“برج الصفوة”… الشبح الذي ينام في قلبك!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أفين حمو 

ليست كل الروايات تُكتب بالحبر. بعضها يُكتب بالخوف، بالبقع السوداء التي تتركها الأرواح حين تمرّ على الجدران، بالظل الذي يسبقك في الممرات الفارغة. رواية “برج الصفوة” للكاتب أسامة حداد ليست عملًا فنيًا بقدر ما هي مصيدة. تدخلها لتقرأ، فتجد نفسك محاصرًا في طابق لا رقم له، في مبنى لا يمكنك مغادرته إلا إذا صرتَ واحدًا من سكّانه… أو من أشباحه.

منذ أول صفحة، تشعر أن الرواية لا تنتظر قارئًا بل فريسة. شيء ما في السرد يجعلك ترتبك، وكأنك تقرأ اعترافات كائن غير مرئي جلس على صدرك ذات حلم. لا تسير الحكاية كما تشتهي، بل كما يخشاها العقل. هناك:
أنا هنا غريب في هذه الشوارع وأحب الغرباء مثلي، أجد نفسي في قسمات وجوههم منذ جئت إلى هنا أبحث عن طريقة مختلفة للحياة“.

قاتل لا يكتفي بإنهاء الحياة، بل يُبقي الضحية معه، يجرّها كشبح، كندبة. وكأن كل جريمة ليست نهاية، بل بداية لقصة جديدة لا تُروى إلا بلغة الظلال.

برج الصفوة ليس برجًا هندسيًا، بل بناء داخلي من الرعب والتواطؤ. كل طابق فيه يفضح شيئًا. وكل ضحية تسلّم قاتلها مفتاح بابها. لا نعرف كيف نحب هذا الغريب، لكننا نُدرك تمامًا كيف نخافه. ليس لأنه قاتل، بل لأنه نسخة منّا، تسللت من مرآة مشروخة وقررت أن تسكننا بصمت.

وفي لحظة شبه أسطورية، يصبح أحد ضحاياه صديقًا له. لا يموت، بل ينضم إلى مهمته. مشهد كأنما استُقطع من طقوس سرّانية، حيث تختلط النجاة بالخيانة، ويصبح الامتنان عملة زائفة في جيب ميت. كان يكفي أن يقول الكاتب: “الأشباح لا تُطالَب بالمسؤوليات”، لتفهم أن بعض الأرواح لا تريد العدل، بل فقط دورًا في المذبحة القادمة.

لا يسير الزمن في “برج الصفوة” إلى الأمام، بل يلتف كأفعى، يبتلع ذيله ثم يلدغك من جديد.

ولعلّ أكثر ما يربك القارئ – ويُبقيه في قبضة الرعب – هو أن اللغة نفسها تتواطأ مع الظلال…

لغة الرواية لا تنحني للإغواء البلاغي الرخيص، بل تسير على حافة هاوية، بين فخّ الزخرفة وفجوة الجفاف، كأنها تتعمد أن تبقى مشدودة كوتر كمان، لا يلين إلا عند اللحن الأخير. هي لغة تعرف متى تهمس، ومتى تلسع، ومتى تنسحب لتتركك وحدك في مواجهة الصمت. لا تتكلف الفصاحة، بل تتقن فنّ التسلل. جُمل قصيرة كطلقات، ولكنها محشوة بشظايا فلسفية. أحيانًا تشعر أن السرد كُتب بمبضع جرّاح لا بقلم كاتب.

الرواية لا تعتمد على جماليات اللغة بقدر ما تعتمد على قوة الصياغة، على النبض الخفي خلف كل عبارة، كأن كل جملة تمر عبر مصفاة داخلية لا تسمح إلا بما يوجع أو يحرّك. لا تصرخ، بل تهمس في أذنك بما يُربك يقينك.

مثلما أن برج الصفوة لا يُشيَّد بالطوب وحده، بل بالأسرار والامتيازات والمصالح، فإن لغة الرواية مشغولة بطبقات المعنى، كأنها مبنى آخر موازي للرواية، خريطةٌ من التلميح أكثر من التصريح. لغة تعرف متى تتجمّل كفتاة نبيلة في حفل تنكّري، ومتى تخلع أقنعتها لتكشف عن قبحٍ بشريّ لا دواء له.

لكن الرواية، بخبثها الفلسفي، لا تكتفي بالسير نحو الهاوية، بل تجعل بطلك يحاول النجاة. في مشهد مدهش، تحاصره الشرطة. لا يطلق النار، لا يستسلم. بل يربط نفسه إلى عمودٍ خرساني بسلسلة عربة، ويرمي بجسده من أعلى البرج. لا نعرف ما هو أشد رعبًا: سقوط الجسد، أم انفجار الشبح الذي فيه. الموت هنا ليس خلاصًا، بل اقتراحًا آخر للبقاء:

قرر بثبات فلن يُتركهم يظفرون به، أو يمنحهم فرصة اكتشاف حقيقته والاحتفال، فخفى من بداخله. وإن تحول لونه إلى الأسود وسقطت بعض أجزاءه، وسرعًا اتخذ قرار القبض عليه. سحب سلسلة حديدية كانت تعلق بها عربة لرفع المونة والحجارة وربطها حول عمود خرساني أدارها مرتين حوله، وقد ساقه بها كان عملًا شاقًا استغرق بعض الوقت.”

ثم في لحظة مفاجئة، يُكتشف أن البطل ليس هو فقط من يسير في المأزق، بل أنه يُحاصر من حقيقته العميقة:

وكان اسمه من بين الأسماء لأول مرة، فصرخت متحسسًا رأسي، وأنا أعيد قراءة ما كتبه، متسابقًا يتضاءل وينكمش بسرعة قبل أن يختفي.”

تختلط الذكريات بالحاضر، والأسطورة بالواقع، في لحظة قصيرة تُغير كل شيء.

الرواية لا تقتصر على سرد واحد، بل تتعدد فيها الأصوات، حيث تتنقل بين أكثر من زاوية نظر، كل واحدة تضيف طبقة جديدة من الحقيقة. هذا التعدد لا يُقدّم فقط تنوّعًا في وجهات النظر، بل يُعمق البُعد النفسي لكل شخصية، ويكشف عن العديد من الأسرار المخفية وراء الأقنعة التي يرتديها الأبطال.

أما النهاية، فلا يمنحنا الكاتب خلاصًا نهائيًا، بل يترك الباب مواربًا لاحتمالات متشعبة. فتظل الأسئلة تلاحق القارئ بعد أن يطوي الصفحة الأخيرة:
هل البطل هو الضحية أم الجلاد؟ هل كان عليه أن يظل حيًا ليكون شاهداً على جريمته، أم أن موته كان تجسيدًا لموتٍ آخر تسلل إلى لحظاته كلها؟
يترك الكاتب لكل قارئ تفسيره الخاص، ويُتيح له أن يُملأ الفراغات التي خلّفها عمدًا.

هذه ليست رواية رعب، بل رواية ما بعد الرعب. رواية الأسئلة التي لا تجد جوابًا إلا في تأخّر الرمش، في برودة الأطراف، في اللحظة التي تدرك فيها أن الشرّ لا يلبس قناعًا دائمًا، بل أحيانًا… وجهك.

أسامة حداد لا يكتب حدثًا، بل يُبرمج ذعرك. يمنحك قصة مشيّدة كبرج: كل طابق فيه ألم، وكل نوافذه تؤدي إلى الداخل. لغته صارمة كخريطة جريمة، مشبعة بجمل متقشفة لكنها تقطر سُمًّا جماليًا.

“برج الصفوة” هو دعوة مفتوحة للهبوط التدريجي نحو ما نخفيه. لا يهم إن كنت ضحية أو قاتلًا. في النهاية، كلّنا نُدرّب قلوبنا على التعايش مع الأشباح.

فهل رأيتَ اسمك على اللائحة؟ أم أنك ما زلت تنتظر طارقًا يوقظك من الداخل؟
أم أنك كنت أنت الطارق… منذ البداية؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم