اسمي حُسن

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تاميران محمود

كان من عادات أسرتنا في ذلك الزمان قضاء أيام الصيف في الإسكندرية، أحبتها أمي وارتاح لها أبي. وكانت المدينة ودودة في الثمانيات أكثر من الآن، لكنها ارتبطت في ذاكرتي بالألم. لا أعرف لماذا أستشعر الألم كلما زرتها، كأن لماضيها أنينًا أسمعه من المجهول وحدي.

في مدخل العمارة اجتمع الأطفال يتشاركون اللعب واللهو والصراخ، بينما وقفت أتابعهم دون مشاركة، لم تكن أمي تسمح لي بمحادثة الغرباء. كنت أتمنى إلقاء نفسي وسطهم غير عابئة بتهديداتها ونظراتها النارية، إلا أنى كنت أكتفي بالمشاهدة. وبالرغم من حماس الصيف وشياطين الطفولة الخبيثة لا أشاركهم اللعب، وكذلك لمحت فتاة صغيرة تقف أمام الباب في الشارع صغيرة الجسم دقيقة الملامح قصيرة الشعر، مثلي تشاهد اللعب ولا تشارك فيه. تتمنى الصراخ وتخشى العقاب. بالقرب منها تتكوم صناديق المياه الغازية بجانب كشك صغير، عرفت أنه لأبيها وأن مهمتها إيصال الطلبات للمصطافين وجني القروش القليلة من جودهم طوال الصيف، وهو المكسب المضمون بعد شهور الشتاء الشحيحة في هذه المدينة كما يشاع عنها.

رأيتها تدخل وتخرج للعمارة والعمارات القريبة كثيرًا. لا تتكلم كثيرًا وتتحرك بسرعة برغوث، نشيطة ودائمًا تبتسم في ود غير مصطنع.

 جاء المساء محملاً برائحة ثقيلة رطبة، دق جرس الباب وسمعت أبي يضحك ويمازح الطارق بنكاته المعهودة. أغلق الباب وطلب مني أن أناوله قميصه الأزرق، وما أن ناولته طلبه حتى دق الجرس مرة أخرى. فتحت الباب لأجدها أمامي، نفس الفتاة الصغيرة، تحمل صندوقًا من صناديق المياه الغازية وتضعه أمامي، وأبي من خلفي يثني عليها بعبارات داعمة. يشجعها بمحبة واضحة، وسألها بابتسامة ودودة «اسمك إيه يا هانم؟».

قالت في وضوح: «اسمي حُسن».

«حُسن اسم غريب!»، هكذا فكرت ولم أعلق. فقال أبي مشجعًا: «حُسن شاه هانم ألف شكر، نورتينا»، وناولها النقود، لتجري من أمامنا وتختفي.

«اسمها حلو وغريب» قلتها لأبي وأنا أساعده في رص الزجاجات في الثلاجة.

أجابني مؤيدًا: «نعم لطيفة جدًّا، أهلها من كفر الزيات وجاءوا من فترة قريبة إلى هنا، تساعدهم في الصيف وتذهب للمدرسة في الشتاء، ولديهم بيت وأرض في بلدتهم القريبة يزرعها عمها، والدها قعيد لا يتحرك، فهي تُعتبر قدميه».

ضحكت وداعبته بخبث: «كل هذا عرفته منها بمجرد أن فتحت لها الباب».

رد على خباثتي بخبث مماثل وقال: «لا. عرفته من أمها. قابلتها أمس وأنا عائد من صلاة الفجر، وساعدتها في فتح بضاعتها وترتيبها».

هززت رأسي وقلت له: «خذني معك غدًا لصلاة الفجر، أحببت سيدي بشر».

غمز لي وقال: «اليوم كله غدًا في سيدي المرسي أبو العباس، ولكن لن تفارقيني فاهمة؟».

هززت رأسي بالإيجاب لأجد أمي تتساءل بفضولها المعهود: «خير، بتتفقوا على إيه؟».

لأجيبها في براءة كاذبة: «أبدًا، لا شيء».

تنظر لي متشككة وتقول في حسد: «بنت أبيك»!

أختفي من أمامها وأحلم بالغد. لا أجد متعة كبيرة في اللهو على الشاطئ، ولكن مصاحبة أبي في جولاته متعة كبيرة لعقلي وقلبي معًا. والأجمل أن لا ثالث معنا. أما هذا اليوم فيجب أن نتشاركه كلنا، ولذا

ذهبنا في رحلة مسائية لشارع خالد بن الوليد التجاري. أخذت أمي تمارس هوايتها في الفصال وتشتري أشياء تبدو جميلة لكنها بلا قيمة عندي. وضع أبي ضمن المشتريات وشاحًا أخضر وبعض شرائط الشعر الملونة وقال لأمي: «الشرائط لحُسن».

