أفغانستان .. هل ستشرق شمسك يوماً ؟!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
الرواية من حيث البناء تختلف عن الأولى (عدَّاء الطائرة الورقية)، وبالطبع القصة مختلفة، لكن يظل المكان (أفغانستان) هو البطل.

ها هو خالد حسيني يبهرنا مجددًا في رائعته المفجعة “ألف شمس مشرقة” الصادرة بالإنجليزية عام 2007، والصادرة بالعربية عن دار دال – سوريا عام 2010، ترجمة مها سعود.

تتكون الرواية من ثلاثة أقسام تحوي 51 فصلًا، القسم الأول هو حكاية مريم، والثاني حكاية ليلى، والثالث حكايتهما معًا.

الرواية تجسيد لمأساة المرأة الأفغانية التى إن نجت من سيطرة المجتمع الأبوي، فلن تستطع مقاومة رائحة الموت سواء في عهد الإحتلال السوفيتي أو في الحرب الأهلية التي من الممكن أن تكون فيها ضحية فصيل جهادي مغاير يغتصبها أحدهم، فتُعاقب بالقتل (جريمة شرف) من قبل زوجها أو والدها غاسلاً العار! أو في أفضل الأحوال تصبح أرملة أو أم ثكلى، تضطرها الحاجة للتخلي عن أطفالها في ملاجىء الأيتام، أو أن تهرع للمخيمات، تنتظر في كل لحظة الموت بردًا أو جوعًا، أو تتحول لغانية كي تسد رمقها، وإن إختارت شكلًا آخر من الموت، فينتظرها بكل شوق بقمع ما تبقى من إنسانيتها باسم الدين في الممارسات الوحشية لطالبان.

إنها حكاية امرأتان، مريم وليلى، على الرغم من خلفيتيهما المختلفتين تمامًا، إلا أنهما “متساويتين بؤسًا”؛ فالأولى ولدت عام 1959 في هيرات، وهي ابنة غير شرعية لأب فاحش الثراء، يتخلى عنها ويتركها تعيش في كوخ هي وأمها التي كانت خادمته في وقت سابق، ولم يكتف بذلك، بل زوَّجها عنوة لرجل يكبرها بـ 30 عامًا، ليتخلص من هذا “العار”، أما الثانية فقد ولدت عام  1978، في كابول لأم عصرية وأب مثقف، هادىء الطباع، يعمل بالتدريس، يغمرها بكل الحب. لكن نتيجة لظروف عدة تتشاركان الرجل نفسه.

تبدأ احداث الرواية فعليًّا من عام 1974 (كانت مريم تبلغ حينها 15 عامًا) وحتى 2003 (بعد إعدام مريم بعام واحد). لكن هناك ذكريات يتم استدعائها دومًا من تواريخ قديمة تمتد لعام ولادة مريم (1959).

الرواية من حيث البناء تختلف عن الأولى (عدَّاء الطائرة الورقية)، وبالطبع القصة مختلفة، لكن يظل المكان (أفغانستان) هو البطل.

ليلى في الرواية تجسيد للبلد المكلوم، الذي انتقل من الشيوعية، حيث كانت النساء تتمتعن بقدر معقول من الحرية، حرية التعلم، ممارسة مختلف المهن، حرية الملبس (في العاصمة تحديدًا)، وفجأة تقوم القيامة، فتنشق الأرض عن المجاهدين، ويصبح اسمها “الجمهورية الأفغانية الإسلامية”، ليقتلوا في 4 اعوام 50000 من السكان، ثم من بعدهم تأتي طالبان التي تقضي على أي مظهر للحياة، فيصبح اسمها “الإمارات الإسلامية الأفغانية”.

ربما هنا إعادة إعتبار جزئي للإتحاد السوفيتي متمثلًا في سياساته الشيوعية، التي تمثَّلَت في الفترة القصيرة للرئيس نجيب الله، تلك الفترة التي تمتعت بدعم سوفيتي خالص، يقول (بابي) لابنته ليلى: “إنه وقت جيد لتكوني امرأة في أفغانستان”، فقد تمتعت ليلى منذ مولدها الذي ميَّزه إستيلاء الحزب الشيوعي على مقاليد الحكم بعد ثورة ساور الدموية، وحتى بلوغها الـ 14 عامًا، بأزهى عصور أفغانستان في التاريخ الحديث، تقول ليلى: “كان بابي يعتقد بأن شيئًا واحدًا فعله الشيوعيون كان صحيحًا أو على الأقل يقصدونه، كان حقل التعليم، راعت الحكومة تعليم كل النساء القراءة والكتابة، على الأغلب ثلث الطلاب في جامعة كابول من النساء الآن”.

