“انتظار ريح الشمال” حين تروي البلدة حكايتها ولا تنتظر شيئًا

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
رواية "انتظار ريح الشمال" هي شهادة لا عن زمن واحد، بل عن جيل كامل، عالق بين ما لا يمكن احتماله، وما لا يجوز نسيانه.

أفين حمو 

ما الذي يجعل الحكاية أعمق من مجرد سرد؟
ما الذي يحوّل حياة قرية، بطرقها الترابية وغبارها المعلّق، إلى حكاية تتقاطع فيها المأساة مع الشعر، والانتظار مع خيبة الانتظار؟
في رواية “انتظار ريح الشمال “يكتب زياد حيدر بلغة تميل إلى التوتر الجميل، وتمزج بين الحكاية الخاصة والحكاية العامة، في نَفَس طويل لا يُروى دفعة واحدة، بل يُرتشف رشفة رشفة كقهوة مُرّة تُذكّرك بما كنت تحاول نسيانه.

البداية مفارقة ذكية جدًا: رسالة فيسبوكية من «صفحة الوادي الجنوبي» إلى مهرة، بطلتنا في المنفى، تستأذنها نشر قصص عنها وعن قريتها. ليس غريبًا أن يكون باب الحكاية اليوم هو بابًا رقميًا، لكنه في الرواية أعمق من مجرد وسيلة، هو استدعاء للذاكرة من مكانها البعيد، وفتح صندوق عمر مُغلق. تبدأ مهرة بالقراءة، وتبدأ الرواية بالتنفس:

السيدة أُلفة ‫مرحباً ‫إن إدارة صفحة “الوادي الجنوبي” تسألك إذنك في نشر قصّة أدبية، على موقعنا وذلك بطلبٍ شخصيّ من الكاتب الذي يرغب في إبقاء اسمه الحقيقي مجهولاً...”

مهرة ليست بطلة تقليدية. هي تمثيل لما تبقى من الطهر في بيئة مغبرة، وما يُنتزع من المرأة حين تُحبّ في قرية لا تتسع للحبّ. كانت أجمل بنات القرية، خُطبت لضابط اسمه فجر، ثم خُطف فجر وسُجن على يد فصائل متطرفة. فظنّوه قد مات، فتزوجت بعد توسلات والدته أخاه المُدمَن، ثم طلّقته بعد أن أذاقها سوء المعاملة.

تظن أن هذا هو الانكسار، لكنه لم يكن إلا بابًا أول لخيبات أخرى.

الرواية بنيويًا تنتمي إلى نمط القصص المرسلة، تُقدَّم كمجموعة من الحلقات/الرسائل التي تُرسل لمهرة، فتقرأها، ونقرأ معها حيوات من حولها. هذه الحيلة السردية ليست فقط شكلًا، بل تضعنا كقراء في موضع القارئ الحائر: هل هذه حياتها؟ أم حياة البلدة؟ أم حيواتنا التي نقرأها مخفيّة في سطور الآخرين؟

الرواية ليست عن مهرة فقط. هي عن فجر، الضابط الذي خرج من السجن، وعاد ليجد نفسه حرًّا دون حرية. لا شيء ينتظره. الحبيبة تزوجت، والأخ يصبح قاتلًا بعد أن أطلق عيارات نارية احتفالًا بعودته، لتصيب الطفلة سنا . والبلدة التي ضحّى من أجلها تلبس ثياب المحتفلين بدمه لا بعودته.

ثم نقرأ عن تجربة الحبّ الثانية في الرواية، بين مهرة والكاتب رشد، أو “درويش” كما يحب أن يُلقّب. علاقة غير مكتملة، وعقيمة عن قصد. لم يرد لها الكاتب أن تثمر، بل أرادها أن تكون امتدادًا لعجز هذه البلدة عن تحقيق شيء كامل. مهرة التي وقعت في حب درويش، لم تستطع أن تخونه معنوياً لأنه زوج صديقتها إشراق.
ودرويش نفسه تزوّج لا حبًا، بل لأنه يحافظ على أرث العائلة من خلالها.