ردتها أمي في يده بعنف وقالت في نبرة أعرفها جيدًا: «شعرها قصير لا يصلح للشرائط».

انتقى إيشاربًا أزرق ناعمًا وأمرها في وضوح: «أعطيها هذا».

أخذته أمي متبرمة وقد تكدرت ملامحها ولم تلن حتى جلب لها وحدها لفة عملاقة من المشبك جعلها تنسى كل الكدر وتشاركه الضحك. ولما انتصف الليل كانت عودتنا إلى البيت، وكانت ليلة لم أنم فيها.

في الصباح ارتديت فستانًا أبيض طويلاً مكشوف الذراعين وصندلاً خفيفًا ووضعت الوشاح الأخضر حول كتفي الهزيل وأمسكت بيد أبي في طريقنا لزيارة إلى المرسي أبو العباس. تجمُّع هائل حمل رايات أهل الطريقة. اختار أبي مكانًا يعرفه وجلس وسط الذاكرين في هدوء وسكينة، تلقوه بشوق وترحاب لا زيف فيه، وعبارات اعتذار واضحة يرددها. التصقت في جلستي بجواره، بدأ الذكر يدور ويحلق خالقًا هذه الدائرة الوهمية التي نراها تدور فوقنا، وحولنا رقصة من المحبة الصافية الجوانب، وشعرت أني أنفصل عنه في تحليق ساحر كأنني في حلم!

ولكنه واقع أشاهده أمامي حاضرًا. أشم رائحته وأجد في قلبي برودة رقيقة تدفعني نحو أطفال لهم أجنحة يمرحون حولي وأسمع ألحانًا عذبة. شعرت بخفة أدركها بلا تفسير. جذبتني الألحان الخفية للدوران حول الكون. كون صغير مزدحم الأركان، يجذبني لهو الأطفال ذوي الأجنحة الشفافة، أتدحرج وسطهم فوق عشب ندي، يطير مني الفستان وتنبت لي أجنحة تحمل جسدي الساكن لساعات بجانب أبي، يحركني كدمية بين يديه، أشاهدني من مكان آخر وكأن هذا الجسد ليس جسدي. لا تهم النظرة الساهمة على وجهي ولا الدموع الرقيقة المحتشدة في مقلتي. هناك سعادة خفية تسكن قلبي كنقطة نور وحيدة تكفي العالم بأسره.

يتصل الذكر ولا ينقطع، وتتصل الروح بما تسعه، ويتراقص النور بداخلي حتى إذا اشتعل وتنبهت إلى قوته الطاغية ارتعش جسدي وانتفضت أجزاء مني. وأخذت أشعة النور تقوى لتشق روحي عن جسدي وتسري كتيار دافق إلى قلبي. تهب لفحات ساخنة وأخرى باردة تعقبها وأستسلم لموجات الذكر المطمئنة.

تنبهت في طريق العودة أننا في الترام بحركته المتهادية، تعجَّب أبي لسكوني وعدم مجاراتي المعتادة له، شعر بالقلق وظن أن الملل اقتنص روحي، لم أعرف كلمات تساعدني في وصف ما رأيته ولا خوفي من مجهوليته.

حين وصلنا عند العمارة رأيت العائدين من الشاطئ المتعجبين لهدوئي وجماعة من الأطفال يلعبون، وحُسن تتباهى بينهم بالوشاح الأزرق المعقود خلف رأسها وتبتسم في سعادة.

مدت يدها تمنحني مصاصة، فأشرت إلى فمي وقلت متحججة خوفًا من أمي: «ضرسي مسوس».

مد أبي يده وأخذ المصاصة كطفل كبير مازحًا: «أنا بحب المصاصة».

وقفنا نضحك وهو يدسها في فمه ورعشة واضحة انتابت جسمه وهو يضحك قائلاً: «ليمون».

انتهت أيام المصيف واحتفظت برحلتي السماوية لنفسي، أخاف أن أشاركها مع أحد فيظن بعقلي الظنون. وذهبت حُسن لتسكن قاع واحد من صناديق الذاكرة، لا تبارحه إلا إذا شاهدت ابني يرتعش متلذذًا بطعم مصاصة ليمون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المجموعة القصصية “خريطة الحكايات القديمة” الصادرة عن بيت الحكمة للثقافة 2025

مقالات من نفس القسم