شكري سلامة شكري
.“وأما أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم”
يوحنا 20: 29
1
وإذا ثلاثة منهم في طريقهم مشيا إلى قرية تبعد عن أشمون بقليل. يتهامسون عن أمر شاع في مدينتهم، أن صبيًا ضاع من أهله منذ مدة ولم يعثر عليه أحد.
شائعة تتكرر بين شهر وآخر؛ يقال إن ذلك الصبي قد ضاع أكثر من مرة، يقال إنه مات عشر مرات على الأقل وعثر على جثته، يقال إنه لم يكن موجودا على الإطلاق. وكان ذلك مما يتداوله الناس، وينقلوه لأولادهم الصغار حتى لا يذهبوا بعيدا.
وهذا ما قالته السيدة علي عمارة لهم حين مسهم خوف الضياع، عليهم ألا ينشغلوا بالضياع أبدا، لا أحد يضيع في مثل هذا السن والكلام الذي يقال مجرد إشاعات، هم ليسوا كبقية الأولاد، بل إنهم ليسو أولادًا بالمرة، بل رجال، والرجال لا يضيعون أبدا.
وهو ما جعل الثالث يسأل الثاني ساعتها: “لم لسنا مثل بقية الأولاد؟”، فكان رد الأول وهو أكبرهم سنا: “لأن أبوك ليس رجلاً كفاية”.
هكذا تحطمت أمام أعينهم أسطورة الصبي الضائع.
كان الربيع في أوجه؛ ارتفعت أعواد الذرة في الغيطان، وعلى ضفاف الترع أينعت زهرات بنفسجية، وطارت اليعاسيب وراحت ترقص، وتاقت نفوسهم المرحة لترك العالم ومسؤلياته واللحاق بأجنحتها الطنانة. بينما يمشون ويتهامسون عن رغبتهم في الهروب من العمل اليوم، والذهاب إلى ضفاف المشروع، ظهر هو بينهم فجأة. لم تميزه أعينهم عن غيره، لكن قلوبهم شعرت برهبة اقترابه منهم، سار بينهم كأنه واحد منهم، أخ رابع بلا أخوة، أو رفيق ضل رفاقه.
سألهم عما يتهامسون، فقالوا إن أعواد الذرة صارت أطول، وإن حشرات أبو المقص باتت مغرية، فابتسم لهم، وأخرج من يديه ثلاثة حشرات بألوان مختلفة، مربوطة من ذيلها الدقيق بحبل صغير، الذيل ينبض في يديه كأن به قلبا. مد يده إليهم في دعة، وأعطى كل صبي حشرته، نبضت قلوبهم الصغيرة بالابتهاج، وفي ظل الدهشة السابحة، اختفى بين ضباب الصباح حول كوبري القنطرة، ولم يترك دليل على وجوده سوى حشراته ذات الألوان والأجنحة الزاهية، وتذكر الأول وهو أكبرهم أنه رآه من قبل.
2
قبل ذلك بسنوات اكتملوا ثلاثة، كان الأب غائبًا لم يشهد الولادة، وتساءلت السيدة علي عمارة وهي تحتضن وليدها الثالث من أين لذلك الرجل بكل تلك القسوة! نظرت للطفل بين يديها وقالت: “إن له عينا أباه”، ودعت أن يكون له قلبها.
طلبت أولادها فجاءوا إلى حضنها، دعت أن يلين الله قلوبهم، وألا يدع القسوة تحل فيها أبدا.
في اليوم السابع للولادة، أخذت وليدها، إلى مقام أبي مدين، وتعلق الطفلان الآخران في ذيلها، صعدت الصحن الحجري بوهن، وطرقت باب المقام، ففتح لها صبي، فكان هو نفسه، يرفل في جلباب أبيض، شعره محلوق كراهب، قدم لها طبقا من الفضة، وضعت به الهبة، وأدخلها المقام.
وقفت بجوار القبر ودعت بما في قلبها، بينما بكرها لا يكف عن النظر إلى الصبي الجالس في صمت تحت ظلال المحراب، وضوء الشمس يسقط من كوة عالية أمامه كأنه منحة ربانية.
خرجت وارتدت شبشبها، التحق بها الولدان، وعندما تجاوز الأخير عتبة المقام خرج إليها هو بنفسه، وفي يده الصحن الفضي، وبه عشر جنيهات.
نظروا جميعا إلى الصبي، تطلعت في عينيه، قال لها بصوته البريء: “سيدي يرد السلام”، ومد لها الصحن، أخذت العشر جنيهات وبكت طيلة طريقها.
لذلك لم ينس أولهم صورة الصبي أبدا.
