هذا الكتاب – بمضمونه الثري- يُعتبر إضافة نوعية متميزة لأرشيف تاريخ الحضارة الإنسانية السعودية المعاصرة، إذ أنه بتسليطه الضوء على أكثر من عشرين شخصية مؤثرة في الماضي والحاضر السعودي على مدى مائة عام من تاريخه (أحمد السباعي، حمزة شحاتة، عبدالله محمد الخليفي، حسن صيرفي، عبدالله عبدالجبار، غازي علي، عبدالله الجفري، عبدالحليم رضوي، طلال مداح، صفيه بن زقر، ابراهيم مفتاح، فاتنة أمين شاكر، ماجد الشبل، عبدالعزيز الحماد، محمد العلي، ابتسام لطفي، عبدالقادر طاش، سعيد السريحي، عبدالرحمن المريخي، فايز أبا، بكر الشدي، عبده خال، لمياء باعشن، وزينب غاصب) يقدم للجيل السعودي المثقف، الذي يرفض ثقافة (البرمجة العقلية)، ويرفض الانتماء للثقافة المجتمعية النمطية، نماذجًا لشخصيّات حُرة الروح، تستحق أن تكون قدوة لكفاحه المجتمعي، والإنساني، والفكري، والإبداعي. يقتبس من حكايات كفاحها وقودًا معنويًا لخطواته فيشجع ترددها، ويؤكد على صحة وجهتها.
عوامل انسانية مشتركة:
في رحلة توغلنا بين صفحات الكتاب وحكاياته الممتعة نكتشف أن الإنسان هو الإنسان بما يملكه من روح وكيان ووجدان مهما تغير اسمه ورسمه، ومهما بعدت المسافة بين المكان أو الزمان، فالظروف العائلية أو المادية على تنوعها واختلافها لا تصنع مستقبله قدر ما تصنعه المعرفة والشغف إلى تقديم شيء جديد لهذا العالم، فبين تلك الشخصيات المكافحة الملهمة من بدأ من الصفر، ومنها من بدأ تحت الصفر ليتجاوزه وينتصر على عقباته. كما نلاحظ أن تلك الشخصيات – على اختلاف مشاربها وتوجهاتها الإنسانية، أو الدينية، أو الأدبية، أو الفنية؛ تجمع بين صفات معنوية طبعت بصماتها على كيانها فميزتها بين بقية الناس. منها الروح التواقة للكمال قدر المستطاع، والأحاسيس المرهفة، والنفس الأبية العزيزة التي لا تقبل الضيم أو النفاق، والشغف تجاه المعرفة والسعي في طلبها من كل طريق، والشعور بالغربة الداخلية الموجعة تجاه ما يحدث في المجتمع من أخطاء، وعدم السماح للعادات والتقاليد المجتمعية المتجمدة أن تحرمهم لذة تحقيق أحلامهم الكبيرة في بيئة مجتمعية متشددة ترفض التجديد، أي أن في أعماق كل منهم “عجينة طين لإنسانٍ حُر”.
أرواح تهزم التشدد!
من أهم ما يلفت بصيرة القارئ في السِّيَر التي انتقاها الكتاب هي أن الغالبية العظمى منها كافحت لتحويل “أحلامها” التنويرية إلى “واقع” يكسر الجهل ويقهر وطأة الرجعية والتخلف، فشيخ المؤرخين السعوديين “أحمد السباعي” ناضل في سبيل إنشاء أول مسرح سعودي في مكة المكرمة، ولكن “جاء الأمر بإقفال هذا المسرح قبل افتتاحه بيوم واحد، بسبب توجس وخوف التقليديين وشيوخ الدين آنذاك من تحوله لملهى يختلط فيه النساء بالرجال… صــ 24″، وخاض المزيد من المعارك الشرسة مع التقليديين في سبيل فتح أبواب تعليم المرأة في السعودية لأنهم كانوا يرون في تعليمها “فسادًا لأخلاقها وإسقاطًا لشرفها وتمردًا على رجلها… صــ 26″، لكن إصراره وجهوده الكبيرة انتصرت على غبار التخلف لتنال المرأة هذا الحق بقرار حكومي رسمي عام 1959م.
