ثم هناك رفيق فهمي الذي يعيش في دار للمسنين يرتبط بعلاقة تشبه علاقة الأبوة مع كبرياء ويدعوه لزيارته لكتابة سيرته الذاتية، التي نكتشف لاحقا أنها بمثابة وثيقة إثبات طريق كبرياء للبحث عن أبيه في كل الوجوه التي يعرفها، ونتبين لاحقا أن رفيق هو جده لأبيه الذي تنكر له مدى حياته.
وعندما يباغتنا السرد بموت درامي لنجوى بسبب مرض نفسي توهمت بسببه أن حملها سيتعرض للتلوث إذا تناولت اي طعام، مما جعلها تجوع إلى حد الموت.
هنا يفاجئنا فرغلي بمفاجأة كبرى تنقل السرد إلى مستوى آخر غير متوقع حيث يكشف لنا سيرة رجل يدعى (كاتب الكاشف) هو كاتب روايات فاشل، يعكف على كتابة الروايات دون أن يسعى لنشرها، هو الذي كتب النص، وعندما يشرع القاريء في التماهي مع التوجه الجديد للنص بوصفه رواية يسردها كاتب الكاشف، الذي يبدو هو أيضا عصابيا يعاني من الرهاب النفسي، ويكشف لنا عبر شيطان كتابته العديد من أساباب رهابه وحياته الغريبة وأيضا الكثير من الأفكار الفلسفية عن الوجود والحياة وفكرة الكتابة نفسها.
ثم نفاجأ، مرة أخرى، بمستوى جديد ينتقل إليه النص وهو نقل الواقع إلى الفانتازيا، حيث يفاجأ كاتب الكاشف أن نجوى، بطلة عمله الروائي، التي اختلقها من الخيال، هي شخصية حقيقية تطلب لقائه، وتطالبه بأن يتلف الرواية لأنها تفضح شخصيتها الحقيقية.
هنا تتحول رواية كاشف من مستوى الخيال إلى مستوى التنبؤ لأنها تعد بالنسبة لنجوى، وثيقة تنبؤية بمستقبلها، ولكنها تخفق في الحصول على المخطوط من جهة، وتتعرف على جيسيكا، عشيقة كاتب الكاشف الكندية المصرية، التي تساوم نجوى على أن يقوما معا بتصوير فيلم تسجيلي عن الحياة الداخلية لكل منهما،يقتضي أن يعيشا معا هي ونجوى لمدة ثلاثة أيام متخليتان عن كل ما يستر افكارهما او جسدهما ليناقشا كل ما يعن لهما من أفكار وخيالات عن الحب والجنس والحرية والعلاقات العاطفية والنوازع الحسية وغيرها، على ان يكون هذا الفيلم التسجيلي مقابل حصولها على الرواية.
تسرق جيسيكا النص من كاتب، فيفقد صوابه ويعيد كتابته من الذاكرة، ويصر على استكماله، حيث نرحل معه رحلة خاصة إلى كبرياء مرة أخرى وهو يحاول الوصول إلى سر كتب نجيب محفوظ، وتتداخل وقائع حياة جيسيكا ونجوى وكبرياء وكاتب في الواقع مع مصير أبطال رواية كاتب الكاشف، بل ومع مصائر أبطال من روايات نجيب محفوظ نفسه بل ومع طيف محفوظ الذي يظهر كأسطورة.
وهذه هي الخطوط العريضة للنص، بينما التفاصيل كثيرة جدا ويصعب إحصائها في عرض هكذا، وتكشف الجهد الكبير الذي بذله فرغلي في كتابة هذا النص الذي يعد نصا تجريبيا على أكثر من مستوى، وتجربة جديدة في بناء الرواية المعاصرة، تعتمد على البناء والهدم، في متوالية لا تنتهي تذكرنا، في تبنيها لواقعية سحرية عربية، أنها تعود إلى التراث العربي القائم على توالد الحكايات كما هو شأنه في الف ليلة وليلة.