3
انفجرت ماسورة مياه في الحارة، بجانب غرفتهم. خرجوا يهرولون ثلاثتهم، بينما السيدة علي عمارة تبكي في الداخل بلا سبب واضح، وجلس ثالثهم ـ أصغرهم ـ يبكي على حجر صغير، وفي عينيه عجز غريب كأن العالم على وشك الإنتهاء وهو بلا قوة.
أولهم وثانيهم حاولا نزح المياه التي ملأت الأرض حولهما، جاء الجيران، وحاولوا المساعدة. ازادادت حدة تدفق المياه، وازداد معها نواح ثالثهم، بينما يمكن سماع نحيب السيدة علي عمارة من الداخل. جاء ابن حلال لا يعرفونه، يحمل مفتاحا إنجليزيا. أغلق المحبس العمومي إلى أن يجيء عمال شركة المياه ويصلحونها. وبعد أن انتهى ذهب إلي الصغير الجالس على الحجر فتذكره، وعندما سأله عن بكائه، باح له بمخاوفه. ربت على ظهره، وفتح له يده ووضع فيها يعسوبا صغيرا مربوطا من ذيله، لم يكن ذلك موسمه أبدا، وأخبره أن العالم لن ينتهي بهذه البساطة، ولم ينس صوته أبدا.
دخل قبلهم، عانق أمه، وربت على ضهرها، وأراها حشرته الصغيرة المربوطة بذيلها. لم يذكر لها أن صبيا يعرفه جيدا، أعطاه إياها، لكنه مسح دموعها بيده الصغيرة، وأخبرها وهو يحاول أن يكون جادا، أن العالم لا ينتهي بهذه البساطة.
وحرر حشرته حتى طارت خارجة على أثر دخول أخويه، الذين أدركا أن أباهم تركهم مع كل ذلك الخوف بلا مبرر.
4
قال الأول للثاني إن قلب أخاهم أخف منهم، وبات واضحا تعلقه الشديد بأمه. لعنتهم الأم مرة حين عاقبوه على بكائه، وأخبرتهم أنهم ورثوا قسوة أبيهم، كانا يخافا أن يكونا أكثر شبها به، لا شيء يشفع للقسوة أبدا. تقريبا هذا ما قالته.
قدماها تورمتا من السكري، المشي والحركة صعبا عليها شيئا فشيئا، اختارت ثالثهم ليكون مرافقها، فانبسطت اساريره بالبقاء معها لأنه لم يرد أبدا الذهاب إلى العمل، وكان الحقد نصيب الأول والثاني. الشمس حارقة، والعمل لا يرحم، وقطع الاخشاب مهمة شاقة، وسلاح الماكينة الحاد في انتظار أي خطأ. رب العمل رجل لا شفقة في قلبه؛ حين قطع أحد صبيانه إصبعه مرة، لم يشفق عليه، بل رماه خارج الورشة، وهو ما جعلهم يخشون من فقدان إصبع من أصابعهم، لأنهم عرفا بغريزتهما أنهما سيصبحان بلا عمل.
منذ منع ثالثهم عن الذهاب معهما حتى شعرا بأن العمل صار أصعب، والطريق إلى القرية صار أطول، لاحظ أولهما أيضا أن الزهور البنفسجة على ضفاف الترع ذبلت، واليعاسيب لم يعد لها أثر.
أما وجه أمهم فقد اشرق، وشعرت أنها تكاد أن تستعيد حركتها، فتضائلت تورمات قدمها حتى لم تعد بحاجة لربطها بالإشارب الأخضر.
مع العصر انطلقت الأخبار التي تقول بأن حمدان قادم الليلة، ليشهد الشفاء العجيب للسيدة علي عمارة زوجته. خاف الأولاد من اللقاء، وانطفأت بهجتهم التي اشتعلت برحيله، وقال الأول للثاني: “إن سب الدين سيكون كالأغاني نسمعه طول الوقت”، وقال الثاني للثالث: “إن الضرب وحده سيكون وسيلة التفاهم”، أما الثالث فلم يكن يعرف أي شيء عن حمدان، ولم يفهم الحكاية التي تدور حوله، ولكنه اشتاق للكلمة الغائبة والسحرية التي تشير إلى أن له أب.
