“دائرة الأسباب” .. حين تتحرك الحياة كشبكة من الأسباب

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
تجربة شعرية وفلسفية  متكاملة، حيث تتشابك اليوميات مع التأمل الكوني، والأنوثة مع الطبيعة، والموت مع الحياة، والزمن ليس خطيًا بل دائري.

في «دائرة الأسباب» لمروة نبيل، ثلاثة وأربعين قصيدة تتقاطع فيها المدينة والطبيعة، والحياة اليومية مع التأمل الكوني، حيث الحب والموت والصمت والصخب يتحركون في شبكة واحدة لا تنتهي. كل قصيدة دائرة من الأصوات، الأجساد، والأحداث، كل شيء مرتبط بدائرة لا تنتهي، كل سبب يولد أثرًا، وكل فعل يترك أثره فينا.

منذ البداية مع قصيدة «غضب الطبيعة»، تصنع مروة نبيل تجربة حضورية صارخة، حيث تتحرك الشخصيات اليومية ضمن صخب المدينة تنتظم الحياة في شبكة معقدة من الأسباب والنتائج، كل فعل وكل شعور مرتبط بما قبله وما بعده.

حضروا جميعًا، من ذهبن إلى الأسواق على عجل، من غسلوا مئة سيارة في نصف ساعة، من فتحوا الدكاكين ونثروا بضائعهم، من تركوا هذا الصخب وناموا

 ليست المدينة هنا مجرد فضاء، بل كائن حي يتنفس، يتأوه، ويخبرنا عن صخب الروتين وعنف الحياة اليومية، عن الضجيج والخضوع، عن الصمت والتمرد.

الليل يحضر دون أن تكترث الشمس، الظل الذي من دونه لا يرتسم المكان، الهواتف على الوسادات، أجراس الأبواب، بكاءات ليلة القدر، منتظرات الغوث السماوي

كل شيء في الديوان  يسير ضمن دائرة مستمرة، كل سبب يولد أثرًا، وكل أثر يفتح دائرة جديدة من المعنى.

في «صباحات الحرب»، يتحول كل فعل يومي إلى درس فلسفي عن القدر والإرادة فتقول:

كان الله في الخدمة منهك الذهن، يسب أولاده، ينشر الغسيل متجاهلًا القصف، يطعِم الدجاجات مثل أوغسطين حين كتب اعترافاته، يوزّع الهواتف بعد منحها لمسة حياة بإصبعه، يكلف ملاكًا بمساعدة طفلة على التنفس

ملائكة آخرون يكتمون أنفاس الرُّضع، ذلك واجبه، أن يوزّع الرحمة بلا عدل، نفد مخزونه من الموت الرحيم فصار يقتل بلا شفقة، خرجت الأمور عن السيطرة.

الرب لا يبكي، لا يفكر إلا في الصداقة والحب، يتسلط على مخلوقات الأرض، ولا سلطة له على مخلوقات البحر، وإلا ما أمر لشجرة اليقطين أن تنبت إلى جوار جسد يونس المهترئ بدلًا من أن يجفف بطن الحوت

وهكذا، تتقاطع القداسة واليوميات، وتتشابك الحرية البشرية مع القوى الميتافيزيقية في دائرة لا تنتهي.

الأنوثة تأخذ مكانها المركزي في الديوان، هي قوة، تمرد، إبداع، وغموض.

من يعشقن أزواجهن، ويغتصبن شركاءهم، الساحرات، مستخدمات العود والعنبر في الجلب والتفريق على السواء

المرأة هنا ليست مجرد شخصية، بل رمز للحياة وللموت، للحب وللغضب، للقدرة على إحداث التغيير في دوائر العالم، مثلما تتحرك المدينة والشمس والزمان ضمن شبكة مترابطة من الأسباب، كل فعل، كل حركة، كل شعور هو جزء من دائرة أكبر، دائرة تجبرنا على النظر إليها بعين الوعي.

