سارة القصبي
في رواية (ابتسامة بوذا) لشريف صالح نحن بصدد التعرض لرحلة إيمانية صادقة تلمس القلب والروح، البطل مار، شخص يعاني عقدة الذنب الكبيرة التي تطوق أعناقنا منذ الصغر، تطوف بنا هذه السلاسل النارية لتقيد أرواحنا وتضعنا في نطاق ضيق وحيز يختنق به ذاتك.
في محاولة للخروج عن هذا النسق يحاول مار الوصول إلى المدعوة تاليا
– خفة الروح أو حالة التسامى- .
يتقلب مار بين غضبٍ محتقن من مديره العفن المتسلط الذي لا يصلح لهذا المنصب، وبين رغبته الدائمة في عدم الانصياع لكل القيود المحيطة به.
بداية من غياب والده وهروبه من حياتهم وهو طفل صغير، جعل منه مسخًا صغيرًا خاضعًا لكل معايير المجتمع غير المُنصفة، فأول ما طرأ بذهن والدته، هو إلحاقه بالمسجد للمواظبة على الصلاة، تخوفًا من فساد خلقه وضياع عقيدته!
وهناك يظهر له الشيخ شعبان بحُلته الشيطانية الحقيقية متحرشًا بصبية الكُتاب.
فيقول مار بحسرة طفلٍ لم يتعافى بعد من صدام التعدد وإزدواجية الوجوه. حتى شيخه الذي سلمته والدته إليه ليتعلم مبادئ الدين القويمة
“قد ضيق معنى الله في قلبي”..
رمزية الدين الآن لدى مار هي رمزية مشوهة، هو نوع من الواجهة الإجتماعية فقط
ومن شيخه الفاضل تعلم مار، كيف يضمر شيئَا ويظهر للعالم بمظهر آخر
(علمني الشيخ شعبان كيف يظهر الإنسان عكس ما يخفي)
– كل صفحة من صفحات الرواية هي بمثابة لعنة وثورة..
لعنة على كل ما قُيد به وعيك
ثورة على كل شيء حولك
يدفعك الكاتب دفعًا للحراك والنظرة حول عالمك الداخلي الذي لا يعلمه سواك، أن تدفعه خارجًا بلا استثقال أو خوف.
نجد أيضًا الحديث عن الخوف..
ترعرع مار متوارثًا نزعات الذنب والتي تغذيها أمطار الخوفـ وإن كان قد ورثها من والدته ولكنها تحتكم في النهاية بقلوبنا جميعًا
كم مرة منعك الخوف؟ لن تستطيع عد هذه المرات بحياتك، وإن استطاع بطلنا الهُمام عد لحظات جبنه، وساعات تحجر الدم في عروقه، وتعرية أدق اللحظات التي أعاقت حياته. فهل لديك أنت القدرة على تلك المعرفة الخاصة بذاتك؟..
– نحن ضحايا ما يكتبه الآخرون على أجسادنا..
لم يرتضِ مار العيش تحت وطأة شعور العار بداية من الشعور بالعار من جسده، فظهرت لنا شخصية تاليا وإن كانت حقيقة أو من خيال مار
ولكنها هي خيط التحرر الذي استمد منه مار القوة والجرأة، فتحدثه بجرأة عن شاطئ العراة، وكيف أن الجميع يصبح سواسية أمام هذا التعري، فينطلق خوف مار وشعوره بالعار ونظرته للجسد، كيف يترسخ بداخلنا كل هذه الموروثات المهووسة بفكرة الجسد، والعار الذي يلاحقنا.
عار التلامس، عار البلوغ، عار التعري، عار الجنس
كل ما يحيط بجسدنا هو إطار من الحقائق المشوهة المُغطاه، فنتفنن في إخفاء جسدنا نتفنن في مطالعة العيوب والندوب فقط
ننفصل عن أجسادنا بالتالي ننفصل تدريجًا عن أرواحنا..
– حياتي عبارة عن ندوب أهرب منها، أراها كأنها فيلم لشخص آخر..
يستخدم الكاتب في بداية الرواية رمزية الأرقام الطاقية، ويبحث عن معنى ليوقف رحلته، يبحث بشكل لا واعٍ عن طريقة تثبط من عزيمة الرحلة، فيتتبع الأرقام، تظهر له الأرقام خمسة بكل أشكالها فيجد منها ما يدل على الوصول للتوازن ومنها ما يثير الريبة ويحذره من عدم الخوض في هذه الرحلة، ولكنه بعناده المتأصل بداخله ورغبته القوية في كسر كل القيود يُصمم على رحلته، رغم كل محاولات جسده للرفض، بداية من مظاهر الخوف كالإسهال الشديد والكوابيس حتى لحظة وصوله للمطار ومقابلة كل ماهو غرائبي، ولكنه لم يهرب كعادته….
– لا ذنب لك أن لك ثلاث جدات عاهرات..
عقدة الذنب
يتواطئ كل الاشخاص من لحظة التفتيش والكشف إلى ركاب الطائرة في تصنيفه وتأطير ذاته
يتعرض مار لهذا العنف الدموي منذ نعومة أظافره ،
الأحكام وشعوره الدائم بالذنب والنبذ
وإكمالًا لهذا الإذلال الذي يستعرضه مخه بداخل طيارة مار الداخلية، يقابل كل طوائف العقيدة
يتهمونه بالفسق والشيطنة، بل يصل بهم الأمر أن يطالبوا برجم الشيطان المتمثل في هيئته ويبدء الركاب فعليًا بالتصديق ورجمه بالأحذية!!
مشهد دموي عنيف إثر تعرضنا للحكم بلا موضوعية أو نظرة حقيقية.