5
في المساء جاء حمدان، وطرق الباب. فتح له الأول ورآه يلف ذراعه بالشاش ويوشك أن ينكفيء على وجه، سلم عليه، وقال إنه أصبح رجلا فعلا، كان الثاني يراقب من بعيد مستمعا لحمدان الذي قال إنه عرف عن عملهم في القرية. جلس على الكنبة البلدي، ولم تستطع السيدة النهوض، لكن وجهها اصفر لرؤية زوجها في ذلك المشهد. ذهب إليها وهو يعرج ويربط ذراعه الأيسر برقبته، قبل يدها، وأخبرها أن أولاد الحرام نهبوا ماله كله، وكسروا يده. أثناء حديثه، لمح الثالث الصغير الذي يبدو مثل حمل مرتجف، وحين حاول الاقتراب منه اختبأ خلف أخوه وبكى بلا سبب.
أمضى حمدان أسبوعا معهم، بعد أن أخبرهم أنه بحاجة لعملية جراحية هامة ولا يملك المال الكافي، وإلا لن يتحرك ذراعه الأيسر أبدا. أعطته السيدة علي عمارة تحويشة الأولاد من مال، بينما أمر ثلاثتهم أن يكدوا في العمل، ليطلبوا سلفة حتى يستطيع إجراء الجراحة. امتثلوا. كان في قلب الأول شيء من شك تجاه الرجل، وكان يعرف أن أمه ساذجة، وكان يعرف أنه لن يعصي أمرها أيضا.
كانوا ثلاثة في طريقهم إلى القرية البعيدة. ثالثهم يبكي على فراق أمه، والعودة للعمل مع أخويه، ولم يجد سوى البكاء وسيلة لتفريغ همه. وبينما يتناجون ظهر هو بينهم بنفسه، شعروا به هذه المرة. لا يزال كما هو باسم الثغر وخفيف كنسمة، سلم عليهم وسألهم عن سبب حزنهم، فأخبروه أن العمل شاق، وأن الأب الظالم عاد، ويطلب الآن المال حتى يجري جراحة صعبة ومكلفة لذراعه، ففتح لهم يده وأعطاهم المال وتركهم في دهشتهم، وهم بدورهم لم يذهبوا للعمل، ولكنهم أمضوا اليوم بطوله يتجولون حول ضفاف الترع، وقد أزهرت من جديد أزهار شجرة ست الحسن، وطارت من جديد أسراب اليعاسيب.
حين عادوا بالمال تهلل الأب، وقام فألقى بالشاش من ذراعه وغادر بالمال، ووصلهم بعد سبعة أيام خبر زواجه.
جفت السيدة مثل غصن قديم، وتتضاءل حجمها حتى أصبحت لا ترى تقريبا، ومع الوقت اختفت. استيقظوا فجأة حيث لم يعد لها أي وجود، وهو ما دفع ثالثهم للسؤال عنها. قالوا له إنها في مكان أفضل الآن. اشتاق كثيرا لها بعد أول لحظات الغياب، كأن قلبه انخلع من صدره، ولم يكن يفكر في شيء سوى البكاء وذلك المكان الذي هو أفضل من هنا.
وقت الدفن، كان هو حاضرا بنفسه يوزع الماء على المشيعيين، اقترب من الصغير الثالث وأخبره إنه يعرف أين ذهبت أمه، وأخبره كذلك أنه سيراها قريبا، لكن عليه ألا يخبر أحدا أبدا. كتم الصغير شوق اللقاء خوفا من ضياع الأمل.
حمدان أيضا كان حاضرا، لم يتورع عن قتل القتيل والمشي في جنازته، والأولاد يعلمون تلك الحقيقة.
لم تمض سوى أيام قليلة حتى جاء مع زوجته للبيت، أصبح أولاده خدما للسيدة الجديدة التي كانت تقضي وقتها شبه عارية في البيت، على اعتبار أن هؤلاء الأولاد لم يبغلوا الحلم بعد.
6
رآها الأول في حلم خاطف، فخذان قويان مفتوحان أمامه، وصدر رخو يتدلى، وحلمتان منتصبتان في مواجهته. ولجها بعنف وهو ينكفيء عليها كأنه يغرق في لحمها الطري، وقذف بعنف. خرج سائله اللزج دافئا، وتلطخ سرواله، في الصباح أحس بالبلل الذي لم يفهمه، لكنه شعر بالرغبة القوية، وبسطوة الحلم على الواقع.
في الصباح رآها الأول متألقة كما كانت في الحلم، مرت أمامه بقميص النوم، تعبر من الحمام إلى غرفة النوم، شعر كأنه لا يزال عالقا في جسدها. لم يفهم الثاني اللهفة الموجودة في نظرة أخيه، لكنه عرف أن شيئا قد تغير بداخله. بينما رآه حمدان وفهم الصورة كاملة، نهرها في الصمت الذي خيم على الغرفة، فلم تعد منذ ذلك اليوم تخرج إليهم سوى بالعباءة السوداء التي تطوي أسفلها أحلام الفتى كلها.