تقدم الرواية، بين العديد مما تقدمه من تيمات، سؤال عن الهوية تفتتحه بضياع كتب نجيب محفوظ، ثم تعيد تدوير السؤال عبر بحث كبرياء عن هوية ابيه المجهولة، ومرة أخرى عبر مذكرات الجد رفيق فهمي، بالإضافة إلى شخصيات نجيب محفوظ نفسها وبينها شخصية رادوبيس، بطلة الرواية التي تحمل العنوان ذاته والتي تعد واحدة من ثلاثية أعمال محفوظ الأولى في مرحلته التاريخية، حيث تفتح أسئلة عدة عن هويتها كمصرية فرعونية متساءلة عما حدث للمصريين المعاصرين كما يمثلهم بالنسبة إليها شخص كبرياء، إذ ترى أنهم فقدوا هويتهم كمجتمع ثقافي علمي منفتح إلى مجتمع صحراوي منغلق، لم يكتف بالانغلاق بل وقرر أن يبدد كل منجزه الحضاري متوجها إلى الصحراء بدلا من النيل.
وسؤال الهوية أيضا يبرز في شخصية كاتب الكاشف الذي يرفض مجتمع الكتّاب، لأنه لا يعبر عما يراه في فكرة الكاتب، ويرفض انتماءه لمجتمع اللقطاء بتناسيه لأنه ينتمي لذلك المجتمع، وبالتالي هو يرفض المجتمع الذكوري بكل ما فيه لنه يمثل السلطة الأبوية لأب لا يعرف عنه شيئا، ويعمل لا وعيه على نفيه بحيث لا يشغل نفسه بالسؤال، وإن لم يستطع أن يمنع نفسه عن طرح الاسئلة عن الأب كما صوره في نص روايته عبر شخصية البطل كبرياء. ولعل رهابه من الخروج إلى المجتمع الخارجي خارج بيته هو حيلة نفسية دفاعية توازي بين المجتمع الخارجي وسلطة الأب بكاملها.
وهنا يمكن أيضا التقاط العديد من الصراعات الأوديبية التي يمكن لمنهج علم النفس الأدبي أن يحللها من خلال العلاقة المعقدة بين كبرياء وابيه المجهول من جهة، وبينه وبين أمه، التي تقرر أن تترك الشقة التي تعيش فيها معه وتقضي السنوات الثلاث الأخيرة من حياتها في دار المسنسن كأنها تعاقب بذلك نفسها على أنها تركت ابنها في ملجأ خلال الثلاث سنوات الأولى من عمره.
كما يمكن أن نلاحظ الملمح الأوديبي أيضا، او بالأدق ملمح عقدة إليكترا في العلاقة شديدة التعقيد التي تجمع نجوى بأمها.
وتعرج هذه الرواية، متعددة الصور والأنماط، على الكثير من القضايا الأخرى عبر اسئلة الأبطال، فتثير قضية المرأة ووضعها في المجتمع والفارق بين الفتاة اليوم وبين نظيرتها في الأجيال القديمة وبين نظيرتها المعاصرة اليوم في الغرب، عبر نماذج فاطيما صديقة نجوى المتحررة من كل قيد اخلاقي اجتماعي، وهديل المتحررة العقلانية، التي تضبط مشاعرها مقابل تحرر عقلها، ورادوبيس، التي تقدم نموذج المرأة المصرية القديمة، ثم جيسيكا عشيقة كاتب الكاشف التي تقدم نموذجا للمرأة الجديدة ذات الأصول الشرقية التي تتحلى بثقافة غربية قلبا وقالبا. كما يستعيد فرغلي في النص عددا من نماذج المرأة كما قدمتها أعمال نجيب محفوظ بدأ بأمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد، وزينات زوجة أحد فتوات الحرافيش، بالأحرى هي الوحيدة التي عاشت مع حفيد من أحفاد عاشور الناجي بلا زواج، وزينب دياب بطلة الكرنك الخارجة من طبقة شعبية إلى مجتمع الشباب اليساري في الجامعة وارتدادها تحت ضغط التعذيب، كأنه يؤكد بذلك، وفقا لرؤية فرغلي في النص، أن تحررها المزعوم ليس أصيلا وأن الطبقة الشعبية يصعب عليها الاندماج في فكرة التحرر بشكل كامل. وكذلك نموذج حميدة الذي قدمه محفوظ في زقاق المدق للفتاة الشعبية التي تثور على طبقتها فتفعل أي شيء لجل الخروج من أسر القيود الاجتماعية والمادية فتقع في أسر الدعارة متصورة أنها بذلك قد تحررت بينما هي تقع أسيرة لنموذج من سجن ىخر لا تدرك معناه إلا في وقت لاحق.