المرأة الوحيدة التي ستنقذه هي مضيفة يشبها الكاتب بالفنانة شويكار، وللعجب يكون اسمها نيرفانا وهو أعلى مراحل السمو فهي بالفعل نيرفانا لن تتفن في رؤيته فاسد أو مجرم بل ستنقذه بجسدها اللدن ووركيها العريضتين كما يراها مار.
(فكلنا نرى جزءًا صغيرًا ونظنه حقيقة كاملة!!..)
هل هناك من يضعنا في مقالب بائسة ويتسلى بالفرجة علينا؟؟
يطرح الكاتب الكثير من التساؤلات الإيمانية ليست بغرض الشك ولكن بهدف اليقين ونية الوصول؛ نية تجميع قدراتك الإنسانية بمعزل عن السجن المنصوب لوعيك الحاضر، بفصل هذه القيود والأغلال الصلدة التي تكلس صداها فوق الجسد والروح..
– الحب مثل زهرة اللوتس يظهر ويختفي ولكنه موجود..
يقرر مار أن يعي ماهية الحب، هل يتمثل في الإيمان الصحيح؟ أم في ولاء الذكر للأنثى؟ أم في التحرر من كل شيء؟
يتعرض مار لكل ملذات الحياة، تُتاح أمامه جميع المسرات من نساء، ولائم، استرخاء تام وموقع مميز.
فهل يتحقق بداخله ما يريده أو ما يتمناه، هل سيصل إلى حالة الإشباع التامة أو الرضا؟
وهو نفس المنظور الذي وضعنا أمامه سابقا ماريو بارغاس يوسا في امتداح الخالة، هل الحياة السهلة الرطبة الحسية اللذيذة تفضي بنا إلى الوجود؟ هل نصل بها للتمام والبلوغ الروحي؟؟
كلها تساؤلات طرحها الكاتب داخل رحلته الخاصة..
يقود البطل رحلته مع مُلهماته التسع آلهات الفنون المختلفة، حسب تصوراته وتذوقه الخاص سعيًا منه ومحاولة للخلاص والفكاك من كل قيد .
الرقص صلاة!..
– تتواصل المقابلات والعناصر الغرائبية الموجودة داخل حياة الفندق يُقابل فيها مار كل رجلِ أو امرأة أو حتى طائر صغير، يُضيف لحساباته أمرًا جديدًا ويُطلعه على نفسه بشكلِ مختلف ومميز.
يكتشف مار الرقص ويتخده سبيلًا لفك الأسر الجسدي، ويحاول اتقانه ويعتنقه كصلاة جديدة تؤهله لتحرر جسدي جديد، تكون فيه المعلمة مادونا تهبط من لوحتها المُعلقة بالسقف لتراقصه، وتُلح عليه بمواصلة الرقص وتعلمه حتى ترك جسده بالهواء وتراقص مع الموسيقى بحرية.
– بوذا بداخله..
طوال الرحلة ومدة الإقامة بالفندق هناك صوت صاحب الغزالة، سليلها هو صوت العقل بداخل مار هو بوذا الحي بداخلنا جميعًا، ذلك الرجل القوي البنية الضخم الجثة، الذي يُعيد توجيهنا ورحلة إرشادنا إلى الصواب والعقل
كان هذا الضخم الباكستاني بودا أجابا، هو المنقذ والموجه لمار، وكأن بوذا بالفعل يعيش بعمق كل شخصٍ نحمله بداخلنا، تلك الخبرات والحكمة والفضائل تقبع بنا وتحتاج أيضًا للتحرر والصعود.
(نحن أجزاء هائمة في الكون تشتهي أن تلتصق أو تنفصل)
(الضوء كي تنظر، أما الشمعة فلكي ترى)
(لا تُضيع متعة.. ولا تنسى فضيلة).
هذا التشظي والانفصال الذي يعانيه البطل ماهو إلا حالة ستقوده بالفعل لمحاولة الاجتماع والالتصاق والترابط
تنتهي الرواية بمشهد للبطل يسبح بالماء المالح متخلصًا من كل ملابسه مُحققًا نبوءة شاطئ العراة، تضمه ربات الإلهام خاصته مثل زهرة اللوتس يضموه ويرفعونه لأعلى
تناديه نيرفانا أن يصعد أعلى النمر وتمد له أذرعها الثمانية، وتخبره بالحب وحده تمسك أياديّ الثمانِ….
يهبط جسده ويعلو ويتراقص ببلاهة دون احتساب، حتى أن بودا أجابا يشاركهم اللهو متراقصًا هو وغزالته
يسبح وينتشي ويذوب بفمه الماء المالح.
تطارده كل قيوده أبوه الهارب ضفدعه المدير، شيخه الشهواني، غضبه وأحلامه
( أنا بناء هش من ألف قصة وألف رحلة وألف أغنية وألف إحساس).
كما قال فؤاد حداد: من ألف حي وحي من ألف عام وأنا عايش في الزمن الجي.
الكاتب قدم لنا خدعة الوقت والزمن، وهذا التغييب الزمني هو لعبة الكاتب الذكية لفصلنا عن أي تشتيت لجعلنا نعلق برحلته دون النظر لأي مشتت، وأيضًا لأن مار هو بطلنا المغترب العالق في الزمن، الهارب كالفئران داخل خيالاته وأطيافه الحسية.
بالنهاية يُغلف الكاتب الرواية بطابعٍ صوفي يكسر فيه مار قيد الجسد وعار الخوف ويتعرى كاملًا جسدًا وروحًا
( إن الأرواح التي تكسر قيد حبس الماء والطين، تكون سعيدة القلب).
فهل وصل مار لسعادة القلب؟ أم لازال عالق في خدعته الزمنية
فإذا نادت روحه فكله مسامع، وإذا تبدت له فكله أعين!!؟
الإجابة تكمن بداخلنا..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية