محمد شعير
نجيب محفوظ بطل الظلّ في روايته الجديدة «أبناء الجبلاوي» هو العنوان الذي رافق الترجمة الإنكليزيّة لـ«أولاد حارتنا». وها هو كاتب مصري شاب يستعيره لروايته. الصحافي الخارج من رحم جيل التسعينيات، يسائل تقنيات الرواية بين حدود الواقع وإملاءات الخيال.
عمله هنا يطمح إلى تطبيق أمثولة ساراماغو: التأمّل العميق بالحياة من دون مباشرة محمد شعير في الثالثة عشرة من عمره، قرأ إبراهيم فرغلي (1967) نجيب محفوظ. طيلة أربعة أعوام، قرأ كلَّ ما كتبه صاحب «الثلاثية»، ليقرِّر أنّه سيكون كاتباً. بالفعل، كتب أوَّل قصصه على النمط المحفوظي. ثم مزَّق هذه القصص لاحقاً، من دون أن يتخلّص من تأثيرات صاحب نوبل. فالأمر غاية في الصعوبة، وخصوصاً «عندما تقرأه في هذا العمر الصغير»، يقول. «هو ليس روائياً مدهشاً فقط بل فيلسوف عظيم، وبنّاء مدهش، وصاحب لغة كبيرة أيضاً».<1–break–> يعمل فرغلي في الصحافة الأدبيَّة منذ التسعينيات. بعد ثلاثة روايات «كهف الفراشات» (1998) و«ابتسامات القديسين» (2004) و«جنية في قارورة» (2007)، ومجموعتين قصصيتين هما «باتجاه المآقي» (1997) و«أشباح الحواس» (2001)، ها هو يعود إلى محفوظ، مستعيداً في روايته الجديدة «أبناء الجبلاوي» (دار العين) العالم الروائي للأديب العالمي (راجع البرواز أدناه). ليس النصّ فقط ما هو مستوحى من أعمال محفوظ، بل عنوان الرواية أيضاً. «أبناء الجبلاوي» هو العنوان الذي اختاره المترجم الإنكليزي لرواية «أولاد حارتنا». اختيار العنوان جاء مصادفةً، إذ لا علاقة للرواية ـــــ كما يقول فرغلي ـــــ بـ«أولاد حارتنا». النصُّ «يستعيد محفوظ عموماً، ويناقش مفهوم الرواية بطريقة فنيّة، لهذا وضعت «سيرة رواية» عنواناً فرعياً على الغلاف». يضيف: ««أبناء الجبلاوي» عنوان يعبِّر عن الرواية كلّها. إنّها رواية روايات، وحرتُ طويلاً في إيجاد عنوان يعبِّر عنها». لكن لماذا محفوظ تحديداً؟ يجيب: «أدركت أن أسطورة محفوظ شفاهيّة مثل كلّ أساطيرنا. يدّعي من شاهدوا أفلامه أنّهم قرأوه، رغم أن الأفلام تشويه حقيقي لنصوصه، مع بعض الاستثناءات. كتّاب جيلي يتّهمون محفوظ بالكلاسيكية، وهم لم يقرأوا له سوى عمل أو اثنين. شخصياً، أعتقد أنّه لم يُقرأ نقدياً جديّاً حتى الآن». يضحك فرغلي في سرّه من «التفسيرات الساذجة عن رمزيّة شخصيّات محفوظ». برأيه، فإنّ اتهام صاحب «الثلاثيّة» بالواقعية «ليس حقيقياً، لأنّ الكاتب الذي يُنطِق الحرافيش وأبناء الحواري الشعبيّة بالفصحى، هو كاتب غير واقعي بامتياز، وروائي يدرك تماماً أنّ الفنّ هو خلق واقع فني مواز، وليس نقلاً للواقع». لكنّ فرغلي الذي يحاكم مفاهيم الواقعية، يشير في متن نصِّه إلى «موت الخيال». الرواية التي تخطّها شخصيّة كاتب الكاشف في «أبناء الجبلاوي» تصبح حقيقة. أليس هذا تناقضاً؟ القضيّة «معقدة»، يوضح: «هناك خلط بين الرواية ونقل الواقع. فالأخير مجرّد تسجيل سطحي مباشر. أما الواقعيّة في الأدب فمسألة مختلفة». ورواية محفوظ «زقاق المدق» خير مثال على هذا برأيه. «في الواقع لا تزيد مساحة الزقاق على أربعة أمتار، لكنّ محفوظ صنع منها عالماً كبيراً جداً». يتريّث فرغلي قبل أن يضيف: «برأيي عالم جيل التسعينيات الروائي ضيّق وقليل الخيال. الخيال هو عماد الكتابة، وهذا ما حاولت مناقشته في النص الروائي، علماً بأنّ الكاتب يظن خياله جانحاً أحياناً، لكنّه بين حين وآخر يصادف ما هو أغرب من الخيال. هذه المفارقة هي ما كنت أحاول التعبير عنه في الرواية». بالحديث عن جيل التسعينيات، يقول صاحب «جنيّة في قارورة»: «إذا كانت هناك سمة أساسية تجمع هذا الجيل هي أنَّه ضد الواقعية. مصطفى ذكري مثلاً برز في اختلاق مناطق اللاوعي والأجواء الكابوسية، وعُرفت منصورة عز الدين في مجال الفانتازيا وإدخال السحرية الواقعية، وطارق إمام وياسر عبد اللطيف عرفا في كتابة الذاكرة فنياً وتخييلياً». في الرواية، لم يتخلّص فرغلي من ضغط الراهن على نصّه، ولم يصل بعد إلى الكتابة عن الجنس من دون الخضوع لسلطة النقّاد الباحثين عمّا إذا كان الجنس «موظفاً بطريقة فنية أم لا». «لست من أنصار الكتابة من أجل الكتابة» يقول، مضيفاً «طموحي يقارب طموح ساراماغو في الاتكاء على الكتابة، للدعوة إلى تأمّلات عميقة جداً في الحياة والمجتمع، من دون أي شبهة مباشرة. هذا هو مفهومي للفنّ ولكيفية كتابة نصّ يعيش طويلاً. ساراماغو في رأيي هو النموذج الأحدث لطموح دوستويفسكي ـــــ كبير الروائيين بلا منازع ـــــ على عكس نماذج بروست وبورخيس وجويس». لهذا السبب هو ضد فلسفة الـBest Seller (أفضل المبيعات) التي تعتمدها دور كثيرة معياراً وحيداً للنشر. لم يسع إلى كتابة «أبناء الجبلاوي» على هذا المنوال، مع أنّ التشويق إحدى تقنياتها الأساسية. «هذه هي المعادلة الصعبة التي كنت أريد تحقيقها منذ البداية: عمل مشوّق، لكنَّه عميق. هذا ما يصنع روايات ذات شعبية كبيرة في الغرب. تلك الشعبيّة لا تتأتّى من الخفة، بل من العمق، كما في رواية «اسم الوردة» للإيطالي أومبرتو إيكو و«العطر» للألماني باتريك سوسكيند». «أبناء الجبلاوي» ليست «بيست سيلر» يوضح كاتبها. «إنَّها رواية معرفية بشكل ما. رواية أصوات، ورواية تناص، ورواية متاهة روائيّة، ورواية أزمنة، وطموحها كبير يستوعب الحداثي والميلودرامي معاً. هذا كلّه لا يحبّذه قراء البيست سيلر». هذا هو طموحه، لكن كيف جاءت النتيجة؟ «أزعم أنني نجحت»، يقول إبراهيم فرغلي في انتظار حكم القارئ.