منذ هاجرت لم يتحدثا إلّا مرّةً واحدة قاومت رغبة ضميرها في البوح لإشراق عن كل شيء“.

أما عن إشراق نفسها، فالرواية تمنحها مشهدًا داخليًا حزينًا من خلال كلام رشد:

إشراق نامت منذ ساعة. تناولت حبّة مهدّئها أن تنتهي علاقة هاتين المرأتين الآن، هو أفضل من أن تنتهي غدًا بطريقة أخرى، جارحة، ومؤلمة يبدو ما جرى أشبه بحلم“.

وبين الخيانة المكبوتة، والحبّ الذي لا يتحقق، تنهار حتى المشاعر في الرواية. وكأن العاطفة نفسها تُكبح في هذا المكان المتعب، أو كأن الحبّ نوع من الرفاه الذي لا مكان له حين تكون القرية كلها تنام على تراب المصنع وتصحو على غباره.

تقول مهرة: “الخيانة أمر طبيعي”، فكّرت في نفسها. “فنحن خلقٌ ناقصٌ، نموت بحثا عن بقايا قوالبنا التي نسي الله ضمّها إلينا...”.

رشد في الرواية، يحتل مساحة رمزية عميقة. لا نعرفه فقط من خلال أفعاله، بل من خلال حكايته التي يكتبها عن اسمه ولقبه وعن قصص أهل القرية وألقابهم. يخبر رضا أنه ورث اسم “درويش” من أبيه، الذي كان آخر ذكر في العائلة، وأنه أنُجب فقط للحفاظ على الاسم، ليتزوّج لاحقًا من إشراق دون حب، فقط ليُبقي على الإرث داخل السلالة. لكنه عقيم.

اختارا، بعد نقاشات طويلة متكرّرة، ترك هذه الشجرة تيبس، فيما يكبران بهدوء“.

إنه هنا لا يكتب القصص فقط، بل يُدوّن نهاية السلالة، نهاية الاسم، نهاية الفكرة. هو شاهد على الخراب، يكتبه لأنه لا يستطيع أن يغيره.

رضا هو درويش البلدة الآخر، الابن الطيب، الصديق، البسيط، الذي لم يُمنح فرصة أن يكون شابًا. حين يحاول – بتحريض من رشد – أن يعطّل معمل الإسمنت، يُقبض عليه، ونتابع واحدة من أصدق لحظات الانهيار النفسي:

وقف المحقق محتارًا في كيفية التعامل مع رضا. صفعه فانهار باكيًا. أخافه بالكرباج فبال على نفسه. أودعه المنفردة، فتحول بكاؤه إلى عويل بجانب الباب. حاول معه، بحثًا عن كلمة واحدة مكتملة أو مفيدة يمكن أن يتفوه بها لكن لسان رضا، “القادر على تدوير كبد فدان كامل في فمه، ليس قادرًا على ضبط حروف كلمة واحدة”، كما أوضحت والدته“.

وتكمل الأم حكاية رضا، كما تروى للشمس: “سردت للمحقق قصة محاولة توظيف الفتى في المعمل، والجهد الذي بذلته عمته فضة لـ”دحشه في المعمل المجاور” كي يقوم ببعض الأعمال البسيطة… مشيرة لمساعدة الأستاذ رزق بيك، مستكشفة أثر وقع الاسم“.

أما عمته فضة فتقول: “أخذته إلى المعمل، أول مرة بناء على إلحاح منه… كان يريد رؤية الأضواء والآلات الضخمة، والأهم أن يركب السيارة البيك آب في صندوقها الخلفي… ثم جاءت فكرة توظيفه… إنه صبي معتوه. طفل كبير“.

رشد نفسه، حين يُسأل عن رضا، يقول: “سيدي المحقق، رضا لم يتعدَّ سن الست سنوات ربما. وذلك في كلّ ما يتعلق بنشاطه الذهني ووعيه الخارجي. إن كان لطفل في هذا السن أن يخطط لاعتداء من هذا النوع، فكيف له أن ينجح؟“.

قالها ولوى عنقه بتعالٍ، كما لو أنه يقول: “حاجة بقا سخافات، طالعوه للولد!“.

