أفين حمو
عندما بدأتُ في قراءة رواية “دانشمند” للكاتب “أحمد فال الدين” ، شعرت أنني دخلت عالماً يمزج بين الرحلة التاريخ والرحلة الروحية، حيث وجدت نفسي في عمق شخصية الغزالي، ذلك الفيلسوف الذي عاش رحلة مضنية بين صراعات النفس والبحث عن المعنى.
لم تكن هذه رواية تقليدية، بل كانت تجربة إنسانية عميقة تحاكي الأسئلة الوجودية التي تملأ قلوبنا جميعًا.
بدأت القصة في طوس، حيث ترعرع الغزالي مع أخيه أحمد وسط ظروف قاسية بعد فقدان والده، وفي كنف أمٍ تحمل هموم الحياة وأحلام أبنائها. جسدت هذه البيئة القاسية عذابات الإنسان الأولية، وغذّت أسئلة الغزالي الوجودية عن جوهر الحياة.
جاءت اللغة التي استخدمها الكاتب لغة شاعرية كنسيم عذب، مفعم بالعواطف والأحاسيس، حيث نبضت الكلمات بالحياة وغمرتنا في تجربة الغزالي الفكرية والروحية.
مع انتقاله إلى بغداد، أصبح الغزالي جزءًا من عالم فكري ملتهب.
برزت في الرواية مشاهد الصراع الفكري بين الشك واليقين، والحقيقة والوهم.
وعانى الغزالي صراعًا نفسيًا عميقًا، دفعه إلى السفر متخفيًا بثوب درويش من بغداد إلى دمشق، ومن ثم إلى بيت المقدس، قبل أن يعود إلى دمشق مرة أخرى ثم إلى بيته بعد أن تلقى رسالة من زوجته بعد غيابٍ دام أكثر من سنتين، مما زاد من وطأة الألم والشوق في قلبه.
في تلك الرحلة، يشعر القارئ أنه يشارك الغزالي كل خطوة من خطواته، كل لحظة من الألم والشغف.
سنرى العالم من خلال عينيه، كما لو كنَا نرافقه في تلك المسالك الوعرة، مستشعرين حيرته، ومعاناته، وانتصاراته الصغيرة في محاولته البحث عن المعنى وسط كل تلك الفوضى.
تصل لحظات الألم إلى ذروتها في الرواية عندما غزا الصليبيين بيت المقدس، حيث قُتلت الشيخة الشيرازية وطالباتها، وقُتل عدد كبير من العلماء والأبرياء بطريقة وحشية، بينما انشغل العرب بصراعاتهم الداخلية.
وكأن الرواية بذلك تفتح جرحًا مشتركًا، حيث أعاد التاريخ تكرار نفسه، في الأمس كما في اليوم، انشغلت الأمة بتفاصيلها الصغيرة بينما هددت قوى أكبر كل شيء حولها.
ولاشك أن هذا المشهد القاسي في الماضي يُشبه ما نراه اليوم في الحاضر، حيث استمر انشغالنا بصراعات داخلية بينما تزايدت التحديات من الخارج.
في نهاية الرواية تصل رحلة الغزالي إلى ذلك الختام مأساوي، حيث يموت مسمومًا على يد أحد أفراد جماعة الحشاشين الذين سعوا لقتله أكثر من مرة، خاصة بعدما نادى للجهاد وعدم الاستسلام لأوامر الحكام، مما يتركنا أيضًا مع تساؤلات هامة حول مصير العقول اللامعة في زمن الفوضى.
لم تكن تلك النهاية مجرد حدث، بل كانت رمزية لعذاب الفيلسوف الذي سعى دائمًا إلى الحقيقة، لكنه لم يستطع الفرار من قسوة الواقع وتأمر المتآمرين.
إن تأثير الغزالي على الفكر الإسلامي لم يكن مجرد لحظة تاريخية عابرة، بل كان بمثابة نبراس ينير دروب الفكر والتأمل للعديد من الأجيال اللاحقة. قدّم الإسلام كفكر عقلاني يربط بين الروح والعقل، مما جعله ركيزةً مهمة في زمننا الحاضر. ومن خلال شخصياته المساندة، مثل زوجته وأصدقائه الذين كان لهم دور في دعمه خلال أوقات الضعف، رأينا أهمية الروابط الإنسانية في مسيرة البحث عن المعنى.
عكست اللغة الأدبية المستخدمة في الرواية عمق المعاناة والتأمل، حيث امتزجت المشاعر والذكريات بأسلوب يجمع بين الشاعرية والغموض، ليترك أثرًا عميقًا في القارئ.
كما ساهمت الصور والأحداث والمواقف التي رسمها أحمد فال الدين بعناية في نقل الأحاسيس بشكلٍ عفوي وفوري، مما يجعل القارئ يشعر بأنه جزء من تلك الرحلة.
“دانشمند” لم تكن مجرد حكاية عن حياة الغزالي، بل كانت من جهة أخرى تأملًا واسعًا في رحلة الإنسان المعاصر، وصدى لجراح هذه الأمة التي لم تندمل بعد.
لقد كانت دعوة لنا لنتساءل مع أنفسنا ماذا يعني أن نكون عازفين عن عالم مليء بالضجيج؟
ومتى نتوقف لنبحث عن المعنى الحقيقي في خضم الفوضى؟
وفي النهاية، يبقي السؤال الأهم: هل نستطيع تجاوز صراعاتنا الداخلية لنعيد بناء ما تمزق من وحدتنا في وجه ما نراه من التحديات والصراعات الخارجية المحيطة بنا من كل صوب؟!
رواية “دامنشمد” هي الرواية الثالثة للإعلامي والروائي الموريتاني أحمد فال الدين، كتب قبلها عددًا من الروايات التي لفتت الأنظار خاصة لاستحضاره الشخصيات التاريخية في أعماله الروائية حيث كتب عن الجاحظ رواية “الحدقي”، وكتب رواية “الشيباني” التي تتناول حياة شخصية واقعية تدور بين قطر وموريتانيا، كما كتب عن أفغانستان و تجربة الملا عمر في كتابه “حجر الأرض” وغيرها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية