف الصور. وأرواحنا تنزف وتئن . نعزي ونبارك في نفس اللحظة، الاكتئاب يقتلنا ببطء بعلمنا أو دونه.“ص٢٣

وإذا كانت البطلة المأزومة قد أصيبت بمرض الاكتئاب وقررت إغلاق حسابها على الفيس بوك فإنها قد تراجعت عن ذلك القرار بتأثير من إيمان الصديقة المخاطبة طوال الوقت في بنية الرواية حين قالت لها في مكالمة طويلة: “إن مواقع التواصل الاجتماعي هي تاريخنا الذي نكتبه بأيدينا ص٢٤

فإذا باليد العنيفة/ مواقع التواصل الاجتماعي تفسح المجال -ولو على المستوى الرمزى وفق المنطق الروائي- لليد الحانية التي تمسك بالقلم وتكتب الرسائل للصديقة الغائبة الحاضرة لتصل بها -عبر فضائها الدافئ الحنون- إلى التصالح مع الحياة بكل تجلياتها الحديثة وتجعلها في الآن ذاته تسلك اتجاها عكسيا  تستعيد فيه عنفوان الذكريات الجميلة وبهاءها  المفتقد منذ أن تفتح وعي البطلة الساردة في طفولتها على جمال فترة الثمانينيات حيث التعليم الممتع والأنشطة المبهجة من مسرح، وموسيقى، وأوبريتات، وأغاني عيد الطفولة وعيد الأم والأعياد الوطنية وطقوس جماعية مشتركة في التنزه ورحلات المصيف لندرك مع البطلة الساردة -دون أن تصرح بذلك بالطبع- أننا نتحرر إذ نتذكر وأن مشكلة هذا الجيل الجديد أنه جيل بلا ذاكرة، جيل اللهاث الحضاري والمخترعات الحديثة والألعاب الإلكترونية وهو جيل مختلف بالطبع عن جيل البطلة الساردة الذي كان يبدع في اللعب ويخترع المتعة.

إن رواية “اتجاه عكسي” ببنيتها ولغتها وتناصاتها البديعة مع النفري الصوفي   صاحب المواقف والمخاطبات في مفتتح كل فصل ورسائلها الدلالية الهادفة وسردها المقطع والمقطر بعناية  والمعتمد على ضمير المتكلم بفضائه الباطني الدافئ-  هي عند التحليل الأخير دعوة جادة للتأمل في معنى الحياة أو بالأحرى  محاولة لصنع معنى للحياة بكل تفاصيلها الحميمة التي تستحق أن نعيشها بعمق وأن نسلك لها أحيانا  اتجاها عكسيا يتمرد على الأخطاء ولا نكتفي بالسير الهادئ المطمئن إلى جوارها، وأن نفصح عن كل هواجسنا محتذين حذو نسرين البخشونجي صاحبة الأداء السردي المنضبط في نقل رؤيتها عبر تقنية الرسائل ذلك الشكل الذي قال عنه ميلان كونديرا: “هذا الشكل يخبرنا أن كل ما تعيشه الشخصيات إنما تعيشه لتتحدث عنه وتنقله، وتعترف به وتكتبه، في عالم كهذا حيث يقال كل شيء، يصبح السلاح الأكثر توفرا والأكثر فتكا هو الإفصاح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وناقد مصري
نُشرت في مجلة أدب ونقد ـ سبتمبر 2024

مقالات من نفس القسم