في المقابل، يقف البيك كشخصية متسلطة،يحسن اللعب على الحبال، يعرف من أين تُؤكل الدولة، ومن أين يُنهب الناس. يستغل كل من حوله، يتاجر بهم، يساوم باسمهم. أما المهندس، ذلك الشاب الذي اجتهد ليخرج من فقره، فما كان مصيره إلا أن يعود إلى المعمل، ذاته الذي يقتل أحلام أهله ويُطعمهم. في صمته، في قبوله، تتجلى الخيانة الأعمق: خيانة الذات، أمام استسلام الجموع.

لغة الرواية هي أحد أقوى أسلحتها.
لا تسعى للبلاغة الزائدة، لكنها مشبعة بالتصوير، ممتلئة بالإيحاء، لا تخشى من البطء حين يُفيد، ولا من الجُمل الطويلة حين يتطلب المعنى ذلك. لغة تحترم عقل القارئ، وتُغريه بالدخول في نسيج الرواية لا عبر الأحداث فقط، بل عبر الإيقاع. مزيج بين النثر الشعري والحكاية الشعبية، فتشعر أحيانًا أنك تستمع لراوٍ عجوز في ساحة قرية يروي ما حدث، وما لم يحدث، وما تمنّى لو أنه حدث. كما أن استخدامه للألقاب – مثل “اللي ما يتسمى”، “درويش”، “البيك” – ليس عشوائيًا، بل آلية تفكيك اجتماعي-ثقافي للأدوار في بنية القرية.

عنوان الرواية “انتظار ريح الشمال” يكاد يكون ساخرًا بقدر ما هو شاعري.
لا أحد ينتظر شيئًا في هذه البلدة. حتى حين عاد فجر، كانت المصيبة تنتظر أخاه.
كل بيت مفجوع كل شخصية مثقلة وكل ما يشبه الفرج، إما كاذب أو لحظة عابرة لا تؤسس لأمل.

الرواية تقول ضمنًا في زمن الاضطرابات الكبرى، لا يكون الناس طيّبين ولا أشرارًا، بل تعساء. يُساقون، يُرغَمون، يُحبّون خطأ، ويكرهون دون مبرر، ثم يواصلون حياتهم كأن شيئًا لم يكن. معمل الإسمنت ليس منشأة صناعية فقط، بل استعارة ضخمة لنظام يسحق الناس ويُطعمهم في الوقت نفسه. “المعمل يسمّمنا… لكنه يُطعمنا”.

في هذه الجملة تلخّص الرواية مأزقًا وجوديًا وسياسيًا أن تعيش في ظل من يُهينك، فقط لأن لا بديل آخر.
وهو ما يجعل الرواية تمتد خارج قريتها، لتلامس حياة أوسع، وتجعل القارئ – أي قارئ – يرى في غبار المعمل غبار وطنه.

قد يُخدع القارئ أولًا بتشظّي الحكايات وتعدد الأصوات، لكن زياد حيدر يُحكم الخيوط بهدوء. المشاهد التي بدت متفرقة في البداية، تتكامل لاحقًا، وتشكّل بانوراما بلدة على مدار مئة وخمسين عامًا. ما يشبه الفوضى السردية، هو في الحقيقة شغل روائي دقيق، يراهن على صبر القارئ وثقته، ويكافئه في النهاية.

“انتظار ريح الشمال” ليست رواية حب، وإن كانت مملوءة بالعشاق. ولا هي رواية نضال، رغم السجن والموت والمقاومة. هي حكاية بلدة لا تُروى على لسان راوي واحد، بل على ألسنة المهزومين، المُنهكين، الذين ما عادوا يملكون إلا القصص. هي شهادة لا عن زمن واحد، بل عن جيل كامل، عالق بين ما لا يمكن احتماله، وما لا يجوز نسيانه.

إنها رواية حزينة، نعم. لكنها ليست رواية يأس، بل رواية إدراك .
إدراك أن ما لا يتغير، لا يعني أنه لا يُكتب. وأننا، حين نحكي، نكسر قليلًا من الجدار الصلب الذي أحاط بنا طويلًا!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم