أفين حمو
في المجموعة القصصية الأولى للقاص عبد الله محمد” بحر لا ينشق” عشرون قصة قصيرة تحمل عناوين توحي بالوجع الإنساني والبحث عن معنى وسط الفوضى: الاختيار، الانتظار، الساعة، حلم، البطة المرحة، الفأر، أرق، الرقص على السلم الموسيقي، بحر لا ينشق، نعاس، ليل داخلي، عتمة، غثيان، سحابة، رمال، صديق الكلاب، صندوق القمامة، صلاة المغرب، غياب.
يمكن أن تعد كل قصة هنا بمثابة نافذة صغيرة تطل على قلب الإنسان، حيث تتشابك المعاناة مع الرغبة في النجاة، وحيث تكون التفاصيل البسيطة هي البطل الحقيقي.
في “بحر لا ينشق”, نحن أمام قصص تلتقط تفاصيل الحياة اليومية ببراعة، لكنها لا تكتفي بالسرد السطحي؛ بل تغوص عميقًا في أوجاع النفس البشرية ومآزقها الوجودية. تبدأ المجموعة بمقدمة افتتاحية تلخص جوهر العمل وتختصر وجع الإنسان:
“نستبق الأحداث، نقف على ناصية الأمور، وكلما داهمنا الطوفان لا نعتصم بجبل ولا نقفز في سفينة. فقط… نغرق كل يوم بهدوء.”
تُفتتح المجموعة بقصة “الاختيار”, حيث يُسلَّط الضوء على معضلة الإنسان في مواجهة خيارات تُفرض عليه دون مراعاة لرغباته، حيث يقول:
“لا تجادل…
لم أستطع، أخبرته أنني لا أريد سوى ما طلبت، وهذا من حقي.
قال: الخياران أمامك.
بكيت، هو يعلم ما أريده بالضبط. لقد عشت حياة لا عدل فيها على أمل.
قال محذرًا: لا تجادل، ستفقد كل شيء.”
ثم تأتي قصة “الانتظار” لتطرح تساؤلات وجودية حول العمل والحياة في ظل التطورات التكنولوجية. بين الحلم بمستقبل لا يعتمد على “المعارض البشرية” والواقع القاسي، نجد شخصيات القصة عالقة في دوامة من الحوار الذي يكشف هشاشة الإنسان أمام الواقع.
يميل عبد الله إلى خلق مشاهد قصيرة لكنها مليئة بالتفاصيل الرمزية، مثل قصة “نعاس”, الفتاة التي نامت في الشارع وسط حارة ضيقة، لتصبح رمزًا لحالة الانهيار الخفي الذي يعيشه الكثيرون.
وفي قصص مثل “سحابة” و “حلم”, نجد تكرارًا لفكرة السقوط، التكرار، والسعي وراء المستحيل. هذه القصص تضعنا أمام حالة من العبثية، حيث الإيحاءات الرمزية تعكس تشوش الإنسان أمام تعقيدات الحياة والوجود.
الشخصيات في “بحر لا ينشق” هي انعكاسات حية لهواجس الإنسان الحديث، لكنها ليست أسماء أو وجوهًا محددة؛ بل تبدو كأنها رموز تتحدث عن كل فرد منا. الكاتب لا يقدم شخصيات مكتملة الملامح، بل يركز على جوانب معينة من تجاربها النفسية، كأنها شظايا من حيوات متناثرة.
معظم الشخصيات تبدو مأزومة، غارقة في دوامة الصراع مع الواقع. في قصة “الاختيار”, الشخصية الرئيسية تمثل الإنسان المجبَر على اتخاذ قرارات رغمًا عنه، حيث نشعر بضعفه وعجزه أمام سلطة الخيارات القسرية.
أما في قصة “صندوق القمامة”, الشخصية الأعمى الذي يعد النجوم هو رمز للإنسان الذي يحاول إيجاد معنى في عالم يبدو عبثيًا، بينما في قصة “صلاة المغرب”, نجد شخصية تبحث عن الخلاص الروحي في مكان بعيد، مما يعكس حالة الإنسان الذي يسعى للراحة والتوجيه وسط الضياع.
البيئة في هذه القصص ليست مجرد مكان مادي، بل هي حالة نفسية تنعكس على المكان. في قصص مثل “سحابة” و “نعاس”, يكون المكان مغلفًا بالحزن والضياع، وكل زاوية فيه تعكس حالة الشخصيات الداخلية. حتى الأماكن التي قد تبدو عادية، مثل الشوارع الضيقة أو المساجد المهجورة، تصبح رمزًا للتشويش واللاجدوى.
ولعل قصة “صندوق القمامة” من أكثر القصص المؤثرة في المجموعة، ربما لأنها تكشف هشاشتنا كبشر، ونحن نتعامل مع العبثية والعزلة بخليط من الضحك والقسوة. صورة الشيخ الأعمى وهو يعد النجوم ثم يتذكر فجأة أنه أعمى تركتني أمام صمت طويل.
هل نحن جميعًا نعد نجومًا لا نراها؟
هل كل ما نفعله محاولات لاجتياز لحظات السكون؟
في قصة “صلاة المغرب”, نرى منحًى فلسفيًا وروحانيًا، حيث يبرز شخص يبحث عن مسجد السيدة زينب لتحقيق أمنياته. المحاولة اليائسة للعثور على المسجد تنعكس على محاولة الإنسان في البحث عن معنى أو خلاص، لكن النهاية تتركنا أمام شعور باللاجدوى.
في نهاية المجموعة يقول الكاتب:
“نبحث عن مخرج بمبررات تستحق الذكر… نفقد أسماءنا في الطريق، نفشل في محاولات التخطي،
التخلي عن ذواتنا، إيجاد معنى مرضٍ. نفقد أسماءنا ومعنى… نفقد كل شيء.”
هذه الخاتمة تجسد الفكرة المحورية للعمل: صراع الإنسان في محاولة إيجاد معنى وسط الفوضى، وكأنه يقول: “هذا هو الحال. لا مفر من الغرق، لكن المهم أن تواصل البحث عن النجاة.”
“بحر لا ينشق” ليست مجرد مجموعة قصصية؛ إنها مرآة تعكس الغرق الإنساني في تفاصيل الحياة اليومية. بأسلوب يمزج بين التكثيف السردي والصور الرمزية، الكلمات ليست مجرد سرد بل أقرب إلى همس. وكأنه يقول: “هذا نحن.” ضائعون في محاولة فهم الحياة، ودعوة للتأمل في هشاشة الإنسان وقدرته على العيش وسط هذا البحر الذي لا ينشق. قد تنتابنا لحظات نشعر فيها بالغرق، ومع ذلك نواصل السباحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة سورية، المجموعة صادرة مؤخرًا عن دار المرايا 2025