لكن الكاتب سرعان ما يعود لقناعاته السابقة – وربما لا وعيه – والتي أوضحناها في روايته السابقة، فما من كلمة انتقاد واحدة للغزو الأمريكي عام 2001 سوى عبارة: “عندما تتوقف قنابل بوش عن السقوط” (قاصدًا بوش الابن)، عدا ذلك فأمريكا يقدمها الروائي على أنها الملجأ والملاذ (يفكر بابي بالجوء إليها هربًا من الحرب الأهلية)، وهذا ما يجعلنا نقول أنه أخفى، وعن قصدية، الخسائر في أرواح المدنيين العُزَّل في قرى وشوارع أفغانستان سواء في غارات أمريكية أو لحلف الناتو، رغم أنها موثقة ومكتوبة في الجرائد العالمية وحتى الأمريكية منها، تلك الحرب التي ناهضها مواطنون أمريكيون! إذ لا تستطيع، رغم موهبة حسيني المميزة في السرد، وإستخدامه لعنصري التشويق والمفاجأة، وربط الأحداث والأشخاص ببعضها ببراعة، أن تتقبل أو تغفر فِكره المراوغ، المتجاهل عن عمد واضح إجتياح أمريكا لأفغانستان وفظاعات هذا الغزو، خاصة أنه أفرد صفحاته لسرد كل ما واجه أفغانستان من حروب ودمار بمنتهى الإسهاب والدقة، فتحدث عن الغزو السوفيتي، ثم الحرب الأهلية (بين الجهاديين السابقين)، وأخيرًا طالبان!

هناك تيمات متكررة عند خالد حسيني نجدها في هذه الرواية وسابقتها: الابن غير الشرعي، الأب الثري الذى يلفظ الابن، فكرة التكفير عن الذنب، الفقرات التاريخية التي تشمل الكلام عن أماكن بعينها توضح تاريخ أفغانستان (هيرات – شاهير إي زوهاك – باميان).

أيضًا تقديمه لطالبان والملالي (معلمي الدين) الذين شكلوهم، على أنهم النموذج الأسوأ للتطرف الديني، ولكن هذه المرة بشكل مفَصَّل. نشأتهم: “شباب الباشتون الذين هرَّبوا عائلاتهم إلى باكستان خلال الحرب ضد السوفييت. اغلبهم نشأوا وبعضهم ولدوا في مخيمات للاجئين على طول الحدود الباكستانية وفي مدارس باكستانية درسوا بها الشريعة على يد الملالى. كان قائدهم غامضًا، أميًّا، منعزلًا وذي عين واحدة، اسمه الملا عمر”، قوانينهم: “هذه القوانين التي ستُفرض وسوف تستجيبون لها: كل المواطنين يجب أن يصلوا خمس مرات في اليوم. إذا كان وقت الصلاة وكنتم تقومون بشىء آخر، فسوف تجلدون. كل الأولاد سيلبسون العمائم، كل الأولاد سيرتدون اللباس الإسلامي، الغناء ممنوع، الرقص ممنوع، لعب الورق، لعب الشطرنج، القمار، الطائرات الورقية ممنوعة، كتابة الكتب، مشاهدة الأفلام، ورسم اللوحات ممنوع، إذا كان لديكم طيور الببغاء فسوف تجلدون، وطيوركم ستقتل، إذا سرقتم، ستُقطَع أيديكم من الرسغ، وإذا سرقتم مرة أخرى فسوف تُقطَع ساقكم، إذا كنتم غير مسلمين، فلا تتعبدوا حيث يمكن للمسلمين رؤيتكم، وإذا فعلتم، ستجلدون وتسجنون. إذا حاولتم تبديل مسلم عن دينه، فسوف تعدمون”. مُلَّا واحد فقط كان نموذجًا مختلفًا .. نموذجًا إنسانيًّا بعيدًا تمامًا عن التطرف والغلو، كان المُلَّا فَيضُ الله، معلم مريم.

هنا تجدر الإشارة إلى محاولات الروائي الحثيثة للتأكيد على أنه على الرغم من عادات وتقاليد هذا البلد المنغلق، المتدين، لم يكن هناك مغالاة أو تطرف، حتى في وقت الحرب الأهلية للمجاهدين (بداية حقبة التطرف الديني)، إلا حينما ظهرت طالبان، فوالد “نانا” حين علم بحملها سِفاحًا، لم يفكر مثلًا فى قتلها، وليلى حينما ضاجعت طارق لم تَخَف من أي مصير ينتظرها، بل رفضت عرضه للزواج منها والذهاب معه، أيضًا كانت هناك حياة نابضة وطبيعية تتمثَّل في المسابقات والألعاب المختلفة ومشاهدة التلفاز.

نلاحظ أن الأطفال في روايات حسينى ليسوا بأطفال، لا يتحدثون ولا يتعاملون كالأطفال، أنضجتهم نار الحروب وفقدان الآباء وتشوهات الجسد، فأسقطت عنهم البراءة بشكل شبه كامل، ونجد هذا واضحًا على سبيل المثال في ردود أفعال عزيزة الإبنة حينما تذهب للملجأ.

المفردات والعبارات الدالة على قهر المرأة نجد منها الكثير؛ فـ نانا والدة مريم، السيدة المعتلة جسديًّا ونفسيًّا، التي أوصلها اللفظ المجتمعي إلى ملامسة حافة الجنون، حينما أعربت ابنتها عن رغبتها في التعليم، خافت عليها من معايرة الناس بأصلها، فرفضت طلبها بشكل قاطع،  موضحة لها حقيقة وضعها كامرأة أولًا وابنة غير شرعية ثانيًا: “هذا ما يعنيه أن تكوني امرأة في هذا العالم .. كما إبرة البوصلة تشير إلى الشمال، فإن اصبع الرجل يجد دائمًا امرأة ليتهمها”، “فقط مهارة واحدة لامرأة مثلك ومثلي نحتاجها في الحياة، التحمل، إنه قدرنا في الحياة، يجب على نساء مثلنا التحلي بالصبر”، وثانية تقول لها: “كل ندفة ثلج هي تنهيدة ثقيلة من امرأة محزونة في مكان ما في العالم. كل تلك التنهيدات التي تنساق باتجاه السماء تتجمع في الغيوم ثم تتساقط بهدوء على شكل قطع صغيرة على الناس، إنه تذكير بالنساء اللواتي يعانين مثلنا، كيف نتحمل بصمت كل الذي يقع على كاهلنا”،  “قلب الرجل مثير للأسى يا مريم إنه ليس كرحم الأم .. إنه لا ينزف الدم”. ثم مرة أخرى حينما يصف الكاتب دخول رشيد، الزوج الجديد، إلى حياة مريم، فيقول: “حقائبها بين رجليه”، “كان خاتمها ضيقًا جدًّا، ولكنه لم يجد صعوبة في إرغامه على الدخول فى إصبعها”.

كلمات مثل الأعشاب والجفاف جاءت في تكرارية ملحوظة؛ فالأعشاب دلالة على الأشخاص غير المرغوب فيهم، والجفاف دلالة على جفاف منبع الحياة وموت مظاهرها الواضحة.

هناك إيغال في الميلودرامية، وذلك حينما تختار مريم التضحية بنفسها وهي تعلم جيدًا أن طالبان سوف ينفذون فيها حكم الإعدام، حتى أن الكاتب يذهب بعيدًا حين يجعلها تُسقِط حقها في الإتيان بشهود. أيضًا حينما تذهب هي وليلى ليضعا الإبنة عزيزة في ملجأ للأيتام كي يؤمّنوا لها المأكل، في حين أنهما لم تفعلا الشىء ذاته مع زلماى الإبن. لكن تظل هذه المبالغات مقبولة فى سياق الرواية المؤلم، شديد الواقعية، كما أن شخصيات حسيني إنسانية وواقعية للغاية، يتنقل بسلاسة شديدة بينها، وكذلك بين الأمكنة والأزمنة المختلفة.

النهاية عند حسينى نجدها دومًا سعيدة، متفائلة، فـ ليلى في آخر صفحة تكتشف أنها تحمل بطفل من زوجها وحبيبها طارق. هذه النهاية دلالة على أن هناك ثمة أمل في أفغانستان جديدة، أيضًا هناك دومًا تلك الرغبة العارمة في العودة للوطن، بل هي عودة تحدث بالفعل لأبطاله مهما ابتعدوا، وتكون وسط المخاطر والأهوال وكأنهم غير عابئين بها، هم فقط يكترثون للأرض، للجذور، للتربة التي نشأوا عليها.

هناك يقين أن هذا سيحدث يومًا، أن يبرأ الوطن ويعود لسابق عهده، حتى أن “المرء لا يستطع عد الأقمار المشعة على سقوفها، أو الألف شمس المشرقة المختبئة خلف جدرانها” كما قال شاعر القرن السابع عشر، صائب التبريزي في إحدى قصائده واصفًا أفغانستان، والتي اقتبس منها الروائي اسم روايته.

مقالات من نفس القسم