***
رقصة
لو أنني
حينما تنام زوجتي،
والطفلُ وكاثلين
ينامان،
والشمس تصير قرصا أبيض
في الضباب الحريري
فوق الأشجار الساطعة
لو أنني أكون في غرفتي الشمالية
أرقص عاريا، جامحا،
قبالة مرآتي
ملوِّحا بقميصي من حول رأسي
ومغنيا لنفسي في صوت خفيض:
“أنا وحيد، وحيد،
ولدت للوحدة
وليس خيرا لي من الوحدة”.
لو أنني أرنو بإعجاب
إلى وجهي، إلى كتفيّ
وذراعيّ
إلى كفلي إلى خصري
ومن خلفي الستائر الصفراء مسدلة
فمن سيقول إني لست
أسعد عبقري
في محيط الشقة؟
***
تحفل موسوعة جينيس للأرقام القياسية بغير وليم كارلوس ويليامز. تحفل بالذين أرادوا أفعل التفضيل على مستوى أكبر من شقة، أو بيت، أو شارع. أرادوها على مستوى العالم وربما التاريخ. وكلَّ بضع سنوات، تجد شعوبا وقد خرجت إلى المطار الوطني تستقبل عائدا بالميدالية الأولمبية متباهين بأقدر أهل الأرض على إلقاء القرص، أو أسرع فتيات الأرض جريا …
وفي موسوعة جينيس أطول البشر شاربا، وأطولهم قامة، وأقصرهم قامة أيضا، وأكثرهم تدخينا، وأقلهم نوما. وليس بينهم وليم كارلوس وليمز.
ومع ذلك، وليم كارلوس وليمز فيما يبدو كان الأكبر طموحا بين جميع هؤلاء.
لقد أراد الرجل أن تنام زوجته، وينام ابنه، وتنام كاثلين، وينفرد بنفسه في غرفته ليرقص عاريا، وسعيدا. وهذا، لعمري، حلم مستحيل.
إنما يسمح العالم لنا بأن نطيل شواربنا ما أردنا، أو نتعلم القفز من الجو إلى الأرض أو من الأرض ضد الجاذبية، قادر على التسامح مع هذه النزعات إلى تحدي القوانين، لكنه فيما يبدو لا يسمح لشاعر أن ينفرد بنفسه في غرفة ليرقص عاريا، أو يكتب قصيدة. غير راغب من ذلك إلا أن يجد سعادة يوهمنا أنها بسيطة. قد يبدو شيئا زهيدا للغاية أن يكون امرؤ هو الأسعد في شقته. ولكن حينما تكون سعادته هذه أكبر من سعادة شخص نائم آمن من كل ويلات العالم وهمومه، فلا بد أنها السعادة بألف التعريف ولامه.
***
تعالوا لا ندع انحيازنا للشعراء يغلب ما ينبغي أن نتحلى به من موضوعية تجاه كل قصيدة نقرؤها، ولنتساءل: ما المهم حقا في أن يرقص إنسان، عاريا كان أو غير عار، منفردا في غرفة؟ ما أهمية هذا للعالم، بحيث يكتبه شاعر في قصيدة، وتعيش هذه القصيدة عقودا، وتترجم، ويكتب عنها كلام تقتطعون الآن من عمركم وقتا لقراءته؟
للإجابة على هذا السؤال علينا أن نلجأ إلى شاعر آخر هو مولانا جلال الدين الرومي. الرومي المتصوف شيخ الطريقة الصوفية الشهيرة الذي لم يكن كذلك وحسب، فقد كان راقصا أيضا، بل إنه اخترع رقصة.
سَمَاع sama، ذلك هو اسم الرقصة التي ابتدعها الشاعر المتصوف، ويمكن لمن يجهلها منكم أن يراها في تسجيلات عديدة على موقع يوتيوب. ولكن ثمة شيئا ينقص هذه التسجيلات، أو أن فيها ما يزيد. سترون مجموعات من الناس في حلقة وقد ارتدوا ملابس فضفاضة وراحوا يدورون حول أنفسهم جميعا فتتسع ثيابهم من حولهم دوائر ودوامات. أما في البداية، فكان الرومي يرقصها منفردا. ويصعب أن نتصور الرومي في جنح الليل يؤدي هذه الرقصة وهو يسمع موسيقى يعزفها عازف أو عازفون. ولكنه مع ذلك سمى الرقصة “سماع”.
رقصة بالغة البساطة لا تقتضي من مؤديها إلا أن يدور حول نفسه، وأن يظل يدور حول نفسه، وفي ثنايا ذلك يسمع، ربما خفقات قلبه، ربما صوت لهاثه المتسارع، ربما صوت جسمه هذا في البداية، ولكنه بعد حين لا بد سيسمع ما هو أندر، ربما يسمع ما لا صوت له لولا هذه الرقصة. ربما يسمع صوت الشيء الذي يدور حوله طول الوقت، ربما السماع هنا لا يكون إلا للنفس، أو لما هو أعلى منها وأسمى.
عاريا، وأمام مرآة، وراقصا أيضا. العري والمرآة هما أوضح الفوارق بين وليم كارلوس وليمز ومولانا جلال الدين الرومي. ولكنهما يشتركان في الرقص، وفي العزلة، وفي كونهما معا طريقا إلى ملاقاة ما لا تمكن ملاقاته في هذا العالم الصاخب.
لكن الأمر قد لا يكون كذلك بالضبط عند وليمز.
القصيدة كلها سؤال واحد: إذا أنا رقصت هذه الرقصة، وغنيت هذه الأغنية، فمن ذلك الذي لن يفترض أنني سعيد؟ ليست القصيدة عن السعادة المنشودة، أو الخفة، أو حرية الرقص، إنما هي ربما عن تصورات الآخرين الثابتة وأحاكمهم النهائية على كل شيء، عن ثقتهم بأن البكاء دليل على الحزن، والضحك دليل على السعادة، عن غفلتهم أن الرقصة قد لا تعني أي شيء آخر غير الرقصة، ربما ليست القصيدة إلا عن أعين الآخرين التي لا يروننا إلا بها، فهم لا يروننا، ربما القصيدة عن العبقري الذي ما هو بعبقري إلا لأنه في غنى عن اعتراف أي أحد بعبقريته، عن العبقري الذي ما هو بعبقري إلا لأن هذه هي أغنيته:
أنا وحيد، وحيد،
ولدت للوحدة
وليس خيرا لي من الوحدة.