أما الفيلسوف والشاعر السعودي “حمزة شحاتة” فلم يكن يقتنع “بتلك الإجابات المعلّبة الجاهزة وبعضها مغلفة كثيرًا بسولفان الفتاوى الدينية؛ والتي بدأت تجد طريقها إلى دكاكين الثقافة بوطنة آنذاك؛ لتصبح بعدها بضاعة رائجة، تلتهمها عقول الناس كوجبات سريعة في حياتهم اليومية دون تمحيص! بسبب بلادة وخمول وكسل عقلي!… صــ 47″، بل كان يغوص في عالم الفكر ليشق طريقه الخاص في رحلة بحثه للإجابة عن تساؤلات عقله الكثيرة، ومن ثم محاولة النهوض بالمجتمع من عثرات التخلف والتقليدية والارتقاء بكيانه على الصعيد الفكري والمعرفي.. وقس على هذين المثالين بقية شخصيات الكتاب دون استثناءات.
نساء صنعن أقدارهن..
وإذا كان ثمن الكفاح على هذه الأرض كبيرًا جدًا بالنسبة للرجال؛ فإنه أكبر كثيرًا حين تكون المكافحة امرأة تعيش في بيئة لازالت تصطنع العراقيل تلو العراقيل لحرمانها من تحقيق طموحاتها وتحقيق أحلامها، وكم أجاد هذا الكتاب في تقديم صور من كفاح نساء سعوديات تحدين الواقع لتحقيق ما يشبه المستحيل. ومن بين الشخصيات النسائية السعودية التي سلط الكتاب ضوء اهتمامه عليها شخصية الإعلامية السعودية القديرة “فاتنة أمين شاكر”، أول رئيسة تحرير سعودية، وأول صوت نسائي سعودي يُبث عبر أثير الإذاعة، ومن أوائل الفتيات السعوديات اللواتي تعلمن في مدارس نظامية خارج السعودية قبل أن تبدأ داخلها، وأوائل من تعلمن تعليمًا جامعيًا – خارج السعودية- في فترة كانت فتيات سعوديات كثيرات خلالها لا ينعمن بالتعليم المدرسي، عدا عن رحلاتها التي أضافت إلى تجربتها خصوبة معرفية وإنسانية ضاعفت من كنوز شخصيتها. الحوار الذي دار بين المؤلفة وبين الشخصية كان “فاتنًا” بحق إلى الحد الذي يستحق أن يكتب عنه في رؤية تحليلية منفردة لحكاية حياة شخصية كان جزاء ما قدمته لـ”صورة المرأة السعودية” أمام العالم هو الشتم والتفكير والمحاربة والشائعات المغرضة، وعن هذا تقول: “تم شتمي وتكفيري من قبل بعض المتشددين دينيًا في السعودية، حتى أن أحدهم أخرج كتابًا في ذلك؛ ووضعني كنموذج من النماذج الخارجة عن الشريعة وفق حساباته الخاصة لها، وكان يُدرّس لطالبات الدراسات الإسلامية في الجامعة… صـ 219”.. ويبدو أن نضج تلك الشخصية الاستثنائية كان من أهم أسباب مكافحة حضورها الاجتماعي على أكثر من صعيد، ذاك النوع من النضج الذي تسعى بعض المنظومات لقمعه في مهده في أشكال التعليم “المعلبة” التي تقدم للفتيات، ولذا أصرت على طلب التقاعد المبكر من وظيفتها كأستاذة جامعية، والسبب في ذلك كما قالت: ” حالة التدهور العام في التعليم الجامعي، بحيث أصبح همه الأساسي بالفعل تخريج أفواج من حاملات شهادات مفرغة من القدرات الفعلية، وللأسف يبدو أن ذلك كان مقصودًا، حيث الخوف كل الخوف من تطور فكر الفتاة ونضوج شخصيتها… صــ 221″.. وبحكايتها التي تجمع بين صور البهجة والسلام والأمل والألم نغادر صفحات الجزء الأول من الكتاب، لنغوص بين سطور جزئه الثاني لنكتشف عالمًا جديدًا نعيش أيامه مع شخصيات قدمت الكثير، واستحقت جهودها أكثر من كثير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة سعودية