.
7
مرت أسابيع قليلة وألح حمدان في طلب المال منهم، وهم بدورهم يكدون في العمل أو يصادفون ذلك الذي هو بنفسه فيعيطهم المال الذي يكفيهم.
كل لقاء بالنسبة للثالث فرصة ضائعة للذهاب إلى المكان الموعود، أخذ جسده في النحول، ضمرت ابتسامته الصغيرة، وشحب وجهه كأنه شبح قديم، كذلك لم يعد قادر على أداء عمله الذي كان يقتصر على كنس الورشة. تعثر أكثر من مرة، وبكى أيضا أكثر من مرة، لكنه كان ينظر بطموح الصغار إلى قرب ذلك اللقاء.
ذبلت الزهور مجددا، وتناثر الغبار في الجو منذرا بالكآبة، وتاهت اليعاسيب في الجو الكئيب.
لمحهم حمدان مرة يتلقون المال من ولد صغير، ولمحهم مرة ثانية وثالثة، وعرف أنه يخفي خلفه كنز أو ثروة طائلة.
انفرد بالأول حين عودته، وسأله إن عرف صبيا بالشكل الفلاني، خرجت الإجابات من فمه حائرة وتائهة، رأى الثاني ما حدث، وفهم بفطنته أن كارثة توشك على الوقوع.
8
نصب حمدان له المصيدة؛ خرجت المرأة بقميص النوم مجددا، وتاه الأول في وفرة اللحم، وشق الصدر الذي يمضي لمكان مجهول. داعب نفسه بيديه للمرة الأولى، وأفرغ سوائله وهو لا يفكر إلا فيها.
وحدث أن نامت تلك الليلة في الغرفة بمفردها، وتأخر حمدان حتى نودي للفجر. كان الأول يترقب خارج الغرفة، يروح ويجيء، الحرارة في جسده والقلق يمزق قلبه، وحين سكنت أنفاسها وسنحت الفرصة ذهب إليها، وضع يده على صدرها، لم تتحرك، داعب عضوه بيد ومرر الأخرى على الجسد المستلسم. وفي لحظة انقلب كل شيء؛ فجأة، سمع صوت قوي، ووجد حمدان أمامه يمتطي الظلام والشر، نهضت المرأة ممسكة بيده، بينما سائله الأبيض يلطخ يده الأخرى. أضاء حمدان النور فبان كل شيء، وبرخص فيلم قديم خبأت المرأة الفتى خلف ظهرها، وقالت: “اشفع له يا سيدي حمدان”. لوح حمدان بخيزرانة طويلة، وقال في استهزاء: “ابن الزنا يريد أن يشارك أبوه”.
فهم الثاني الأمر. بينما ازداد شحوب الثالث كلما مر الليل، كأنه يتحين موعده.
ارتجف الأول، وفي ارتجافته تراءى خوف سيدة التي لم يعد لها أي وجود. رأى الشر في عيني حمدان الذي أقسم أن ينيكه مثل أرملة بلا عزاء. اقترب منه، وأخبره أن شيئا واحدا قد يحميه؛ أن يخبره عن مكان ذلك الصبي الذي يدر عليهم ذلك المال.
.
9
اتفق الأول وحمدان وانتهى الأمر. وفي المنام جاءه ذلك الذي هو بنفسه، وسأله موليا إياه ظهره: “كيف تسلم أخاك؟”
لم يكن يعرف له مكان، أخبر حمدان أن عليه اقتفاء أثرهم، وهو بنفسه سيأتي لهم في أي وقت.
كانوا ثلاثة في طريقهم إلى قرية بعيدة، ثالثهم يطفو على الأرض كأنه قشة أو ورقة شجر، وبينما يسيرون حضر إليهم هو بنفسه، سار بينهم ولم يسألهم عن حزنهم، ولا عن الذي يتحاورون بشأنه، سار مثل حمل منذور منذ الأزل.
طفرت دمعة الأول حين التقت العيون. انقض عليه حمدان، فانكفأ ذلك الذي هو بنفسه. سقط على وجهه كأنه يودع الدنيا بسلام، وحين حاولوا لف وجهه، وجدوه هو بنفسه ذلك الذي كان ثالثهم.
بكى الثاني عام كامل لأنه وحده شهد الخائن والخيانة، أما حمدان والأول فقد أشاعوا أن الثالث قد ضاع.
قال الناس إن صبيا قد فقد، وقال الناس إنهم رأوه يجري عند الفجر حول ضفاف الترع. وقال الناس إنه لم يكن موجودا على الإطلاق.
وإلى الآن لم يقابله أحد أبدا. أبدا أبدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وقاص مصري