لذلك يرفض إبراهيم فرغلي فكرة النقاد عن الرمزية في التعامل مع نصوص محفوظ لأنه يرى أنهم تعاملوا مع الرموز بسطحية ويستدل على ذلك بان النقاد الذين وضعوا من حميدة معادلا لمصر، لم يقرأوا شخصيتها بعناية وانها لا تقدم سوى ما تعكسه هي كنموذج من نماذج الرواية الواقعية لامرأة من الطبقة الكادحة حين ترى في المادة فقط مقياسا للترقي الاجتماعي دون مراعاة للجانب القيمي.
ولأن هذه الموضعات جميعا متشعبة ومتعددة، لكنها استطاعت أن تعبر عن التعقيد الشديد الذي يسم حياتنا المعاصرة اليوم، حيث تلتبس العلاقات الأسرية والعلاقات العاطفية، من جهة، كما تتعقد علاقة الفرد بالمجتمع وبالسلطة (سواء الابوية أو الاجتماعية) والرواية تقدم نموذجا مهما لنقد السلطة الأبوية الذكورية وما استقر بسببها من تعقيدات وربما لذلك تتحول بعض الشخصيات التي يستخدمها من روايات محفوظ خصوصا السيد أحمد عبد الجواد والجبلاوي إلى أنماط تبدو مزيفة، وهو يناقش الفارق بين هذه الشخصيات كشخصيات ديكتاتورية لدى محفوظ بما فيها شخصية الجد في قلب الليل، مع نموذج الجد رفيق فهمي في رواية كاتب الكاشف كنموذج ليبرالي منفتح ومتسامح وليبرالي في تعامله مع حفيده.
الشكل والمضمون
إن هذا التعقد قد وجد لدى فرغلي قماشة روائية تحاول استيعابه عبر تشتيت السرد باستخدام أصوات عديدة منها أصوات الأبطال، ومنها أصوات قرائن هذه الاصوات، وبتوزيع الحكايات بحيث يمكن رؤيتها من أكثر من وجهة نظر، وأيضا بتداخل شخصيات محفوظ مع أبطال أبناء الجبلاوي والعمل معا في نص يتقدم للأمام، كأنهم يتفقون جميعا على فكرة ضرورة الحداثة في المجتمع كحل وحيد والعودة لجذور النهضة المصرية القديمة كحل ضروري لاستعادة قةتهم كمجتمع.
وهذا التعقد الشديد بين سعي الأفراد ممن يبتغون الخلاص ويمثلهم كبرياء لاستخلاص الحداثة من الماضي دون بديلا للأصولية لافكرية والدينية، يعبر عنه الشكل من خلال التداخل بين الأزمنة خاصة في الجزء الرابع من الرواية، الذي ينتهي بمفاجأة تحيلنا على بداية الرواية مرة أخرى في حيلة فنية بالغة الذكاء تجعل الماضي، أذا نجحنا في قراءته جيدا، هو سبيلنا للمستقبل.
هذه رواية فريدة في بناها وفي تعقدها وتحتمل الكثير من القراءات والمناهج النقدية، وتعد إضافة مهمة إلى تاريخ السرد العربي المعاصر، لأنها توازن بين الحداثة والكلاسيكية بمهارة، وهي سمة ما بعد حداثية بامتياز. وهو ما جعل الدكتور جابر عصفور يرى فيها رواية تحتاج لدوات نقدية ما بعد حداثية لقرائتها على المستوى الذي يليق بحداثتها، واظنني اتفق معه.