الدائرة الزمنية والتكرار تتجلى في «إلى شيمبورسكا، إيتل، وسيلفيا»:

كل شيء يحدث مرتين، نزلت النهر نفسه مرتين، وهاجمني التمساح نفسه مرتين ” هنا الزمن ليس خطيًا، بل دائري، والوعي البشري جزء منه، متأثر بكل حدث ومشارك فيه.

وفي «عالَم جديد» و«متحف المساعي العبثية» تتشابك اليوميات مع الفلسفة:

تُقايضين الشمس، كم إلهامًا يأتي ويضيع؟ تعرفين أن من الآلات آلهة وأنبياء “

” أشبه ‘فيرجينا’ حارسة المتحف، حولاء العينين، بنظرتها المنحرفة كتعليق ساخر “

كل الأشياء اليومية، كل الروتين، كل الرموز الفنية تتحول إلى تأمل عن الحياة والموت والإبداع، وكل فعل له وزن كوني ضمن الدائرة.

الذاكرة، الطفولة، والحواس تتقاطع في نصوص مثل «ثَلج» و«حلم يقظة» و«جزيرة النوم»:

أبواي، كيف صممتما لي العالم؟ ألم أكن زرعًا وشجرًا؟ ألم أكن برائحة الخوخ؟ “

” شاحنة في مستطيل، وقف سائقها يشرب شايًا في الظل، رجل يتعب كي أناديه ‘حبيبي’، لا موجات في الحلم، ولا داخلي متجمد “

وهكذا تتحول كل هذه التفاصيل اليومية إلى رموز كونية، تتداخل مع الأحلام والوعي الداخلي، لتعيد إنتاج العالم في كل مرة بطريقة جديدة.

الموت والحب يتشابكان في الديوان:

أدركتك الشيخوخة وأنت تدمر مدينة قلبي، بائس وأنت تضيع بؤس التواجد، بؤس توليد الصور، بؤس تكرار الكلام

كل تجربة، كل فقد، كل رغبة هي جزء من شبكة أكبر، جزء من دائرة تتحرك بلا توقف، جزء من دورة الحياة نفسها.

وأخيرًا، القصيدة التي تحمل اسم الديوان، «دائرة الأسباب»، تجمع كل الرموز والخيوط السابقة:

دائرة الأسباب، سيدة السلاسل، القدوسة المهيمنة، من دوّخت العالم؛ كم ثعبانًا في اللوحة؟ “

كل النصوص السابقة تصبح جزءًا من هذه الدائرة الكبرى، كل سبب يولد أثرًا، وكل أثر يفتح دائرة جديدة من المعنى، تعكس فلسفة الشاعرة حول ترابط الحياة والأحداث، وتمنح القارئ فرصة للتأمل في شبكة لا متناهية من الأسباب والنتائج، حيث كل شيء مرتبط بكل شيء، والحركة مستمرة بلا بداية أو نهاية.

ديوان «دائرة الأسباب» لمروة نبيل  تجربة شعرية وفلسفية  متكاملة، حيث تتشابك اليوميات مع التأمل الكوني، والأنوثة مع الطبيعة، والموت مع الحياة، والزمن ليس خطيًا بل دائري.

اللغة في الديوان تجمع بين الجمال الشعري والإيحاء العاطفي وبين القدرة على التفكير والتأمل، فهي تحرك المشاعر وتثير الوعي في الوقت نفسه، والرموز تتشابك بين اليومي والمقدس، بين الفرد والكون.

كل فعل، كل شعور، وكل حدث مرتبط بدائرة أكبر، دائرة الأسباب التي تحرك كل شيء، بلا توقف، بلا بداية أو نهاية، متصلة في كل لحظة، في كل نفس، وفي كل قلب. 

دائرة الأسباب هو التجربة الخامسة في مشروع الشاعرة مروة نبيل، صدر لها من قبل دواوين “ضد اليومية” “سرير فرويد” وغيرها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدر مؤخرًا عن دار صفصافة 

مقالات من نفس القسم